لم يكن نظام الوزن في الشعر العربي -المبنيّ على تآلفات معيّنة للحروف الساكنة والمتحركة- متميزًا فقط، بل كان مؤثرًا أيضًا، فقد انتقلت الصنعة العربية لوزن الشعر إلى الجملة الشعرية لعدة لغات، مثل؛ الفارسية والتركية والأردية والعبرية والهوسية والفولانية.
اللغة الفارسية
إنّ العروض الشعري الفارسي ما هو إلّا نقل مباشر لنظام التفعيلة العربي وعلم العروض الذي وضعه الخليل الفراهيدي بثوابته ومتغيراته، بل بمصطلحاته أيضًا، وقد بدأ هذا النقل بجهود “ابن الفرخان” في القرن الثامن الميلادي، ثمّ سار “فضل الله الراوندي” في القرن الثاني عشر الميلادي على خطى ابن الفرخان في محاولته تلك. وقد نجحت تلك المحاولت وانتشرت، وترتب عليها نظم القصيدة الفارسية على طريقة التفعيلة العربية، وشيوع المصطلحات العربية الخاصة بالبحور والتفعيلات والوحدات في العروض الفارسي، مثل “عروض” و”سبب خفيف” و”سبب ثقيل” و”وتد مفروق” و”مفاعيلن” و”بحر الهزج” و”بحر الرجز” و”بحر الرمل” وما لا يعد ولا يحصى من الأمثلة، وهي مصطلحات ما تزال مستخدمة إلى اليوم شأنها شأن طريقة الوزن نفسها.
ومحاولة التطبيق هذه لا تمنع أنّ العروض الفارسي قد دخله بعض التغييرات المناسبة لطبيعة اللغة، فالفارسية لغة تنتمي للغات الإيرانية من عائلة اللغات الهندوأوروبية، والعربية لغة سامية، إلا أنّ التعديلات تبقى طفيفة، ولا تمس الثوابت والخطوط العريضة لنظام الوزن، ومن الأمثلة على هذه التغييرات تغيّرُ تفعيلات بعض البحور، فبحر الهزج العربي مثلًا يُقرض على الوزن الشعري:
مفاعيلن/ مفاعيلن
مفاعيلن/ مفاعيلن
بينما يُقرض الهزج الفارسي على الوزن الشعري:
مفاعيلن/ مفاعيلن/ مفاعيلن/ مفاعيلن
مفاعيلن/ مفاعيلن/ مفاعيلن/ مفاعيلن
ويُقرض بحر الوافر العربي على الوزن الشعري:
مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعولن
مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعولن
بينما يقرض الوافر الفارسي على الوزن الشعري:
مفاعلتن/ مفاعلتن/ مفاعلتن/ مفاعلتن
مفاعلتن/ مفاعلتن/ مفاعلتن/ مفاعلتن
وأخذ ابن الفرخان والراوندي منهج الخليل في الاحتمالات الخاصة بالدوائر العروضية أيضًا، وهو منهج معتمد على فرضية احتمال مجيء التفعيلات معًا داخل دوائرها العروضية، ونتيجة لذلك فقد ظهر الكثير من البحور الافتراضية وغير المستعملة، وهذا طبعًا لعدم ملائمتها لطبيعة اللغة الفارسية، فمثلًا ذكر الكرباسي “بحر المستزاد”، وتفعيلاته:
مفعولاتُ/ مفعولاتُ/ مفعولاتُ/ مفعولاتن
مفعولاتُ/ مفعولاتُ/ مفعولاتُ/ مفعولاتن
وقال عنه في الجزء الثاني من كتاب المدخل إلى الشعر الفارسي: “ولم ينظم الفرس على هذا البحر رغم ظهوره في هذه الدائرة”، وذكر الكرباسي أيضًا بحر “الرجز المكفوف”، الذي يُنظم على:
مستفعلُ/ مستفعلُ/ مستفعلُ/ مفعولن
مستفعلُ/ مستفعلُ/ مستفعلُ/ مفعولن
وعلق الكرباسي على الرجز المكفوف قائلًا “وعلى أي حال فقد ألغوا هذا البحر ولم ينظموا عليه بل أغفلوه تمامًا”، وقد قصد الفرس.
