لا يبدو العمل الشعري المعنون «شيرازيات بغداد» كما سماه مؤلفه وجيه عباس في تظهيره على الغلاف الثاني، على إنه محاولة لاستكناه القدرة الشعرية الخاصة بالشاعر وجيه، أو إنه محاولة لاستدراج الشاعر حافظ الشيرازي المعروف بقصائده الغزلية، التي تتحدث عن الحب والجمال، والتي ترجمت إلى أغلب لغات العالم، بل إنها جاءت لتوضيح أهمية الحب في الحياة المعاصرة، التي غاب عنها وحلّ معها الحروب والقتل والضغائن والعلاقات الهشة، وغياب التجارب العرفانية في الزمن الجديد، زمن التقنيات الحديثة، إضافة إلى إنها محاولة للاستفراد بالقدرة الشعرية، والمطاولة الجميلة في الكتابة الشعرية بهذا النفس الطويل، فضلا عن التنقّل بين البحور الشعرية، والأشكال أيضا في طريقة تبويب القصائد بطريقتها العمودية، وهو ما يميز الملمح الخاص بطول النفس، لأن ما هو معروف إن القصيدة الشعرية، سواء منها العمودية أو التفعيلة، أو النثرية، لا يمكن أن تكون بهذا الحجم، لأنها بحاجةٍ إلى عملية نفس طويلة، ليس فقط في التدوين الطويل، بل المخيلة الواسعة التي يمكن من خلالها استيعاب العديد من الأفكار المترادفة والمتلاصقة والمتلازمة والمتنافرة، لأنها أي مثل هذه القصائد لا تكتب في جلسةٍ واحد، بل تحتاج ليس إلى شهور أو عامٍ أو عامين، بل إلى عدّة أعوامٍ، وهو ما يمكن الباحث إذا ما أراد الغوص عميقا في دلائل الأبيات الشعرية وتلقّيها المعرفي، في التوصّل إلى عمق التغيرات الفكرية والمخيالية، وحتى التدوينية في هذا الكتاب الضخم.
في هذا العمل الشعري «شيرازيات بغداد» الصادر عن دار الرافدين عام 2017 يصعب الإمساك بالبنية الكتابية للشاعر والقدرة التدوينية لهذا القصائد، أو الأبيات الشعرية، لأنها قد لا تكون متفرّدة، لكنها ليست قديمة، أو إنها نابعة من محاولة التناص مع جهةٍ أو محاولة التسلّق على أغصان ما تمت كتابته من قبل الشيرازي ذاته، الذي صار صيته عالميا، لأن ما يهمّ الشاعر ليس هذه الفقرة من العملية التدوينية، بقدر ما هي معالجة ذاتية وعرفانية وحتى صوفية، ولا تخلو من الجانب السياسي والاجتماعي أيضا في تلك الصورة، التي ابتعد فيها الشاعر وجيه عمّا يعرف عنه بالسخرية، وكأنه هنا ارتدى ثوب العشق للحرف والحياة والإيمان.
لهذا فإنه يمكن الإمساك بعدد من العتبات التي توصل إلى المعنى في هذا العمل الشعري الكبير.. التي من خلالها نتمكّن من معرفة القدرة التدوينية للشاعر من جهة، وللعمل ذاته من جهة أخرى.. فالعتبة الكبرى التي أُطلق عليها بوابة المدينة، وهي العنوان الرئيس نجده محاولة أولى لوجود منطقة انفكاك ما بين شيرازيات حافظ، وهذه الشيرازيات على إنها خاصة بالشاعر، وخاصة ببغداد بما فيها وعليها وإليها ومنها، وهي محاولة أيضا تحمل رابطين مهمين.. الأول هو رابط القوّة الشعرية والهدف الشعري وأسبابه. والثاني هو فكّ ارتباط المعنى الأول العالي المتصلّ بتلك الشيرازيات، جعلها خاصة ببغداد ومن ثم الدخول إلى عوالم القصائد.. وإذا ما أخذنا العتبة الثانية المتكونة من ثلاثة أفرع.. الأولى المقدمة التي كانت تحت عنوان «عن حافظ الشيرازي» التي حملت مفاتيح التقارب والتوضيح والاستدلال للمتلقي، الذي لا يعرف من هو حافظ، أو على الأقل لا يعرف حياته..يصعب الإمساك بالبنية الكتابية للشاعر والقدرة التدوينية لهذا القصائد، أو الأبيات الشعرية، لأنها قد لا تكون متفرّدة، لكنها ليست قديمة، أو إنها نابعة من محاولة التناص مع جهةٍ أو محاولة التسلّق على أغصان ما تمت كتابته من قبل الشيرازي ذاته.
