نشرت عام 1960، في مجلة الآداب
قضيّة الشعر الحديث قضيّة حيوية نستطيع أن نعتبرها، بحكم وضعها الراهن في البلاد العربيّة، أشدّ قضايا الفنون المعاصرة إثارةً وأعنفها جلبًا للنقاش والخصومة. فبينما يحتدم الأخذ والردّ حول الحركات الجديدة في الشعر العربيّ، وحول كلّ خطوة يخطوها الشاعر الحديث في محاولته الواعية أن يطوّر الشعر فنّيًّا وينهض به إلى المستوى العالميّ، تسير المحاولات الكثيرة في الرسم والنحت في طريقها الميمون لا تجد من يضطهدها ويقاوم سيرها. على الرغم من أنّ الموسيقى فنّ قديم عند العرب قِدَمِ الشعر، إلّا أنّ التجارب الّتي يقوم بها الموسيقيّون لتطوير الفنّ الموسيقيّ وتطعيمه بنكهات غير عربيّة وإطلاقه من قيود ربع النغم والرتابة المضنية والتكرار وغير ذلك، هذه التجارب نالت إجمالًا، رغم المصاعب الكثيرة الّتي واجهتها، إعجاب الجمهور المعاصر وإكباره وتدليله، وبقي الشعر الحديث وحده محطّ الجدل والمشاحنات وتنبّؤات الزوال السريع.
في أصل الجدل
الحقيقة أنّ السبب في ذلك متعدّد الجوانب، فهو يقع أوّلًا في أنّ للشعر منزلة كبرى عند أمّتنا العربيّة، ويحتلّ من الأدب العربيّ مكان الصدارة؛ فهو فنّ العرب الأوّل، أحبّوه وآثروه وردّدوه وأقامو له الأندية منذ الجاهليّة حتّى اليوم. فلا عجب إذن أن نرى الفرد العربيّ يشعر بأنّ قضيّة الشعر تخصّه شخصيًّا، وأنّ عليه أن يسرع فيعطي رأيه فيها ويتدخّل في كلّ المشكلات الّتي تطرحها التطوّرات الشعريّة المتتابعة. السبب الثاني الّذي عقّد مشكلة الشعر الحديث أنّ القارئ المتأدّب قد نشأ يعتنق آراءً مسبقة عن الشعر وماهيّته وأوصافه توجّه كلّ أحكامه، وتقف سدًّا بينه وبين قدرته الكامنة على التذوّق والتعرّف على وجه الفنّ الأصيل، مهما كانت الصورة الّتي أُفْرِغَ فيها.
قد يكون ثمّة من يُؤْثِرُ على شعرنا الحديث الشعر الجيّد الّذي ينهج النهج القديم، وقد ينظر إلى حركة الشعر الحديث على أنّها حركة دخيلة وليست منبثقة عنه وفق سنّة التطوّر الطبيعيّ للفنون.
لكنّنا، نحن “الشعراء الحديثين”، أصحاب قضيّة نؤمن بها إيمانًا عميقًا ولا نستطيع أن نسبق فنقول “إنّنا قد نكون مخطئين”. فإنّ هذا يصلح قوله عندما يقدّم الإنسان وجهة نظر، لا عندما يعرض قضيّة تبنّاها مدى العمر. عليه فإنّه لا يسعني أن أقول لمن لا يؤمن بالحركة الحديثة إلّا أن يصبر ويترفّق في حكمه، فأنا مؤمنة بالشعر الحديث ومستقبله، وأجد لزامًا عليّ أن أدعو له وأدافع عنه وألحّ على مزاياه وشروطه وأصالته.
