يعد بعضهم مدينة المرسى التونسية الساحلية الخلابة، التي تسمى أيضا مدينة الصفصاف، حاضرة مستقلة بذاتها وذلك بالرغم من وقوعها في ولاية تونس العاصمة. فيما يعدها بعضهم الآخر ضاحية من ضواحي هذه العاصمة التي توسعت منذ نشأتها على تخوم قرطاج في مختلف الاتجاهات، بما في ذلك الشمال حيث تقع المرسى.
والحقيقة أن المدن التي توصف اليوم بأنها تشكل الضاحية الشمالية للعاصمة، وهي قرطاج وحلق الوادي والكرم وسيدي بوسعيد والمرسى وقمرت كانت تشكل في الماضي السحيق مدينة قرطاج التاريخية وظهيرها الذي يضم أراضيها الفلاحية ومنتزهاتها الغابية. لكن إنهاء العرب الأمويين في دمشق للدور الحضاري لمدينة قرطاج في تونس على يد قائدهم في شمال أفريقيا (حسان بن النعمان) الذي هدم قناة قرطاج المائية، مقابل نقل مركز الثقل في شمال البلاد إلى مدينة تونس، جعل الأخيرة تصبح قطب الرحى بعد مدينة القيروان وسط البلاد وتتوسع لتبتلع مدنا قريبة لا تبعد كثيرا.
الضاحية الشمالية
ومن بين المدن التي «استحوذت» عليها مدينة تونس في توسعها مع الهجرات العربية ولاحقا مع الإنكشارية العثمانية والأندلسيين المطرودين من شبه الجزيرة الإيبيرية ومع النازحين من الأرياف التونسية خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية وبعد الاستقلال، مدينة قرطاج وظهيرها بما في ذلك المرسى وأيضا منوبة وأريانة ورادس وغيرها والتي تحولت إلى ضواحي لمدينة تونس. وقد بات اليوم يصعب تمييز هذه المدينة عن تلك بعد التداخل المعماري والسكاني والتصاق هذه المدينة بتلك وبعد التقسيم الإداري الذي حول مدنا تاريخية كبرى إلى ضواحي وقرى صغيرة إلى مراكز ولايات تتبعها مدن كبيرة.
لذلك حين تسأل أي تونسي يجهل تفاصيل هذا التاريخ عن نشأة المدن في شمال تونس والتحولات التي شهدتها سيجيبك بأن المرسى هي جملة من الأحياء تقع في الضاحية الشمالية لمدينة تونس، وتبعد عن وسط العاصمة 18 كيلومترا. وتتميز المرسى بشاطئ بحري رملي واسع وجميل يشرف عليه جبل يمتد من سيدي الظريف إلى قمرت، بنيت فيه البيوت والمقاهي والمطاعم والفنادق وحتى القصور القديمة والحديثة، فهي بامتياز المنطقة السياحية والمتنفس لمدينة تونس العاصمة.
ويعشق سكان مدينة تونس الكبرى المرسى وأجواءها الرائعة على مدار العام، ففي الصيف يقصدونها للسباحة والسهر، وشتاءً للاستمتاع بمنظر البحر وقضاء الوقت في مقاهيها ومطاعمها العتيقة، على غرار مقهى ومطعم الصفصاف، وجمَله الشهير الذي بات رمزا للنادي الرياضي للمنطقة المسمى المستقبل الرياضي بالمرسى. كما يحبذ كثير من زوار العاصمة الإقامة في الفنادق الفخمة للمرسى وقمرت حيث الراحة والهدوء والبحر الجميل من الأمام والجبل من الخلف وذلك بعيدا عن صخب وسط العاصمة وضجيجها.
وتنشط في هذه الفنادق سياحة الشواطئ والمسابح وأيضا سياحة المؤتمرات، حيث يجد زائر تونس من مختلف الجنسيات ضالته من خلال فندق مريح وفخم وهادئ ومطل على البحر ويقع على سفح الجبل أو أعلاه وفيه قاعات للندوات والمؤتمرات. ثم إن مطار قرطاج الدولي لا يبعد كثيرا وبالإمكان تأمين التحول إليه في وقت قياسي، خلافا لوسط العاصمة حيث الاكتظاظ المروري والضجيج وصعوبة التنقل من مكان إلى مكان خصوصا في أوقات الذروة مع التحاق الموظفين والعمال والتلاميذ والطلبة بأماكن عملهم ومدارسهم وصروحهم الجامعية أو مع مغادرتهم لها.