الثانية التي اختصت (عن مترجم الغزليات إبراهيم محمد الشواربي) والثالثة التي كانت تحمل روح الأسباب وأس الحجّة العالية ( لماذا أغاني شيراز لحافظ ؟).. لتكون هذه المقدمات الثلاث، المنصّة التي يمكن من خلالها الحفاظ على الرابطين اللذين ذكرتهما، واعتقد إنها عتبة، وإن كانت معلوماتية، لكنها مهمة في طرح عمق الفكرة ذاتها التي جعلت الشاعر وجيه يذهب في هذا الاتجاه لإنتاج هذا العمل الشعري.
وإذا ما دخلنا إلى العالم الشعري لهذا العمل فإننا سنجد أمامنا عتبة النصوص الرباعية التي اجتهد في صياغتها الشاعر، وهي عتبة عليا مهمة من عتبات النص الظاهرية للمتلقّي، بمعنى أن هذه الرباعيات هي المقابلة الأولى لرباعيات حافظ الشيرازي من جهة، وهي المرآة التي يمكن من خلالها معرفة القدرة التدوينية للشاعر وجيه في المقابلة مع الأصل في الرباعيات، التي قد لا تتطلّب قراءة الشيرازيات الأصلية من قبل المتلقّي، خاصة أن الكثير من الرباعيات الحافظية (لنفصل بين شيرازيات بغداد وشيرازيات حافظ) التي تتمحور عن الغزل والتصوف والعرفانيات، كما أسلفنا، وهي طريقة قد تعطي ملمحا للزمان الذي عاش فيه هذا الشاعر العرفاني إن جاز الوصف والتوصيف.. ولهذا فإن الرباعيات التي تبدا بغزل 1 وتنتهي بغزل 496 وكلّ غزلٍ يحتوي على عدد من الرباعيات، سواء ثلاثية أو رباعية، وحتى خماسية، أو على شكل قصيدة كاملة مكونة من 14 بيتا شعريا كما في غزل 493 .. وكذلك يمكن معرفة عتبة دلالة (كلمة غزل) وترقيمها، وكأنها محاولة لرسم الطريق الشعري الذي اختصه الشاعر وجيه عباس.. كما يمكن للمتلقي أن يلاحظ عتبة الشكل التدويني الذي ميّز هذه الغزليات، التي انطلقت في روحها من عملية التفكيك، لما هو كائن ما بين الغزل (العشق) الغزل (الوطن) وما يتّصل به، كذلك عتبة الوزن الشعري، الذي ميّز هذا العمل الشعري.. فالشكل كان حاضرا في عملية التوزيع، سواء بالتدوين الطولي لشطري البيت الشعري ليكون رباعيا، أو بالأفقي الذي يعطي رنّةً في التلقّي الشعري، حين يبدأ المتلقّي بالقراءة بصوت مرتفع.. أو حتى تلك التي جعلها ثلاثية الشكل وهي رباعية، حين مزج البيت الأخير في صدره وعجزه، أو يرتب تدوينيا الرباعية على شكل شطرين أفقيا، وشطرين عموديا.. ولنأخذ مثالا
ريح الصبا قولي لهذا الغزال
قد قلت يا أرعن ما لا يقال
وبائع السكر هذا الذي
أدعو له بالعمر ملّ السؤال
٭ ٭ ٭
أيتها الوردة كم غرنا
حسن أجزناه لأهل النظر
لما أجزنا المكر في صيدنا
أفلت منك طائري في الحذر
٭ ٭ ٭
ذاب شمع فتلاقى ثم زدناه احترافا
كنت ذا القرنين في مرآته، أبكي اشتياقا
هذا العمل الشعري الضخم الذي يعد الأكبر في عدد أبياته الشعرية، كما يقول الشاعر ذاته، تحسب له ولقدرته على المطاولة في الكتابة والمحافظة على روح المقارنة من جهة وقدرته على تفعيل المخيلة الشعرية أيضا، وتلك هي المقدرة على الإتيان بما لا يؤتى به من الآخرين.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”