فما هي المزايا المهمّة الّتي يعتنقها الشعر الحديث؟ إنّ الجمهور القارئ عامّة، يخلط بين الشعر الحديث والشعر الحرّ، فيعتقد أنّهما شيء واحد في جميع الأحوال، وأنّ التحرّر من وزن الشطرين الموحّد القافية هو في كنهه الشعر الحديث الّذي نتحدّث عنه. الحقيقة أنّ في هذا شيئًا كثيرًا من جزئيّة النظر – فحركة الشعر الحديث تشتمل التجديد في جميع عناصر الشعر العربيّ، لا في عنصر الوزن وحده – فالشكل لا يتعدّى أن يكون ركنًا واحدًا من أركان متعدّدة تشكّل في مجموعها القطعة الشعريّة. إنّ الثورة الشعريّة شملت الشكل والمضمون ووحّدت بينهما؛ فقد حرّرت أوّلًا الشكل من قيود الشطريّة المتوازنة، محتفظة لنفسها بالحقّ في أن تعود إلى استعمالها متى شاءت، أي أنّها إذ انطلقت تخلق لنفسها إيقاعات جديدة، وتطوّر سبعة أوزان أو ثمانية من ستّة عشر وزنًا من الأوزان القديمة، متلاعبة في تفعيلاتها، إنّها إذ فعلت ذلك لم تحكم على الطريقة القديمة بالموت والانقراض، وإن كانت الحركة تؤمن أنّ الطريقة الحرّة هي أقرب للتعبير عن قلق الإنسان المعاصر وأكثر تلاؤمًا مع روح العصر. إنّ الشعر الحرّ هو الأسلوب الجديد الّذي أبدعه عصرنا، وكلّ عصر يبدع أسلوبه ما في ذلك من شكّ.
الثورة ضدّ الرتابة الشعريّة
عندما يصل الشعر لدى أيّة أمّة إلى دور التنميق والصناعة، وعندما يكسب لنفسه شكلًا مستقرًّا وقوانين راسخة في الأسلوب والتعبير، فذلك دليل على أنّ الأمّة قد دخلت في عصر هادئ يخيّم عليه الرخاء النسبيّ ولا تقضّ مضجعه كلّ الأسئلة الجارحة الّتي تسلّطت علينا في عصر ثورتنا. عندما يتركّز الشكل الشعريّ ويصبح نموذجًا مجمّدًا وتكون غاية الفنّان لا أن ينفعل مع الحيويّة المنضوية في عمليّة الخلق الفنّيّ، بل ضغط المضمون في نطاق شكل مقرّر سلفًا، تكون الأمّة قد دخلت لا في طور الرخاء والاطمئنان فحسب، بل تكون قد تعدّت ذلك إلى طور الجمود والاتّباعيّة السلبيّة، حيث تتوقّف قوى الخلق الجديدة عن الابتكار والتلهّف المتوتّر.
نحن اليوم في ثورة وقلق، حياتنا الاجتماعيّة في ثورة، كياننا السياسيّ في ثورة، لغتنا في ثورة، فكرنا ثائر وعواطفنا قلقة ثائرة، ولا بدّ أن يعكس الشعر عندنا توتّرات هذه الحياة الجديدة إذا كان شعرًا نابعًا من أعماق التجربة الإنسانيّة.
إلى جانب القالب الشعريّ، فقد حاولت الحركة تحرير جميع الخصائص الشعريّة الأخرى، فاشترطت أن يكون الأسلوب واللغة والعبارة ملائمة لهذا الزمن الّذي تصدر عنه، ومن البديهيّ أنّ هذا شرط من شروط الشعر الرفيع في كلّ مكان وزمان. هكذا انفصلت اللفظة والعبارة في الشعر الحديث إجمالًا عن إيماءاتها القديمة واستعملت كلاهما بمدلولهم المعاصر، ليتسنّى للغة الشعر الحديث أن تكون مشتقّة من اللغة المعاصرة الّتي شملت حياتنا واستطاعت أن تعبّر عن ضروراتنا وعن ترفنا وأحلامنا.
نجح الشاعر الحديث أيضًا في تحرير الموسيقى الشعريّة من آفّات حملتها عبر القرون – من الرتابة والرنين والجهوريّة، ونجح كذلك إلى حدّ كبير في تنقية الأسلوب من الحشو والتكرار الّذي لا فائدة منه – ثمّ عزف عن شعر المناسبات عزوفًا كلّيًّا، وعُنِيَ بالمعاناة الشخصيّة والتجربة والتجربة المكتملة. وقد حاول الشاعر الحديث في السنين العشر الماضية، عن وعي منه، أن يحرّر وجهة نظره من التفاهة والسطحيّة والمبالغة والجزئيّة والذاتيّة المنغلقة – وأن يحرّر عاطفته الشعريّة من الميوعة والتهافت والأحزان الرومانطيقيّة – وقد قامت الدعوة الجديدة توجّهه نحو حقيقة الإنسان، وتدعوه أن يجعل منها محور تجربته الشعريّة في وجوه حياته كلّها، في عظمته وضِعَتِهِ، في نزواته وانكماشاته، في حرّيّته وعبوديّته – وأن يتوجّه إلى الشعب فيستمدّ منه ومن مورورثه الحيّ مادّة شعره الأولى.
