يحصل الكثير من الأدباء على درجات علمية مثل الماجستير والدكتوراه ويقدمون رسائل وأطاريح مما يمكن أن يكونوا مهتمين بها لتطوير الواقع الأدبي أو لتطوير الذات الإبداعية كونه منتج أدب قبل أن يكون صاحب شهادة.
وأمام اتساع هذه الظاهرة في العالم العربي التي نقرأ أمام الأسماء تلك الصفات العلمية والأكاديمية يمكن طرح السؤال التالي.. هل استفاد الأدب من ظاهرة الشهادات الأكاديمية على المستوى الأدبي إنتاجا وتطويرا؟ وهل تطور الأديب بعد حصوله على درجة علمية وصار منتجا أدبيا مختلفا من الناحية الإيجابية على الساحة الأدبية؟ أم أنها فقط مجرد ملمح شخصي للتميز الاجتماعي، تشفع لحاملها حضور الندوات والمؤتمرات المعهودة في عالمنا العربي؟
البصيرة الفنية والوعي الأكاديمي
بداية يقول الناقد المصري حسام عقل.. لا يمكن في حقل التذوق الفني للآداب والفنون القنوع بفكرة الدراسة المدرسية والأكاديمية وحدها، ففهم النص الأدبي يتكئ في المحل الأول على الذائقة الأدبية التي ترفدها البصيرة الفنية المدربة بالاحتكاك بالنصوص. فضلاً عن التذرع برؤى المدارس الأدبية والفنية الجديدة المنضبطة، وعلى هذا الأساس نهضت الثقافة العربية منذ أقدم عصورها بجناحين متلاحمين متلازمين. ففي العصر الحديث ظهر نقاد كبار اعتمدوا على عنصر التذوق الفني في المحل الأول مثل محمد النويهي، أفادوا النقد الأدبي بدون جدال على صعيد الكشوف الفنية القائمة على المغامرة الجمالية الخاصة والحدوس الفنية شبه الصوفية، لكن الإنصاف يقتضينا الإقرار بأن هنالك كوكبة طليعية من النقاد، لعبت الدرجات العلمية والدراسة الأكاديمية دورا كبيرا في الدفع بهم إلى الصدارة والإنجاز، مثل عبد القادر القط، محمد غنيمي هلا، محمد مندور وطه حسين. فقد كان هؤلاء جزءا عضويا شديد الفعالية من عرامة (الحراك الأدبي والنقدي) منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن. وما قيل في النقد يمكن أن يقال في الإبداع الفني.
حبيس الرفوف
أما الناقد المغربي بوزيان موساوي فقال.. بالأمس القريب، وفي جل بقاع الوطن العربي، كان التعليم والتحصيل العلمي الأكاديمي نخبويا وحكرا على فئات اجتماعية محظوظة.. مبدأ تعميم التعليم باسم الديمقراطية والمساواة، وتكافؤ الفرص كان من بين أهدافه الأولى تكوين أطر محلية وطنية لتعويض الأطر الأجنبية، التي بدأت ترحل تدريجيا مع رحيل الاستعمار. هكذا أصبحت الشهادة المدرسية والجامعية العليا أداة للتسلق الاجتماعي، ومشروعا للكثير من الحكومات لخلق طبقة وسطى مفاد وجودها ودورها التقليل من الفوارق الاجتماعية بين فئات ميسورة في أعلى الهرم، وأخرى من مكونات بشرية عريضة، فقيرة ومقهورة أسفل الدرك. لكن الحصول على شهادة جامعية عليا (ماجستير أو دكتوراه) في إحدى مجالات الأدب والإبداع الفني والنقد لا تعني بالضرورة أن جامعاتنا ومعاهدنا العليا قد أنتجت أدباء وفنانين ونقادا. هناك شعراء وقاصون وروائيون وفنانون لا يتوفرون على شهادات عليا وألفوا أعمالا إبداعية ذات صيت عالمي؛ مقابل ذلك هناك دكاترة في الأدب والنقد لا يستطيعون كتابة بيت شعري واحد، ورغم توصيات بعض المشرفين على رسائل الماجستير والدكتوراه بالنشر، غالبا ما يبقى البحث المنجز حبيس رفوف مكتبات الجامعات، ناهيكم من كون بعض الحكومات تصرف أموالا طائلة لتطوير البحث العلمي و«الميت فأر»… في المقابل، وحتى لا نكون سوداويين، لابد من تثمين العديد من المبادرات من فعاليات أكاديمية، سواء في مجالات الإبداع أو الدراسات النقدية التي تثابر بجد واستمرارية لأجل تطوير المنظومة الثقافية والأدبية والفنية على مستوى الوطن العربي؛ فعاليات تعمل على تكريس ثقافة الاعتراف، رغم معاناتها اليومية من مضايقات بعض (العدميين) المروجين لثقافة الإقصاء واليأس، وما أكثرهم.
