تعتمد رواية «في الطريق إليك» لأحمد خلف على صراع الشخصية مع المحيط لإنتاج وحداتٍ سرديةٍ تتّصل بها وتدور حولها وتخاطبها منذ العنوان الرئيس، حيث يكون الخطاب موجّها إلى شخصيةٍ ما، لها اتّصالٌ مباشرٌ مع الشخصية المحورية، حيث يكون هناك متحدّثٌ يخاطب آخر معلوما ومتّجها نحوه بالإشارة، وعلى القارئ والمتلقّي معرفة من هو المقصود.
لكن ما يهمنا ليس تقشير العنوان، بل هي صياغة الرواية وتدوينها، على أيّ مهارة اشتغل الروائي الذي يعد واحدا من روّاد السردية العراقية، وله الإنتاج الكثير والغزير. هنا المتلقّي سيبحث عن مصائرَ وأفعال، مثلما يبحث عن مهاراتٍ واشتغال، وتلك هي التي تحدّد ماهية العلامة البارزة. فالمواضيع والحكايات متوفّرة في الخيال، مثلما هي متوفّرة في معنى التلقّي في القبول، لكن أحمد خلف يعبّر عن (عشق الكتابة) في ما قبل بداية الرواية، وكأنه أرادها بابا آخر للدخول إلى مدينة الرواية، بعد باب العنوان، وكأنه يوحي في بداية البحث عن القصدية والتأويل، أنه يقصده نفسه ويتعامل مع الآخر على أنه هو فهذه الصفحة الأولى قبل الاستهلال، كمحاولةٍ لبرمجة الاتجاه العام للقراءة، من أن على القارئ المتمتّع أن يكون حذرا في القبول المباشر، دون تفكير، وعلى المتلقّي أن يكون أكثر تفاعلا مع السردية بطريقتيها الطبيعية، التي تعتمد على تدوينٍ مبرمجٍ، وكذلك متفاعلة مع الصناعة التي تحتاجها وتتطلّبها روايات كهذه، تكون فيها الواقعية محكمة القبضة على محورية الفكرة، لكنه أرادها أن تكون مخيالية في ترتيب الأوضاع الداخلية للبناء العام. فليس كلّ بيت هو بناء تقليدي، بل ما يحتويه البيت من تطوّرات سردية، تجعله يكون بيتا لكنه منتمٍ إلى التطوّرات التي أحدثتها السردية الحديثة، التي تجعل من الفكرة الهمّ العام، وتقود الحكاية بشخصياتها إلى التفاعل مع الحدث الحكائي.
الاستهلال وبدء البناء
الرواية انبنت على أحد عشر فصلا مرقّما، وكلّ فصلٍ كما هي طريقته في البناء، لا يجعل فيه فواصل أو نجوما لالتقاط الأنفاس، لذا هو يدخل مباشرة في الحدث دون تمهيد، مستخدما المستوى الإخباري الذي يساعد على التلاحق والملاحقة العامة للشخصية المحورية، التي جاءت محمولة على صيغة الغائب، رغم أن العنوان كان موجّها بصيغة المخاطب. فالاستهلال محطّة التلاحق، والاسم هو المحور الذي ستقود إليه المحاور الأخرى، والزمن صباح جديد تعود أن يكون معه مبكّرا وباكرا، لكن هذه المرّة (لديه عزم شديد لمواصلة الحياة). فما هو الفعل الذي سيقوم به (سعيد) وهو الاسم الذي اختاره للتعبير عن معترك وتفاعل الاسم، وهو أمر يضخّه في الاستهلال في الصفحة الأولى، ليكون التلقّي باحثا عن تفاعل المستوى الإخباري مع المستوى القصدي.. (فالعالم يبدو صعبا وقاسيا لا يمكن أن يتجانس معه) ليعطي الحجّة كمستوى تحليليّ واضحٍ، كون سعيد (استلم ورقة إحالته على التقاعد الذي أورثه مرض الربو التحسسي).
