لقد ارتبط الشِعر بالسلطة والسياسة منذ العصر الجاهلي، فدفعت الرغبة بعطايا الملوك وحكام الدول، والرهبة من بطشهم وسطوتهم، وحبهم، والتعلّق الشديد بهم، بعض الشعراء إلـى مديحهم، وترويج سياساتهم، وقام الحكام بدورهم إذ أغدقوا الأموال على مقربيهم ومادحيهم من الشعراء، فعاش بعضهم حياة رغيدة في أكناف الملوك والأمراء والخلفاء حيث كان الحكام يحتاجون للدعاية أو المدح والشعراء يحتاجون للمال فنشأت ظاهرة من أقبح الظواهر التي عرفها الشعر العربي، ألا وهي ظاهرة التسول بالشعر.
ولم تنـشأ هذه العلاقة من فراغ فقد كان للشعر دَورهُ العظيم حين قام مقام وسائل الإعلام فـي عصرنا في إشاعة مناقب الحكام، ونشر مآثرهم وسياساتهم، حتى أضحى الشعراء جزءاً لا يتجزأ من أدوات الحكم والسياسة. صحيحٌ أن التكسب أو التسول لا ينقص من قيمة الشعر ولكنه ينقص من قيمة الشاعر، فقصائد المديح مدفوعة الأجر كانت متميزة بمستواها الفني وإن غاب عنها الصدق أحياناً !
واتخذَ كثيرٌ من الشعراء المديح وسيلةً من وسائل التكسب والعيش، والوصـول إلى الجاه والسلطان، وقطعوا لذلك كلّ سبيل، وأراقوا ماء الوجه، وتوسلوا الممدوح واستجدوه، وقصص هؤلاء الشعراء تملأ صفحات أدبنا العربي.
وحدهُ عمر بن عبد العزيز وقفَ كالحجر في حُلوقِ الشعراء فقد كان للشُعراءِ حظوةٌ عند خلفاءِ بني أمية حتى إذا جاء الخليفة الخامس حَبَسهُم عنه، وتَوَسط لهم عنده عَدِيّ بن أرطأة وقال لهُ: إن الشُعراءَ ببابك، وأقوالهم باقية وإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد مُدِحَ وأعطى، وفيهِ أُسوةٌ حسنة!
قال عمر: صَدَقت، فمن في الباب؟!
فقال عَدِيّ: عمر بن أبي ربيعة
فقال عمر بن عبد العزيز: لا قربَ الله قرابتهُ ولا حَيّا الله وجهه، أليس القائل:
يا ليتَ سلمى في القبورِ ضجيعتي … هنالكَ أو في جنّة أو جهنّمُ
والله لا يدخلُ عليّ أبداً، فمن في الباب غيره؟!
فقال عَدِيّ: جميل بن معمّر
فقال عمر: أليس هو القائل :
أظلُّ نَهاري لا أراها وَتلتقي … معَ الليل روحي في المنامِ وروحها
والله لا يدخلُ عليّ، فمن في الباب غيره؟!
فقال عَدِيّ: كثير عزّة
فقال عمر: أليس هو القائل:
رُهبانُ مديَنَ والذينَ عهدتُهُمْ … يبكونَ مِنْ حذرِ العذابِ قعودا
لو يسمعونَ كما سمعتُ كلامَها … خَرُّوا لِعَزَّة رُكَّعاً وسُجودا
أَبعَدَهُ الله عني، فمن في الباب غيره؟!
فقال عَدِيّ: الأحوصُ الأنصاريّ
فقال عمر: أليس هو القائل:
الله بيني وبين سَيدها … يفرّ عني وبها أتبعه
والله لا وطئ لنا بساطاً، فمن في الباب غيره؟!
فقال عَدِيّ: الأخطل
قال عمر: أليس هو القائل:
ولست بصائم رمضانَ طوعاً … ولَسْتُ بِآكِلٍ لحْمَ الأضاحي
ولست بقائم أبداً أنادي … كمِثْلِ العَيرِ حيّ عَلى الفَلاحِ
والله لا يغشى مجلساً أنا فيه، فمن في الباب غيره؟!
فقال عَدِيّ: جرير
فقال عمر: أليس هو القائل:
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ القلُوبِ وَلَيس ذا … وَقْتَ الزّيَارَةِ، فارْجِعي بسَلامِ
فإن كان لا بُدّ فليدخل هذا!
فدخل جرير وأنشده:
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا … جَعَلَ الخِلافَةَ فِي الإِمَامِ العَادِلِ
وَسِعَ الخَلائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ … حَتَّى ارْعَوَى وَأَقَامَ مَيْلَ المَائِلِ
إِنِّي لَأَرْجُو مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلاً … وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ العَاجِلِ
فقال له عمر: اتّقِ الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً!
فقال جرير:
كَمْ بِاليَمَامَةِ مِنْ شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ …. وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ
يَدْعُوكَ دَعْوَةَ مَلْهُوفٍ كَأَنَّ بِهِ … خَبْلاً مِنَ الجِنِّ أو مَسًّا مِنَ النَّشَرِ
إِنَّا لَنَرْجُو إِذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا … مِنَ الخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنَ المَطَرِ
إِنَّ الخِلافَةَ جَاءَتْه عَلَى قَدَرٍ … كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
هَذِي الأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا … فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الأَرْمَلِ الذَّكَرِ
أَنْتَ المُبَارَكُ وَالمَرْضِيُّ سِيرَتُهُ … تَعْصِي الهَوَى وَتَقُومُ اللَّيْلَ بِالسُّوَرِ
الخَيْرُ مَا دُمْتَ حَيًّا لا يُفَارِقُنَا … بُورِكْتَ يَا عُمَرَ الخَيْرَاتِ مِنْ عُمَرِ
فقال عمر: ويحك يا جرير، قد وُلينا هذا الأمر وليس معنا إلا ثلاثمئة درهم، أخذ عبد الله مئة، وأخذت أم عبد الله مئة، وواللهِ ما عندنا إلا مئة فخذها ولا تعد!
فقال جرير: واللهِ يا أمير المؤمنين لهي أحبُّ مالٍ أكتسبته .
وخرج جرير بعدها إلى الشعراء، فقالوا له: ما وراءك؟
فقال: ما يسوؤكم، خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء ويَمنع الشعراء!
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”