اللغة التركية
وتأثر وزن الشعر التركي بالشعر الفارسي، وأخذ صنعته المبنية على التفعيلات -المأخوذة عن الشعر العربي بطبيعة الحال- وبقيت المصطلحات التركية مشابهة لنظيرتها الفارسية -التي تأثرت بالعروض العربي- مثل “الرمل” و”المجتث” للدلالة على البحور، و”مطلع” للإشارة إلى بدء القصيدة. وحصلت بعض التغييرات التي تراعي الخصائص الصوتية للغة التركية، دون التطرق لأساسيات الوزن، وهذا التغيير ترتب عليه ظهور ست عشرة تفعيلة، وهي: “فَعْ”، و”فَعَلْ”، و”فَعْلُنْ”، و”فَعِلُنْ”، و”فَاعِلُنْ”، و”فَعُوْلُنْ”، و”مَفْعُوْلُ”، و”فَعِلَاْتُنْ”، و”فَاْعِلَاْتُنْ”، و”فَاْعِلَاْتُ”، و”مَفَاْعِلُنْ”، و”مَفَاْعِيْلُنْ”، و”مَفَاْعِيْلُ”، و”مُفْتَعِلُنْ”، و”مُسْتَفْعِلُنْ”، و”مُتَفَاْعِلُنْ”.
وبالطبع تعدّلت البحور الشعرية بما يتوافق مع التفعيلات الجديدة، فلم تسمح التركية مثلًا بالنظم على الوافر، لعدم وجود تفعيلة “مفاعلتن” في التفعيلات التركية، ومن المعلوم أنّ الوافر العربي يُنظَم على (مفاعلتن/ مفاعلتن/ فعولن)، والوافر الفارسي يُنظَم على (مفاعلتن/ مفاعلتن/ مفاعلتن/ مفاعلتن)، فتمّ الاستغناء عن الوافر لحساب الهزج، والذي يُنظم على (مفاعيلن/ مفاعيلن/ مفاعيلن/ مفاعيلن). وقد أدّى اختلاف طبيعة المقاطع الصوتية بين العربية والتركية إلى اختلاف الدوائر العروضية، فلم تسمح اللغة التركية بالنظم على بحور الدائرة العروضية الأولى كلها؛ الطويل، والبسيط، والمديد، على الرغم من وجود التفعيلات المطلوبة لها في المقاطع التركية، فتفعيلات الطويل هي (فعولن/ مفاعيلن/ فعولن/ مفاعلن)، وتفعيلات البسيط (مستفعلن/ فاعلن/ مستفعلن/ فعلن)، وتفعيلات المديد (فاعلاتن/ فاعلن/ فاعلاتن)، وهي كلها موجودة في التفعيلات التركية.
ونظرًا لاختلاف شكل المقاطع بين اللغتين العربية والتركية، فقد اختلفت البحور الأكثر انتشارًا في شعرهما، فشكل “الرَّمَل” مثلًا ما يقرب من نصف ما نُظِم عليه الشعر التركي، بينما يعتبر “الرمل” بحرًا قليل الاستخدام في الشعر العربي إذا ما قورن بالطويل والبسيط والكامل والوافر.
اللغة الأردية
والشعر الأردي تأثر أيضًا بنظام الوزن الفارسي ذو الأصل العربي، والأردو لغة منتشرة في باكستان وغرب الهند، وتنتمي للُّغات الهندوستانية، التي ترجع في أصلها للمجموعة الهندوأوروبية. والخصائص الفونولوجية للغة الأردية لم تسمح بالنظم على بحور الدائرة الأولى؛ الطويل والبسيط والمديد، كما لم تسمح بالنظم على الوافر كذلك، وقد اختلفت أيضًا عدد التفعيلات في البحور الأردية عن نظيرتها العربية، فضم البحر الأردي غالبًا تفعيلات أكثر، وهو في هذه الخاصية أقرب إلى البحر الفارسي، فمثلًا يُبنى الكامل الأردي على:
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن
بينما يُبنى الكامل العربي على:
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن
متفاعلن/ متفاعلن/ متفاعلن
بالإضافة إلى وجود بعض الاختلافات في القواعد الخاصة بالزحاف والعلة بين نظامَيْ الوزن العربي والأردي، والتي لا تدعو الحاجة للخوض في تفاصيلها في هذا الموضع.
