1 ـ ما القصيدة البردونيّة؟
هل البحث عن وصف ما لتمثيلات الخطاب الشعريّ ممكن دون وعي بالوجود المنطقي؟
إن الوعي بالمفاهيم المنطقيّة يعني الحصول على توصيفات مقاربة للتواضعات الاصطلاحيّة التعريفيّة.. القصيدة البردونيّة هي جزء من بنية الخطاب الشعريّ، تتقاطع مع تحولاته التراتبيّة، كما تحتمله مدلولات التشابه الأدائي، وقد انضافت إلى نظام تشكيليّ معيّن تتناوبه مرحلة الإجراء الأدبيّ الثقافيّ زمن متواليّات معرفيّة معاصرة/ ما قبل معاصرة.. هي طريقة اختصَّ البردونيّ بإنجازها كتابيًّا في شعره تعديلًا على هوية اشتغاله المعرفيّ مع الأخذ باعتبارات المسافة بين الوعي واللاوعي.. هي مقدرات فكريّة طرحها في مساحات الانزياح مقابل رواج ما سمي بالاختلاف والمغايرة، موظفًا فراسته التخييليّة للعبور على سياقات الصدمة الحضاريّة إلى (زمانٍ بلا نوعيّة)
2- النسق التراتبي (القصيدة تصاعديًّا):
بالنظر إلى مجموعات البردوني – شعرها ونثرها – نجدها تتدرج تصاعديًّا بما تقتضيه علاقات الانتقال والمثاقفة دون أن تكون البدايات الدنيا طرفًا متصلًا بعد منعطف النهايات العليا، أي أن النظام الدلالي يسير باستقامة دائريّة، متمرحلًا تقابليًّا، ومترافقًا تناسبيًّا، فتتعاقب الثنائيّات، وتتشابك أدوات اللغة اعتباطيًّا من غير أن تفقد العلاقات الأحاديّة انتماءاتها داخل الحقل الواحد.
أمثلة ذلك أن تتدرج المجريات التاريخيّة كما تتدرج المجريات الأيديولوجيّة، وتتدرج المجريات الزمانيّة كما تتدرج المجريات المكانيّة، وهكذا يتوازى التاريخ مع الجغرافيا، ويترتب على التاريخ تاريخ وعلى الجغرافية جغرافية!!
كل ذلك يحدث في مسارات تبادليّة تشبه سيناريوهات الإنتاج اللغويّ بتوليداتها وتحويلاتها وتوزيعاتها، وعلى اختلاف مستوياتها: الصوتيّة، والصرفيّة، والوظيفيّة، والدلاليّة، والخطابيّة.
كيف جاء الصباح؟ من أي منحى؟
هل درى أين بات، أو كيف أضحى؟!
ربما قال: هل أنا جئت حقًّا؟
ولماذا؟ وكيف سميت صبحا؟!
ربما قال: ما فرحت، وقالوا:
كلما جئت، جاءت الأرض فرحى
هل شكا أن نصفه مات رميًا
في صباه، ونصفه مات ذبحا؟
وعلى رغم كسره وهو غصن
أنبتت كلّ كسرةٍ منه رمحا
علّه أخبر العصافير صمتًا
وأجادت إجابة غير فصحى
عندما اجتاز ربوة صاح (دوحٌ)
للكناري وللشحارير: مرحى
فصرت بلا يدين، بلا أماني
لأنَّ «البصرة» انتعلت جبيني
وأعطت ذيل «خنزيرٍ» عناني
سقتني السم، واجتَّرت وثاقي
وأرخت فوق نهديها احتقاني
فكنت أرى الشوارع تقتفيني
وتسبقني – إلى السجن – المباني
وأسمع زفّة هل ذاك عرسي؟
أدفني؟ أم سقوط من ازدراني؟!
ليس بيني وبين شيء قرابة
عالمي غربة، زماني غرابة
ربما جئت قبل، أو بعد وقتي
أو أتت عنه فترة بالنيابة
غيّرت وقتها الفصول، أضاعت
أعين الشمس والنجوم الثقابة
منتهى الصحو سكرة سوف تصحو
من سترثي، ومن تغني (حبابة)؟!
