المتأمل لتوجهات وتبدلات العولمة الآخذة في التوسع، يلحظ أن قوام تلك التحولات قد سلك سُبُلًا فِجاجًا، وطرائقَ قِددًا في بلوغ الأرب للتأسيس لحياة إنسانية نمطية فضلى ينعم فيها الإنسان بالراحة والمتعة والحرية والرفاهية والتقليل من الجهد العضلي في أثناء أداء الأعمال المختلفة، ناهيك بالسعي إلى إيجاد فرص سانحة تنقذ من التيه والضلال البعيد الذي تتجه إليه البشرية نتيجة التطورات المتسارعة التي لم تكن منتظرة، بعد أن تفتقت عنها التكنولوجيا بنسبة تفوق القدرات البشرية، كما هو ملحوظ بالنسبة إلى الذكاء الاصطناعي الذي أوجد أوضاعا متباينة تثير أسئلة عديدة، وإن كانت لا تخلو من فوائد منجية من مصاعب جمة، كان الإنسان يكابد عرق القِربة لتحقيق تلك الرغائب.
ولا شك أن الحضور اللافت للأدوات الرقمية ووسائطها الاجتماعية في دنيانا، واستحواذها على عقولنا وقلوبنا، دفعت بالإنسان المعاصر إلى وضع ثقته في الشاشات الرقمية وما تبثه من خِدْمات، لا يستطيع التخلي عن نشوتها ومتعتها، وعن الإشباع الذي ينتابه في أثناء الإبحار والتواصل عبر تلك الأجهزة المشتملة على مصائد الفوائد التي سهلت على الباحث مكابدات شتى للحصول على صبابة من المعرفة، إذ بضغطة زِرٍّ، وقبل أن يرتدَّ إلى المرء طرفه، تنتصب أكوام من المعارف التي لا قبل له بها، والتي تعد بحق من مكتسبات الثورات العلمية والتواصلية التي أحدثتها التكنولوجيا. وسأقتصر في هذه المقالة على عرض التطورات التي مست ميدانين هما: التعليم عن بعد والأدب الإلكتروني.
التعليم عن بعد: وهو أسلوب يقوم على طرائق إجرائية تقنية تنقل المعرفة إلى الشداة داخل البيوت أو في مقرات العمل، بدل الحضور الفعلي داخل الفصل الدراسي. وهو نسخة متطورة عن أسلوب التعليم بالمراسلة المستند إلى خدمات البريد في نقل المطبوعات، يقوم على الاستخدام الجيد للأدوات التكنولوجية، وتجهيزات الشبكة العالمية للمعلومات، ووسائطها العديدة التي تضمن الاتصال والتواصل الفعال بين طرفي العملية التعليمية التعلمية، لأجل عرض المادة عرضا يضمن بيئة تعليمية شائقة في أثناء التفاعل بين المعلم والشادي، وبكيفية متزامنة أو غير متزامنة لتحقيق أهداف محددة، وصقل مهارات حيوية مطلوبة في العصر الحاضر بأسرع وقت، وأقل تكلفة توفر فرصا تعليمية متوازنة ومتساوية، مع الحرص على ضبط وتقييم أداء الشداة أينما وجدوا. ولا ريب أن هذا النوع من التعليم يخلق بيئة تعليمية جديدة تزيد من فرص الوصول إلى المحاضرات والدروس والتقويمات اعتمادا على الأجهزة الرقمية ووسائل الاتصال الإلكترونية المعتمدة على الإنترنت لأجل تحقيق الجودة بواسطة أنظمة الدعم التي تتمظهر على شكل أنظمة المحادثة والمنتديات، أو بواسطة البريد الإلكتروني وتطبيقات المراسلة الفورية.
الأدب الرقمي: مع التغيرات التي شهدها الزمن العولمي، أضحى لزاما على الأدب أن يحدث حلحلة في بلاغة الثبات التي كانت تسمه طيلة القرون الماضية، وأن يبدل المعايير المراعاة في أثناء تشييد النص الأدبي، ويغير وسائطه التي تظهر قدرته على مواكبة المستجدات المعرفية والتقنية لحضارة العولمة السائلة، تماما كما تُغيِّر الأفعى خِرْشَاءَهَا لكي لا تموت. ولا شك أن الحضور والانجذاب الشامل للأجهزة التكنولوجية التي بلغت مرحلة الطفرة في حياتنا المعاصرة، فرض على الكتاب والشعراء الاستجابة لتحولات العصر عبر الاندماج في عالم الأرقام والإلكترونات، مذعنين لركوب أسنادٍ وَوَسائط جديدة أصبح سلطان استعمالها من الحتم المقضي، ولاسيما أننا لم نعد ـــــــ كما كنا في الماضي ـــــ نرجع إلى أدمغتنا التي نحفظ فيها معلوماتنا، بعد أن تولَّت الحواسيب والأشرطة والهواتف القيام بتلك المهمات قبل عِيرٍ وما جرى، وبدقة متناهية. ومن ثمة كان من البَدَهِيِّ أن توجِد المنصات الرقمية حالة مغايرة لموازين الأدب، بعد أن غادر القمقم الرقمي محبسه مخترقا الحدود لفتح الطريق أمام كل شيء ليصبح عالميا، اعتمادا على استراتيجيات التهجين والتدجين اللذيْن يخلطان الفائدة باللذة الساحرة، لأجل التخفيف من الصراعات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والفنية، مع تحديد وسائل العيش المشترك التي تخفف من الذاتي لصالح الجماعي، ناهيك بالحرص على تقريب الأدب من رنات الهواتف، وأساليب (الشات)، وضغطات الأزرار وحشرجات المحركات، وإغراءات الصور والأشكال والألوان والخطوط.