كانت حركة شاملة حيويّة، وكان شعرنا في أشدّ الحاجة إليها، وكنّا نحن في أشدّ الحاجة إليها. لولا أنّها قد عبّرت في توقيت مناسب عن حاجة فنّيّة حضاريّة، لما كُتِبَ لها النجاح الّذي حقّقته. لو راجعنا تاريخنا الشعريّ القريب في العقود الأربعة الماضية، لوجدناه يمرّ في مدارس فنّيّة سريعة متعاقبة دون أن يستكمل المزايا الكاملة للمدرسة الواحدة، ودون أن يستعدّ استعدادًا ملائمًا للمدرسة الجديدة. عكس التقبّل السريع لشتّى المدارس الفنّيّة الّتي عرفتها آداب الأمم الأخرى أمرين على غاية من الأهمّيّة؛ أوّلًا، تزايد الثقافة في المجتمع العربيّ وتطوّر الشخصيّة العربيّة إزاء استقائها من منابع الثقافة المتعدّدة. وعكس ثانيًا أمرًا لا أظنّ أنّ النقد المعاصر قد تعرّض له بَعْد، وهو ذلك الدافع المبهم في أعماق الشاعر العربيّ في العقدين الرابع والخامس من هذا القرن لأن يبحث عن أصالته المعاصرة، بعد أن استرجع الأصالة العربيّة القديمة على يد الرعيل الأوّل من أمثال البارودي وشوقي ومطران وغيرهم. هذا البحث الدؤوب اللا واعي عند هذا الشاعر ليكتشف نفسه ويتعرّف على الروابط الّتي تربطه بحقيقة حياته وبأرضه وزمنه، ساعده على تقبّل شتّى المدارس الشعريّة الواحدة بعد الأخرى، فكأنّه كان يريد أن يتعجّل الزمن وأن يتوصّل خلال سلسلة من التجارب المحتومة إلى أصالته المعاصرة، في الطريقة الشعريّة الحديثة الّتي تستطيع استيعاب حياة الإنسان المعاصر بعد أن أصابها ما أصابها من بلبلة وقلق وتعقيد. هكذا كانت حركة الشعر الحديث.
طفيليّو الشعر الحديث
إن الشاعر الحديث، الّذي يستحقّ هذا اللقب، إنسان يحترم قضيّة الشعر ويعاملها بصرامة وجدّيّة وتكريس، وقد نشأت حركة الشعر الحديث على يد شعراء شبابًا كانوا على جانب من الثقافة والاطّلاع على آداب الأمم الأخرى. غير أنّهم رغم ثقافتهم، كانوا في أوّل الأمر يعتمدون في ثورتهم على آراء جزئيّة عن الفنّ والواقعيّة والرؤية والحرّيّة الشعريّة، أكثر من اعتمادهم على أسس نقديّة مكتملة ماثلة بين أيديهم.
لو عدنا إلى أولى كتابات الشعراء الشباب لوجدناها لا تخلو من السذاجة الطريفة والتبسيط الجزئيّ لحركة أثبتت أنّها كانت أكثر شمولًا وأبعد غورًا ممّا كانوا يتنبّؤون به في بدايتها. ساعدهم أن يتطوّروا ويطوّروا مفاهيم رهافة الحدس الفنّيّ الغنّيّ الّذي قاد خطواتهم الأولى وألهمهم طريقهم المحفوف بالمصاعب والعراك المستمرّ. كان على هؤلاء الشباب أن يزدادوا ثقافة عامًا بعد عام، وكان عليهم أن يستمرّوا في تجاربهم المتتابعة – ينجحون مرّة ويفشلون أخرى – وكان عليهم أن يستقرئوا القواعد النقديّة لتساند حركتهم ولتقرّ قيمة النماذج الناجحة الّتي توصّلوا إلى خلقها بجهودهم. فوق كلّ شيء، كان عليهم أن يحاربوا في حلبة الأدب جيوشًا من الاتّباعيّين من شعراء ونقاد، ويناقشوهم ويدعون في الوقت نفسه إلى حركتهم مع الشباب الطالع.