جاء من يسبحون في غير ماء
وعلى الماء يزرعون الكتابة
يا زمانًا من غير نوع تساوت
مهنة الموت واحتراف الطبابة
ينمحي الفرق بين عكس وعكس
حين ينسى وجه الصواب الإصابة
والانتهاء إلى أطراف التيار الكلامي الذي مرّ على المفردات القيميّة دون العبث بمحتويات المادة إلا لتحقيق رؤية قصديّة جديدة تتشاكل ومقولات الزمن المستقبل والمستمر أو الزمن العام المتوارد بداهة:
زماني حنين ليوم مضى
لمجنى غد قبل أن ينبتا
لطيفٍ من الأمس يرتد طفلًا
لحلم من اليوم يبدو فتى
لمحبوبة وعدت أن تجيء
وجاءت لمامًا، ولكن متى؟
أحبَّتك شينًا وعينًا وراءً
وأحبَبْت باءً ونونًا وتا..
أما يرسم القلب تاريخه؟
مراياه تمحو الذي أثبتا
فلا تبتدي الجمعة السبت منه
لأن الخميس به أسبتا
كم الساعة الآن ؟ فاتت عصور
وعادت ، ولا مرَّ من فوَّتا
أما كتكتت ساعةّ، في الجدار؟
جدار بلا ساعة كتكتا
أللشوق شوق سوى شوقه
وأغبى من الوقت من أقّتا
أأصغى لهذا المغني سواه؟
فمن ذا تغنى ومن أنصتا؟!
يحب الناس كل الناس حب الأهل والجيرهْ
يسمي الحب قلب القلب يعطي البغض تفسيره
لماذا كلهم هذا؟ أروح القصر غريرهْ؟!
يسائل وهو يدري ما نوايا كل تأشيرهْ !!
نسيج تضامِّه نسيج وحده، تقانتُه الأسلوبيّة تقانة إسقاطيّة تنهمر من شاهق توليداته الذهنيّة إلى اتجاهات المحاكاة الباحثة عن انتماءاتها إلى زمنٍ افتراضي:
فيشتَفُّ ما خلف المصابيح والكوى
كما يقرأ الأبراج راعٍ تفيلكا
وينصبُّ من جمهور «غزَّة» ينتمي
إليها، ويجتث الدَّخيل المُمَلَّكا
وفي غمرة العدوى تظاهر وحده
وهاج كمن يرمي بـ(تيوان) (دهلكا)
فمسّاه شرطي وثانٍ وثالثٌ
أحالوا اليقينيّات فيه تشكُّكا
وقال: ضحايا يسلخون ضحيَّةً
ترى أينا يا سوط للسر أدركا؟
وغاص يُغنٍّي في شوارع قلبه
كما يفحص الطفل الكتاب المُفكَّكا !