معالم عديدة
وتتوفر المرسى على معالم تاريخية عديدة من مختلف الحضارات التي تعاقبت على تونس، فبالإضافة إلى انتمائها إلى مدينة قرطاج التاريخية الموسعة فقد استقر بها الرومان بعد سقوط قرطاج ثم الوندال والبيزنطيون فالعرب الفاتحون وأغالبة القيروان والفاطميون والصنهاجيون وغزاة بني هلال والهجرات الأندلسية والإنكشارية العثمانيون من شعوب البلقان والقوقاز. كما استقر بها أبناء العائلة الملكية الحسينية إلى جانب مدن باردو ومنوبة وحمام الانف وشيدوا فيها القصور والمباني الفخمة التي ما زالت صامدة إلى اليوم وتحول أحدها إلى قصر رئاسي وهو قصر السعادة، وذلك بعد إسقاط النظام الملكي في تونس سنة 1957 وإعلان الجمهورية من قبل الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ورفاقه في المجلس القومي التأسيسي.
وعلى غرار ما حصل في مدينة باردو، فقد سبق الحفصيون الحسينيين في تشييد القصور والإقامات ومن ذلك العبدليات التي شيدها السلطان الحفصي أبو عبد الله محمد في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، وهي العبدلية الكبرى، والعبدلية الوسطى التي تسمى أيضا البرج الحفصي، والعبدلية الصغرى التي يسميها بعضهم قصر أحمد باي باعتبار أن أحمد باي الثاني قد أقام فيها.
ويغلب على المباني والقصور المشيدة في المرسى الطابع الهندسي التونسي العتيق والطابع القرطاجي الذي أخذه القرطاجيون إلى إسبانيا منذ العهود القديمة، وأعاده الأندلسيون مع طردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية، وسمي طرازا معماريا أندلسيا رغم أنه قرطاجي. كما أن التأثيرات الأوروبية موجودة في القصور المتأخرة في الزمن وخصوصا التأثيرات الإيطالية والإسبانية فأغلب الملوك الحسينيين كانوا من أمهات إيطاليات أو إسبانيات وبحكم علاقاتهم الوثيقة مع هذه البلدان؛ فقد استجلبوا مهندسين من هناك لتشييد القصور والإقامات.
وقد تعرضت بعض القصور إلى الهدم بعد الإطاحة بالنظام الملكي في تونس ومن ذلك قصر التاج فيما هناك قصور باتت في حالة يرثى لها ولم يقع ترميمها مثل قصر أحمد باي. وبالمقابل فإن هناك قصورا في حالة جيدة ويتم استغلالها إلى اليوم على غرار قصر السعادة الذي تحول في العهد الجمهوري إلى إقامة للرئيس بورقيبة ثم إلى قصر للضيافة للرؤساء الأجانب وأخيرا إلى مقر لبلدية المرسى. وشهد هذا القصر لقاء تاريخيا بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس اللبناني أمين الجميل وذلك في الثمانينات في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية وفي إطار جهود الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة لنزع فتيل الأزمة في لبنان.
ومن معالم المرسى مقهى ومطعم الصفصاف الذي بني على الطراز المعماري التونسي التقليدي، والذي لا يوجد تونسي لم يحتس فيه قهوة أمام الجمل وهو يدور حول البئر لاستخراج الماء، ولا يوجد تونسي لم يأكل فيه البريك الذي تبدعه أيادي المرساويين. ولا يوجد تونسي أيضا لم يمش على كورنيش المرسى وهو يأكل البوظة/ (الآيس كريم) أو (الغلاس) أو مثلجات سالم الذي يحاذي محله القديم المحطة النهائية العتيقة لقطار الأحواز العتيق بصافرته المميزة التي تشعر سامعها بعبق الذكريات لخط قطار أنجز منذ القرن التاسع عشر قبل حلول الاستعمار الفرنسي بتونس.
ومن معالم المرسى قبة الهواء، وهو مقهى ومطعم قديم بني على الشاطئ مقتحما البحر وقد زاره عديد مشاهير في الماضي من تونس ومن الخارج ولا يمكن تخيل شاطئ المرسى من دونه، ولا يوجد تونسي لم يتجول على شاطئ المرسى أو سبح في بحرها بقرب هذا البناء القديم. لكن المعضلة أن هذا المعلم التاريخي مهدد بالانهيار أيضا ويستوجب التدخل العاجل لترميمه وإعادة الحياة إليه للحفاظ على الذاكرة التي قد تتحسر على وجوده يوما ما على غرار معالم أخرى اندثرت بفعل الإهمال.
وفي المرسى عاش ودفن أحد أقطاب التصوف في شمال أفريقيا والعالم هو سيدي عبد العزيز القريشي المهدوي الذي يعتبر الأب الروحي للشيخ أبي سعيد الباجي والكثير من الأتباع والمريدين على غرار الشيخ محي الدين بن عربي وغيره. وتوجد زاوية سيدي عبد العزيز في مكان مرتفع بمدينة المرسى يطل على البحر، ويحرص أهل المرسى على الدفن بقربه بمقبرة تحمل اسمه. وتتم زيارة مقام سيدي عبد العزيز كل يوم جمعة ويأتيه المتصوفة من كل الأصقاع.