قد زاد الطين بلّة ما تفرّع عن هذه الحركة من محاولات أضعف وأفقر وأقلّ مشروعيّة. فقد قام عدد من الشعراء بمحاولات لكتابة الشعر الحرّ دون أن يكونوا قد وعوا شمول الحركة الحديثة، ودون أن يكونوا أنفسهم قد رُزِقوا من المواهب والعمق ما يؤهّلهم لأن يفهموا هذا الشمول ويواكبوا شروطه الصعبة. فقد قامت الصيحة المدوّيّة بأنّ الشعر الحديث قد أصيب بنكسة وأنّه في خطر داهم، ولو تروّى النقّاد قليلًا وهدّؤوا من روعهم ونظروا إلى الظاهرة بهدوء علميّ رزين، لكانوا تبيّنوا أنّها ظاهرة طبيعيّة في كلّ حركة جديدة، وأنّ لها أمثلة مشابهة في آداب الأمم الأخرى كما تدلّنا دراسة الأدب المقارن. ذلك أنّها مهما اشتطّت وسفّت، فإنّها لن تمسّ تيّار الشعر الحديث ببذرة من سوء.
إنّ التيّار الأصليّ ليسمو إلى الإبداع والإبداع لا يضلّ أبدًا – فهل أضرّ أمثال أبو ريشة وفرحات وبدويّ الجبل والقرويّ وغيرهم كلّ ذلك السيل من الشعر العموديّ التافه المرنّح بالدموع الّذي كان يُنْشَرُ جنبًا إلى جنب مع شعرهم؟ غير أنّه من السهل أن تلحق السمعة السيّئة سريعًا بأيّ حركة جديدة ناشئة – ولهذا السبب عينه فإنّ أيّ حركة جديدة ناشئة، لا يمكنها أن تسمح بابتذال أهدافها وأساليبها. يجب أن يتضافر الشعراء الحديثون ونقّادهم على القصّ من جناح الطفيليّين والمتساهلين وتخليص شعرنا منهم وردّ اعتباره ومقامه.
هذه قصّة الشاعر الحديث – شاعركم، ابنكم، الّذي وُلِدَ فيكم والّذي يعيش بينكم ويتحدّث عن حياتكم ويُغْنِي انتصاراتكم ويحاول أن يكشف لكم عن حياتكم، ويثري من معاني الحياة وآلامها وأشواقها. إنّه غير معنيّ بالكلام المحمّس والنغم الرنّان والعبارة المهيّجة، ولا يغريه أن يلمس العواطف الخارجيّة ويوقدها إيقادًا آنيًّا، فهو يطمح لأن يحقّق اليوم أو غدًا متطلّبات الشعر الرفيع في العالم، وأن يستشرف رؤى المستقبل وأن يغوص إلى أعماق الحاضر فيستخرجه، وأن يصدر شعره عن إحساس جماعيّ شامل بآمال الأمّة وأشواقها وآلامها وقلقها وكلّ مشاعرها المخبوءة في أعماقها.
الإنسان العربيّ في بلادنا، هذا الّذي وهب كثيرًا وحزن كثيرًا، هو إنسان ثائر رافض متأمّل متشكّك يربض في وجدانه أمل جديد يعانق الشمس وحزن قديم قِدَمَ الدهور. بين أمله الجديد وحزنه القديم أمواج القلق والإشفاق والتعب والتخوّف، وكلّ ما يريده الشعر الحديث من الشاعر أن يكشف عن وجه هذا الإنسان وعن أعماق وجدانه بصدق الرؤيا الّتي لا تضحّي بالفنّ. نحن إن نجحنا في بعض ذلك، أو كنّا على وشك النجاح، فسوف نعتبر أنفسنا سائرين في الطريق الصحيح نحو فنّ يرفع الشعر العربيّ إلى مستوى رفيع، ويدخله شراكة العقل الخلّاق المبدع في العالم كلّه، ويؤهّله للمساهمة في إبداع الجمال وفي إنماء التراث العربيّ والعالميّ.