وفي الاستهلال تتوضّح أو تتفكّك خلفيات الشخصيات ومعانيها، التي سيستلمها المتلقّي منذ البداية على أنها الاستدراك والإدراك، بإعطاء الملامح العمرية، فهو متقاعد، والحالة الصحية، مريض، ويتبيّن أنه يعمل في جريدة (كان المدير المباشر للجريدة رجلا غريبا عن وسط الصحافيين المعروفين له) ثم يعطي في الاستهلال تحليلا آخر سيتركه المتلقّي إلى زمن قراءةٍ مقبل في تفكيك العلاقة، أو الإمساك بالقصدية، التي سيكون لها المتن السردي بالمرصاد، حين وجد المدير(منحنيا على سجادة الصلاة يبسمل بآيات من الذكر الحكيم) لتنكشف العلاقة التي منحها الاستهلال علامة الصراع، ليس مع الماضي، بل مع الحاضر الجديد (أطلق ساقيه للريح ليولّي الأدبار دون توديع الرجل) وهنا سيكون كما يقال (مربط الفرس) في الإمساك بالمستوى التأويلي المتعلّق بالفكرة، التي ستتم مناقشتها بالاعتماد على فاعلية السرد من جهة، ومهمّة الحكاية التي سيقودها سعيد من جهةٍ ثانية. ونرى أن الاستهلال اشتغل على أكثر من نقطةٍ تفاعليةٍ مضمرةٍ غير مكشوفة، أو هي بحاجةٍ إلى كشف المضمر المقبل:
أوّلّها: إنه كشف لنا الحاضر ومتغيّراته التي تمّ وضوحها في فعالية الصلاة للمدير.
ثانيها: إنه كشف الأحداث التي ستدور حولها الرواية، وهي أحداث ستكون لا محال، بين ماضٍ سبق التقاعد، وأحداث مستقبلية مع بعد التقاعد، الذي سيكون حاضرا بطريقة المستقبل.
ثالثها: إنه سيتّجه إلى تحليل الأمور بطريقة الإخبار المتصاعد، بمعنى طريقة من يريد تحليل بؤر الصراع، من أجل أن يكون تبئير الأحداث، وفق الميتا سرد في المتن الحكائي. فالحكاية رجل متقاعد ربما تكون طبيعية، وليست الأولى في التناول الروائي، لذا فإن فهم هذه الخصيصة تجعل البناء وبؤر الصراع تأخذ الأبعاد الجديدة في تبنّي السرد لغة وترتيبا.
وهو الأمر الذي جعل الاستهلال لا يتوقّف عند الصفحة الأولى، أو الثانية ولا حتى الثالثة، بل جعله استهلالا مستمرا، ليضع بين فترةٍ سرديةٍ وأخرى بؤرة صراعٍ، سواء كانت إيجابية أم سلبية (أدرك في الآونة الأخيرة أن الهدوء الذي اتسمت به حياته إنما بفعل التجربة والعمر). حتى إنه كان محسودا من معارفه، لأن له (المقدرة العجيبة، على التكيف مع وحدته داخل زاويته المنعزلة عن الاخرين). ثم يتفاعل الصراع حين يجد ورقة قديمة هي (رسالة لم يتأكد من مصدرها بعد، أن قلبها على الوجه الآخر التي كتبها وقرأ كلاما أدهشه (بأي سحر تكتب؟ وبأي لغة وبأي مجاز؟ وبأيّ فنتازيا؟). ونرى أن الفصل الأوّل وكأنه هو الاستهلال الكلّي، كونه وضع كلّ (المحتويات) التي يريد مناقشتها وتفكيك فاعلياتها ومكوّناتها (أدرك أني امضيت بقية الليل في البكاء. لم يعلّق كثيرا غير عبارة واحدة ظلت ترن في خاطري ولا تبرحه قط: أيها الولد الغفل لات وقت ندامة. وهو نهاية الفصل الأول.
الحكاية والبناء
حين تفهم الحكاية تسهل عليك عمليات الإمساك بالتأويل، وحين تبحث عن التأويل والقصد، سيكون الأمر متاحا للبحث عن المبنى السردي وما فيه، وعلى المتن الحكائي، وما متعلّق به. فالحكاية برزت منذ الصفحات الأولى، لكنها تركت جبل الإمساك بالتفاصيل تحت الماء، لذا فإن المستويات السردية ظلّت مرهونة لما يمكن أن يتداخل مع المستوى الإخباري الذي كان مسيطرا إخباريا على كلّ شيء. وكلّ ما يورد سواء الماضي أو الحاضر، الذي برز واضحا ومكشوف الأضلاع. فهو أيّ الراوي يحلّق بالأحداث، وما يمكن أن يضع هنا أو هناك، بحبل الفصل والمحتويات، إن كان الزمن الذي يتحدّث عنه هو الماضي، وما يتّصل به من الحاضر، أو الحاضر وما يتّصل به من الماضي، بمعنى أن طريقة الروي أخذت عدّة طرق للحكي.