مدينة حية
وعرف سكان المرسى في الماضي بتعاطي النشاط الفلاحي وذلك قبل أن تندثر الأراضي الفلاحية تدريجيا من المنطقة، وقيل أن زراعة ما يسمى في تونس القناوية/ وهي بلغة الشرق “الباميا” التي تطبخ مع المرق، وكانت دارجة في الماضي، وهو ما يفسر -على ما يبدو- إطلاق اسم «القناوية» على النادي الرياضي للمدينة أي المستقبل الرياضي بالمرسى. ويعود سبب اندثار الأراضي الزراعية في منطقة المرسى إلى التمدد العمراني السكني وإلى تشييد الفنادق الفخمة والمراكز التجارية الكبرى
وتتوفر المرسى اليوم على كل المرافق التي تجعلها قبلة للزوار بشكل يومي ومغرية للراحة والاستجمام نهاية اليوم أو نهاية الأسبوع وحتى لقضاء إجازة الصيف، خاصة مع بحرها النظيف الذي لم يصل إليه التلوث الذي عادة ما يطال شواطئ المدن الهامة. كما أنها قريبة من العاصمة التونسية وبالإمكان قضاء الشؤون من قلب العاصمة والعودة إلى المرسى بسرعة سواء عبر قطار الأحواز التاريخي أو عبر الطريق الواسعة المعروفة عند التونسيين بطريق المرسى.
وللإشارة فقد تم تصوير عديد الأفلام والمسلسلات التونسية والعربية والأجنبية في المرسى بالنظر إلى جمالها وسحرها باعتبارها خلقت لتكون راقية ومبهرة وملهمة لكبار السينمائيين والفنانين. وتوجد بالمرسى قاعتان للسينما تعرض فيهما الأفلام بشكل مستمر وأيضا خلال المهرجانات السينمائية على غرار مهرجان أيام قرطاج السينمائية.
وقد غنى الفنان فريد الأطرش عن المرسى وهو الذي اعتاد على زيارة تونس خلال العهد الملكي واستقبل فيها استقبال الملوك وتم اعتباره أميرا من قبل العرش الملكي التونسي في ذلك الوقت قبل قيام الجمهورية. وجاء في أغنيته عن تونس والمرسى «بلاد الحوت والغلة والزيتون.. تونس أيا خضراء يا حارقة الأكباد غزلانك البيضاء تصعب على الصياد، غزلانك في المرسى وإلا في حلق الواد.. على الشطوط تعوم».
وتشتهر المرسى أيضا بالنشاط الرياضي فناديها الرئيسي، المستقبل الرياضي بالمرسى لديه فروع في مختلف الرياضات الجماعية مثل كرة القدم واليد والسلة وخصوصا الطائرة التي يعتبر عملاقا من عمالقتها في تونس رغم تراجعه في فترة ما. كما لدى هذا النادي فروع في الرياضات الفردية، التنس والسباحة وقد ساهم المستقبل الرياضي بالمرسى في تكوين البطل العالمي والأولمبي في السباحة التونسي أسامة الملولي، الذي ينعت بقرش المتوسط.
وقد عاش في المرسى مشاهير في تاريخ تونس في مختلف الميادين ففيها دفن آخر ملوك تونس محمد الأمين وذلك سنة 1961 وهو مطاح به من العرش، ومن الصدف العجيبة أن المقبرة ذاتها شهدت دفن نجل الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي أطاح والده بالعرش الملكي في تونس، وغير النظام إلى جمهوري. وفي المرسى وقع ملك تونس سنة 1883 معاهدة المرسى التي حولت تونس من دولة منقوصة السيادة بمقتضى معاهدة باردو سنة 1881 إلى بلد عديم السيادة يسيّر فيه الملك دواليب الدولة مع مقيم عام فرنسي.
وفي المرسى أيضا عاش العلامة التونسي الفقيه الزيتوني محمد الفاضل بن عاشور الذي ذاع صيته في أرجاء العالم الإسلامي في علم المقاصد، وكان إلى جانب ذلك نقابيا من الجيل الأول للاتحاد العام التونس للشغل، وأول من ترأس الاتحاد. والعلامة محمد الفاضل بن عاشور هو نجل العلامة خريج جامعة الزيتونة محمد الطاهر بن عاشور، وكلاهما من أعلام الفقه والشريعة في تونس وفي العالم الإسلامي. ومن أهم أساتذة جامعة الزيتونة وشغلا دار الإفتاء وتزخر المكتبة التونسية والعربية والإسلامية بمؤلفاتهما.