دراسات تقليدية
ويضيف الناقد العراقي عمار الياسري قائلاً.. منذ الصيرورة الأولى للأجناس الأدبية في عالمنا العربي، وتشظيها بين الشعر والنثر، ظهرت الدراسات التاريخية والنقدية بشكل مواز للنتاجات الإبداعية، حتى بتنا نقرأ مؤلفات مثل طبقات الشعراء لابن المعتز أو صنعة الشعر لأبي سعيد السيرافي، وهي نماذج حاولت تقويم البنى الشعرية من جهة وأرشفتها من جهة أخرى، إذ لم تنفك الدراسة العلمية عن المنجز الإبداعي، بمعنى أن لا نظم بدون كتاب العروض للفراهيدي، واستمرت الدراسات المواكبة قرونا طويلة معتمدة على التجريب في البنى الشعرية والسردية حتى عدت زادا للمبدع الراغب في تجاوز علل النكوص، ومع إشراقة القرن العشرين تبنت الأقبية الجامعية، في تخصصات اللغة العربية والفلسفة والفنون هذه الدراسات من أجل رفد المشهد الأدبي بكل ما هو نافع ومفيد، ولكن للأسف فإن التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عانت منها شعوبنا العربية بسبب الحروب من جهة وتحول العالم إلى نزعة الاستهلاك من جهة أخرى، جعلت من المشهد العلمي للدراسات الأدبية ملتبسا، فالوضع الاجتماعي والاقتصادي ألقى ظلاله على الدرس الأكاديمي، لنشهد ظهور دراسات تقليدية مكرورة لم يكن الهدف منها سوى الوصول إلى الجاه الاجتماعي أو البحبوحة الاقتصادية، أضف إلى ذلك انقطاع الباحث الأدبي عن الوسط الثقافي، الذي يعد المادة الخام لدراساته، أيعقل أن يكتب طالب عن قصيدة النثر في العراق بعد عام 2003 وهو لم يحضر أمسية شعرية واحدة، بل يتكرر الحال حتى بعد تخرجه! فالآن لم نر سوى أسماء معدودة من المؤسسات الأكاديمية تهتم بالوسط الثقافي، لتنهل منه وتتلاقح معه، لتكون فاعلة في النشر أو الأماسي والأصابيح الثقافية، ولا أعد هذا الأمر إبداعيا، بل هو مشغلهم الثقافي، ورغم أن المال والجاه ضرورة لكن ينبغي أن لا تكون هي الهدف الأسمى، كي لا يصل الفساد بالتعليم إلى واد سحيق لا يمكن الخروج منه.
صفقات فساد
ويرى الشاعر العراقي جبار الكواز أن هذه الظاهرة تتجلى في أبشع صورها في المشهد الإبداعي العراقي، حين يحوز شخص ما لقبا أكاديميا بجهود الآخرين لقاء مبلغ متفق عليه من المال، فمما يراه المتابع على منشورات الفيسبوك إعلانات صريحة من مكاتب مجهولة الهوية تؤكد أنها مستعدة لإعداد دراسات أكاديمية على مستوى الماجستير أو الدكتوراه، لقاء مبلغ مالي محدد، وأصبح الأمر ثقافة متداولة في أواسط السياسيين أولا، أو الأثرياء الذين يتوقعون إضفاء لقب أكاديمي إلى كنوزهم التي جاءتهم بصفقات الفساد كما يعلم الجميع. كيف يتسنى لنا أن نميز بين أكاديمي حقيقي وآخر بوساطة نقوده.. تلك هي المسألة المخفية التي تشكل أكبر محن المشهد الثقافي والأكاديمي في العراق، فلو قارنّا بين من يسهم في رفد المشهد بجهود خلاقة صادقة والآخرين الذين اكتفوا باللقب زهوا وفخرا والادعاء، لوجدنا أننا أمام كارثة عراقية كبرى وأكذوبة نعيشها، رغم أنوفنا. إن نظرة فاحصة ودقيقة في هذا الشأن تستدعي من الجميع النهوض بثورة وطنية فكرية لإنقاذ الصفة الأكاديمية من خراب عظيم.