اللغة العبرية
كان الشعراء ينظمون القصيدة العبرية بعدد ثابت من المقاطع المنبورة، وظلّ هذا حالهم حتى القرن العاشر الميلادي، وهو الوقت الذي جاء فيه الحاخام اليهودي المغربي “دوناش بن لبراط” لينظم الشعر بنظام الوزن العربي المعتمد على التفعيلة، وبالرغم أنّ مقاومة التغيير حضرت بقوة، حيث تعرّض دوناش للكثير من الانتقادات بسبب هذا التغيير من العلماء والشعراء والنقاد، مثل “مناحم بن سروق”، على اعتبار أنّ تجربته أضرّت بالعبرية ولم تخدمها، إلّا أنّ الشعر العبري بعدها أصبح شعر تفعيلة على الطريقة العربية.
والمثير للاهتمام أنّ العربية والعبرية تشتركان في الأصل والفرع، فكلتاهما لغتان ساميتان، من مجموعة اللغات الأفروآسيوية، وقد ترتب على هذا أنّ خصائص اللغتين الصوتية قريبة من بعضهما، ويستطيع الغريب عن اللغتين أن يلحظ هذا التشابه بمجرد سماعهما، وهذا التشابه في الخصائص الصوتية جعل التجربة العبرية هي الأقرب للعربية، فقد استُخدِمت كل التفعيلات والبحور العربية في العبرية، بالرغم من اختلاف الأسماء، ف”الكامل” أصبح “ها شاليم”، و”الهزج” أصبح “ها مارنين”، و”المتقارب” أصبح “ها مِتقاريب”، أمّا ما قصده الناقدون لدوناش فكان بخصوص النحو، ولم يكن بخصوص الوزن، فقد حاول دوناش تطويع الخصائص النحوية في بعض قصائده بما يناسب تجربته الجديدة. وقد كان لتَبنّي “سليمان بن جبيرول” الفكرة في القرن الحادي عشر دور مهم في نشرها وإنجاحها والقضاء على ما تبقى من معارضة لها، وسليمان هو الشاعر الذي نظم قصيدة احتوت النحو العبري، على غرار ألفية ابن مالك العربية.
في عام 1954 تم نشر “كتاب الأغاني الكامل: مديح الصالحين، والأغاني، والأدعية والحمد العبري”، والذي يحتوي على قصائد مقدسة تُستخدَم في مناسبات معينة على المستوى الشعبي -خارج الاحتفالات الدينية الرسمية- مثل أيام السبت، وعيد الفصح، وعيد العنصرة، والمناسبات الشخصية مثل الختان، وقد كُتبت معظم قصائده باللغة العبرية، على يد العديد من الشعراء، وألحان هذه القصائد وعروضها عربية، وفي غالبيتها مقلدة لأغانٍ عربية أيضًا، ودوناش بن لبراط هوصاحب أقدم قصيدة في الكتاب، ولـ”إسرائيل بن موسى النجارة” إحدى وثمانون قصيدة فيه.
اللغة الهوسية
ووصل نظام العروض العربي إلى اللغات الأفريقية، مثل لغة الهوسا، وهي لغة من عائلة اللغات الغرب- تشادية، إحدى لغات المجموعة الأفروآسيوية، وهي لغة أصلية لعدة دول أفريقية، مثل؛ نيجيريا والنيجر وغانا والكاميرون وساحل العاج وتوغو. وكان من نتاج التأثير العربي أن أصبح الشعر الهوسي متناسق الوزن على نظام التفعيلة العربي، ومبنيًّأ على ستة عشر مقياسًا -بحرًا- عروضيًا، بما يتناسب بالتأكيد مع خصائص اللغة الهوسية، فكانت الجمل الشعرية الهوسية مثلًا تحوي مقاطعًا أقل من العربية، إلا أنّ النضج الشعري لم يبلغ أن يُلزم الشعراء بقافية واحدة على طول القصيدة، مثل العربية.
اللغة الفولانية
وتأثرت لغة الفولا بنظام العروض العربي، ولغة الفولا تنتمي لعائلة اللغات النيجرية-الكونغولية، وهي لغة منتشرة في غرب أفريقيا، وقد كانت الأعمال الأدبية للمصلح الديني الشيخ “عثمان دان فوديو” في شمال نيجيريا في بداية القرن التاسع عشر سببًا مباشرًا لهذا التأثر.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”