لاشك أن هذا العطاء السخي الممزوج بكثير من المتع المادية والمعنوية التي لم نعهد مثلها من قبل، هو الذي شجع المواكب الإبداعية على إيجاد أدب رقمي جديد يجوب هذه الدنيا بأسرع من كرة الطرف، ويسعى لإرضاء الأذواق الافتراضية المتقلبة الملتحقة بثقافة العولمة، والتي أعادت بناء عالمنا الافتراضي الذي تفتق عن أسئلة إبداعية فرضت علينا الاندماج ـــــــ الطوعي أحيانا والقسري أحيانا أخرى ـــــ في إنسانيتها الكاملة الموحدة المزعومة على هذه القرية الصغيرة. أدب رقمي لا يسعى إلى محو وإلغاء الأدب الورقي، وإنما يسعى ـــــــ اعتمادا على إمكاناته التواصلية التي وفرتها الثورة الرقمية ـــــــــ إلى مزيد من اقتراح البدائل والمغايرة والإثراء والتطوير والانفتاح والتحرر من سلطة النموذج والمعايير الثابتة المتوارثة، ناهيك بتحقيق نوع من الاندماج والملاءمة بين مرتكزات الأدب الرقمي الفلسفية والفنية والتواصلية، وبين التبدلات التي أفرزتها حضارة العولمة باعتبارها واجب الوجود.
الأدب الرقمي، أو الأدب الإلكتروني، أو المعلوماتي، أو السيبرني، أو الأدب الوسائطي، أو النص المترابط، أو النص الفائق، أو أدب الديجتال، أو النص المتفرع، أو الأدب التشعبي، أو الأدب الشبكي، أو أدب السماوات المفتوحة، وغيرها من الاصطلاحات المتعددة لمسمى واحد، إنه أدب جديد استبدل بالورق وبالقلم لوحة المفاتيح والفأرة ثم شاشة الحاسوب. إنه أدب ينهض على تقنيات الأجهزة الإلكترونية وإمكاناتها الترابطية والمشهدية والتناصية والسمعية البصرية، عبر مختلف الروابط الرقمية التي تربط النصوص بعضها ببعض. إنه كائن لغوي وتكنولوجي غيَّر سماته التكوينية والبصرية استجابة للرقمنة، فهو الابن الشرعي للسيبرنطيقا، تخلَّق من تزاوج النص مع التقنيات الجديدة التي هجرت الورق إلى الشاشات.
لذلك لا يمكن التواصل معه إلا عبر روابط الأجهزة الرقمية وبرمجياتها المختلفة التي تعد عنصرا ضروريا لا يمكن الاستغناء عنها. إنه نصوص قريبة من لعب الأطفال، تسعى إلى المزج بين اللغة وغيرها من الأيقونات السمعية والبصرية، يمكن التصرف فيها بحرية. وهي نصوص إبداعية شعرية ونثرية منشورة على صفحات الوسائل الرقمية، وتسعى إلى إحداث تغييرات جمالية بديلة تفارق الأنماط التقليدية المعروفة، وتغزو إبادة معايير الأدب الورقي.
ولا شك أن تلك التبدلات تمس شكل النصوص ولغتها وأدواتها الفنية وطرق بثها وأنماط التواصل معها، ولاسيما من حيث البساطة والرغبة في الاستهلاك والانتشار والشوب والتشابك والترابط والتشعب والتفاعل الذي يشعر المتلقي لهذا الأدب بأنه يلج إلى ممرات حلزونية مجهولة المآلات. إنه نصوص تظهر القابلية للكثير البثير من العمليات التي تجعلها معروضة في أحسن مظهر مع كثير من المصاحبات، مثل الصور والأشكال والألوان والأصوات والحركة التي تعتمد على العين والأذن أكثر من ارتكازها على اللغة، لأن الكلمة في الأدب الرقمي جزء من العناصر المؤثثة للنص الرقمي الذي ينهض على سمات: الانفلات من قيود المنع، ومن محدودية الانتشار في الزمان والمكان، والتشعب، والتفاعلية، والافتراضية، والتشابك، والترابط، والتداخل، والمتعة الموسيقية، والمشهد السينمائي، والتواشج بين الكتابة والأنساق التقنية والغنائية والبصرية، وهلم على ذلك جرا وسحبا.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”