الأوّل: زمن ما قبل التقاعد، حيث الأمر الذي يتوضّح انتهاء العمل بزمن مقداره 35 عاما. وهو زمن مأخوذ من ذاكرة العراقيين، وما يعرفونه عن زمن ما قبل 2003.
الثاني: زمن ما بعد عام 2003، حيث الزمن لمدّة عام حيث تقديم طلب التقاعد لعدم القدرة على المواصلة مع الوضع الجديد وهو محفّز سردي آخر للمقبل.
الثالث: الزمن المستمر الذي سيكشف الزمنين الماضيين بفاعلية السرد، الذي تعمتد عليه الحكاية مثلما تعتمد عليه الفكرة المراد الوصول إليها ولها.
الزمن الرابع: زمن التسريد الروائي الذي تبناه الراوي في كتابة الرواية وهو يجمع الأزمان الثلاثة في مناقشات تحليلية قصدية.
وهذه الأزمان تعطي الحرية للتحرّك نحو السرديات الأخرى، التي تتعلّق بالماضي والحاضر وما جاء به الاستهلال من مقوّمات العمل، التي ستكون العمود الرئيس، الذي يقف في منتصف البناء. ويمكن تلخيصها بعدد من الأحداث التي تنطلق عبر شخصيات لها اتّصال بالشخصية الرئيسية (سعيد) التي جعلها الروائي ممكنات الكتابة الروائية، ليس بطريقة الرواية داخل الراوية فحسب، بل بطريقة استلهام رواية أخرى، لتكون رواية موازية وفق الميتات السردية:
أوّلا: كتابة الرواية التي يعدّها حلمه وهي تعني الكثير في الروي التسجيلي للأحداث، ورسم الخطّة التي سماها بالحاسمة، لكنها ستروي أمرا لا يبتعد عن الواقع السياسي تحديدا: (زمن يتحزم فيه اللصوص لسرقة كل شيء ثمين وباهر، بقوة العضلات الجبارة، أو بإيحاء من قوى أكبر من طاقتها على المواجهة ومقاومة اللصوص العفاريت).
ثانيا: شخصية ناهد المغرمة بالكاتب، التي تتابعه حتى وهو في مراحل متقدمة من العمر وحتى أدخل قصة (بئر الآبار) التي لها دلالة الترميز واستنطاق المألوف بطريقة لا يريدها مباشرة.
ثالثا: حكاية أخرى للتضمين وهي حكاية الملكة زبرجد، التي وجدها (وخادمها عبد الواحد أمرا محببا إلى نفسه وموضوعا شيقا) كون أن الحكايات من هذا النوع يغريه. وهو ما يمكن أن يضع إزاحات للكثير من الأحداث التي تتّصل بالإيمان، أو الأيروبيك.
رابعا: استذكار الحرب وشخصياتها العديدة التي استثمرت استثمارا سرديا، لعرض الحالات التي تمتد منذ البدايات الأولى، حتى ما بعد الإحالة على التقاعد.
خامسا: هناك أحداث كثيرة، سواء شخصية أو عامة كموضوعة الحرب والأبطال المتخيلين خارج الفاعل الواقعي والتفاعل المخيالي.
سادسا: جعل الرواية الثانية التي يكتبها البطل، هي الرواية الشارحة لمعترك الأحداث، لذا فإن هذا التحوّل جعل المبنى السردي يوازي المتن الحكائي، حيث يتحدّد التلقّي بعناصر الرواية، وذكرها في العديد من الفصول، لتكون متنا موازيا، وهو أيّ الروائي يبحث عن هذه الدلالة (يمكن أن نسميه والحالة هذه: القارئ السلبي، أو القارئ الاستهلاكي. أما النهايات التي تبنى على الفواجع، فنعتقد أنها دبرت في ليل). لتتكشّف الخيوط في النهاية التي أريد لها أن تكون مفتوحة ومغلقة معا، حين يتم تعالق الأحداث الشخصية التي يرويها الراوي عن سعيد مع التي يرويها سعيد في روايته.
إنها رواية التداخل الزمني والمكاني والتفاعل السياسي والمتغيّرات والاقتراحات، حتى في النهاية أن «في الطريق إليك» موجهة إلى القارئ ليضع النهاية التي يريدها لتفاعل كهذا.