أنا أصغر من عمر الحصار
ولدتُ قبل ليلتين
حفيدة أخرى لجدي الكبير
أنا من عائلة الشهيد
لن تجد اسمي في السجل المدني
زرعته في التراب ،
خلف بيتنا المهدّم
دمي الطازج يرويه
كل هذا الحنين
وأنا أصغر من فتحة السياج
أتجول ليلا بين أحلام النائمين
دميتي حصان أبيض مجنّحٌ
من ثوب أمي القديم
أطير فيطير بي
أنا أعلى من المقصلة
يرسمني الغمام مطرا صيفيا عتيقا
هناك شاركوا بالحصار
وهنا مجزرة
وأنا أعلى من المقصلة
تهش عصا أبي
عن وجهي الذباب
والطائرات والثرثرة
أنا النهاية للبدايات
أنا البداية وأنا المرحلة
أنا ماؤك العذب
وللخصم ذكريات أجاج
وأنا أصغر من فتحة السياج
أتجول في المساء مع أصدقاء
يهتفون بالشوارع
مع أمهات، مع أطفال كبار،
مع ضحايا
يا أبي
ها قد صحوت
من بين حطام الزجاج
ها قد صحوت
بين أطلال المحاربين القدامى
سبارتيكوس، أبو ذرٍ،
علي ،والحسين..
سيجار غيفارا، وعمامة الحلاج
يا أبي
ها قد صحوتُ
أشعل فتيل السراج
كالحياة انبثق
أشعل فتيل السراج
بعضهم يراك اخضرار الأغاني
بعضهم، من جفاف اليدين،
يخشى الحريق
أشعل فتيل السراج
يحيا الفراش الساحر
على الجبال
على الأزهار
على الحوزات والتكايا
على المساجد والكنائس والمعابد
على المسارح
في البيوت
على الطريق
أشعل فتيل السراج
ينبثق الكلام العارم
والسلام السلام
ينبثق الحمام
وعصنُ الزيتونِ الملون المغامر
ومن كلّ فجٍ عميق
يتكاثر النحل المثابر
والهداهدُ
والخناجرُ
والورق الأبيضُ أيضا يتكاثر
والذبابُ
يا أبي
تكسرت من بعدي كلّ المريا
والأفق الملون من احمرار
عيني والضحايا
يا أبي
ها قد صحوت من حطام الزجاج
يا أبي
أشعل فتيل السراج
كالفراش احترق
كالنهر الغاضب انطلق
ألق بعصاك ملحا مباركا
على تعاويذ أوثانهم
تحرق ما يكتبون
يكتب تجار الفخار
حكاية الحضارات القديمة
يرسمون قصص العشاق
تجارٌ ومؤرخون
نيرون المغامر
أنطونيو العاشق
قصر السلطان المدجج بالرخام
والجواري الكثيرة
دواة عالمٍ، حذاؤه
وبعضُ مقتناياته
وأدواته كجوربه الممزق
ذباب على حافة الماء الآسن
ومؤرخون
وأضواء المدينة
تكنس كل البقايا والضحايا:
هذا التاريخ النقيّ أبيض
أسوار المدينة
ضوؤها الساطع
والشوارع والسكان
والسياج الشائك
من حولها أبيض
عظام طفلٍ تحت الركام
لا تهمّ، ناقش الفخار
أو عالم الآثار
ولا بعض مقتنياته وأدواته
كذراع أمه الممزق
كان يخبز الصباح في الصباح
وأقراص العسل
والكعك المحلى للمساء
وللحالمين
يغزل دود القزّ شرانق الحرير
كثوب أمي، كحصاني
يتبارز عليه الغزاة
منذ الكهوف الأولى
والأساطير العتيقة
كانوا يخرجون للصيد
في المناطق البعيدة
ويشربون نخب الآلهة
كانوا يكتبون بالدماء
أسماءهم والحديد
كانوا
قبل المطر الأخير
والمطر البعيد
صاروا يرسمون حدود
الغنائم والطوائف
والقديم والجديد
يتفقون يختلفون
يركضون ويلهثون
بالحجارة بالسيوف
بالبنادق بالطائرات
بالكلام المفخخ
بالأيديولوجيا
بالسراب
لكنهم، يخافون الموت مرارا
ولا نملّ الحياة
نهادن الشتاء
نرسم الخريف ذهبا
في كراسة الرسم
نملأ الأزقة بالأغاني
نتأمل صرصار الصيف
والجنادب والعناكب
نألف قصص الغيلان
والهدايا
حكايا الجدات
والقطط
نفتح النوافذ في الصباح المشمس
ككل الناس
لنا أسماؤنا على شواهد القبور
وحيواتنا العادية
بتفاصيلها الكثيرة
تزين الفضاء بالوداعة
بالزعتر البلدي
بكعك العيد
وأيضا بالبطولة
***
صرختُ ذات مرةٍ
في ليلتي الأولى، تحت القصف
قالوا: وجع الحياة
وتحت القصف بكيت ذات مرةٍ
في ليلتي الثانية
همهمتُ وابتسمتُ
قالوا : وجع الذكريات
وحمّى الأغنيات
في ليلتي الثالثةِ
امتطيت ثوب أمي القديم
حصاني الأبيض ودميتي
فوق الحصار
رأيت الشهداء يهبطون
جماعاتٍ جماعاتٍ
فوق سطح المساء
يتبادلون التحية على مهل:
سلاما سلاما
يفترشون البياض
والملح على الترابِ
حصيرا للسهر
وهمهماتٍ تبدّدُ الظلاما
يقولون للفراش : انتبه
يغزلون للشمس
خيطها الذهبي عاما فعاما
ينثرون، بذور الزهر الملون
اخضرارا والحماما
على إيقاع الريح ينشدون
ويرقصون
يعدّون الولائم مشاعا والقلاعا
يطلّون غرّا كالأفق البعيد
وينسلونَ
من النهاية إلى النهاية
يعبرون دهرا حتى البداية
يمرّون برقا ويرحلون
ينبجسون كالفطر دربا
كالسحاب كالمطر
كنهرٍ حالم
على شرفة الطبيعة
كان يغفو
على الفائت
على القادم
يغسلون الماء النقيّ
والحشرات والعواصم
يباركون الشعراء بالكلمات
والتاريخ بالملاحم :
في الليالي الصافية في العراءِ
علي ضوء القمر
في الزقاق الضيق
على بعد شارعين
من الحديقة المهملة
في الزنزانة في السوق
في سلة الخبز
عند غروب حاسم
ليس بعيدا
عن مخدع الأمير الساهم
في كلّ مرةٍ
يولد المقاوم
يوقظ الفجر قمحا
يهشّم الحصار كالزجاج
يا أبي
ها قد ركبتُ حصاني الأبيض توا
أشعل فتيل السراج .