العقل المنظم
الشاعر العراقي عمار المسعودي يقول.. لابد أن نخضع في كل استبيان يبحث عن مقاربة شيء ما لقانون النسبية في عالم اتسع واستطال.. من هنا يكون موضوع البحث العلمي الخاضع للأكاديمية الصارمة موطن جدل، لما ألفناه من أجوائه المشدودة والمتوترة، جراء صراع العلاقة بين الشيخ والمريد العالم والمتعلم، وأظنها أي العلاقة تلك مأخوذة من زمن الشيوخ الفقهاء وهم يضيقون على مريديهم كون المسافة التي يشغلها المتنافسون ليست واسعة.
إن الدراسة الأكاديمية تحتاج عقلا منظما غير منشغل بالشطحات، أو المغالاة العاطفية؛ لذا لا يكون من الصائب أن نحكم للدارسين من الأدباء على سواهم، إننا من جهة أخرى قد نعد الباحثين من الأدباء، قد تكون لهم لغتهم المنسابة الجميلة شرط التحكم والضبط والتروي، كذلك ما أضافه الأدباء إلى التقريب بين مفردات الأساس المعرفي الأكاديمي والكتابة الآنية، كونهم تسنموا مراتب أكاديمية عالية أهلتهم الاختيار في اتخاذ القرار لصالح أدب الحياة واليومي ليكون مادة بحوث ورسائل وأطاريح؛ ما أوصل الأدب العصري إلى طلاب الجامعة بعدما كانت البحوث مقتصرة على القديم الذي يصير جزءا من الماضي أي ما عتقته الأيام. وما دمنا نؤمن بالنسبية لذا نقول ببعض ما جاء في طروحاتكم من شكوك حول ما يجري في جامعات بدأت تفقد بريقها شيئا فشيئا.
الأدب والأديب
الروائية الجزائرية أحلام الأحمدي تقول.. احتضنت جائزة نوبل الأديب الروسي المعروف ليو تولستوي، بدون أن تعطي أهمية للشهادة الأكاديمية العلمية، كان أدبه متوجا لما له من نبض وبصمة خالدة، لا علاقة لها بأي مستوى علمي أكاديمي، هذا مثال بسيط فهناك أدباء كثر جدا أمثال العقاد وإيليا أبو ماضي وماركيز، ممن امتلكوا ملكة أدبية مدهشة لم يؤثر عليها الكم المعرفي الأكاديمي وحجم شهاداته، فالملكة الأدبية صنيعة من ذات وطبع الكاتب وحده، لتتورق خضارا جميلا كلما زخر الأديب ببهاء المعنى وتفرد بعمق وصقل موهبة الخالق المتنعم بها، فلا يمكن أيضا أن ننكر أن السعي المعرفي وراء تطوير ونحت هذه النعمة يزيدها جمالا وتناسقا وتمرسا، ومع الوقت والزمن أيضا تستوي قامتها فتصبح باسقة وافرة العطاء نستلذ بما جادت به من طعم الكلمات والحرف. أما الناقد، فهو المتمحص في الجدول المنهمر للأديب أو جمعه، ليستخرج من تلك العطية الأدبية مخارج الكلمات والمعاني وتناسق الأفكار وثباتها، فلا يمكننا أن نتصور ناقدا بدون معرفة علمية ودراسة أكاديمية مسبقة، تمكنه من استخراج مكامن الضعف وعلة النص أو قوته وثرائه، وفحص دقائقه وتشريحها وفق منهج علمي ثابت بالدراسة الأكاديمية والشهادات العليا، التي تثبت ذلك الكم المعرفي، ذلك أن الأدب غير الأديب، والناقد لا بد له من عطاء نقدي مدروس ومحكم بدون الانغماس في عاطفة أو ميول فكرية مثلا، فالنص خاصة قد يحمل مستويات مختلفة، ووحده الناقد المتمرس يجعل من قيمة نقده تخدم الأدب لأن كما قلنا الأدب غير الأديب.