3ـ تواردات الاستباق
يُدهِشُ البرودني القارئ قبل أن يباشر توقعاته، وتتوارى خلف آكامه عجالات البلاغ منبية عن جارف استباقاته الآتية من أغوار فلسفته الوجوديّة العميقة، فيهمي القصيد كبوارق رحلة طويلة إلى عوالم النفي والاستيطان، كأنَّما يستهل قدومه الشعري من فلتات العصور الضائعة:
المستهل الآن يبدو الخاتمة
أتعود أم تأتي الفصول القادمة؟
القادمات مريرة، أو أنها
أحلى؟ تعاكست الظنون الراجمة
أهناك قادمة؟ يقال جميعها
قدمت كواهمة، وولّت واهمة
ويُقال: أودت مرتين، ومرَّة
فقدت قوائمها، وأغفت سالمة
ثم :
تحوَّلت غائيًّا من الموت أبتدي
إلى غاية أعلى، ستضحي وسائلي
أللمرء ميلادٌ يموت ومولد
بلا أي حدٍّ؟ ما الذي يا تساؤلي؟
وقد تأتيه الإجابة :
ما للبداية بدءٌ كي تلوح لها
نهاية ذات بدءٍ غير مُنْعقدِ
مهَّدتُ للذاهب الآتي فكيف جرى؟قدمت الاثنين ـ يا هذا ـ على الأحد
وعليه، وجد علائم تشبه أن تكون كما يقول:
الزمان أنحل أبحارًا دمًا
البيوت استوطنت ريح الزَّمان
المتى أين، وماذا ها هنا
وعظم المنحنى، كانت فلان
الأسامي والموامي والحصى
كلها رقم، ثلاث، أو ثمان
فلا نستغرب هروبه إلى صوته، إلى أغرب القرارات:
كان يبكي، وليس يدري لماذا؟
ويغني، ولا يحس التذاذا
من سراديبه إلى البوح يرقى
يمتطي صوته، ويهمي رذاذا
وإلى أغرب القرارات يرنو…
ويناغي كالطفل : (دادا، حباذا)
أي هجس عن المغارات يروي
قيل : يهذي، وقيل عنه: تهاذى !!
وإلى ذلك كله:
يجيء بلا وقت، وبالوقت يلتقي
أيغدو؟ أيسري؟ أي وقتيه يتقي؟!
يقاوي سُراه أم يداري غُدُوه؟
إلى قصده يجري، ومجراه زئبقي
يقول الحصى: من ذلك الطالع الذي
تقول خُطاهُ للمراعي: تعملقي؟
ينادي الأخاديد التي ملَّها الثوى:
هناك طريق فاسبقيني أو الحقي!!
وكأنما يشفُّ عن استراتيجيتين لاستقلاليّته الشعريّة كانت تواردات الاستباق إحداهما، لتكون توالدات الارتداد ثانيتهما، ليحاول القارئ الوصول إلى معنى المعنى ومرجعيّة الشّيفرة الكلاميّة التي تستنطق بواطن النص ومستترات أوجههِ.
توالدات الارتداد:
كالتغذية الراجعة يحيل النص البردوني قارئه إلى مهادات الاقتران الشاملة للماثل التاريخي أو الفلكلوري أو الشعبي وفقًا لمقاييس حراك تناظري أخاذ:
أهْله كل جذوة، كل برقٍ
كل قفرٍ، في قلبهِ وجهُ (سلمى)
تنمحي كُلُّها الأقاليم فيه
ينمحي حجمه، ليزداد حجما
تحت اضلاعه (ظفار) و(رضوى)
وعلى ظهره (أثينا) و(روما)
يغتلي في قذاله (الكرخ) يرنو
من تقاطيع وجهه (باب توما)
وتتفاداه الزوابع أن يشي بأسرارها القادمة:
وكنت من ساق (وضاح) أدب إلى
عرقوب (أروى) طريقي الموت والغزل
وكان ينجر ميدان على فمه
كما تشكى إلى (ذي الرمة) الطلل
وكانت الهضبة الصفراء مثقلة
أولادها في طوايا صلبها اكتهلوا
شيب الأجنة أقسى ما تكابده
كيف التقى في حشاها العقم والحبل؟
وكنت من كائنات الليل واحدة
وكان أتفه ما أشتاقه الأمل
هل أصفر الآن؟ يأتي الجن أسلمهم
نفسي، لكي يأكلوني مثل من أكلوا
يقال: كانوا شياطينًا لهم خطرٌ
تطرَّفوا زمنًّا كالناس واعتدلوا
ولعل اكتمالاته أن تبدأ من الأخير، فيردد:
هذي (الدراما) من الأحجار أحرفها
ومن نقيق الغبار الدّور والبطل
هل بحت يا ريح، بالأسرار؟ تدخلني
عجلى، تبعثر ذراتي وتنتخل
وكان يلثغ نجم، وعده قدر:
على قناديل قلبي، سافِروا تصِلوا
كانت تفرع من عينيه أغنية
وكنت مني إلى عينيه أنتقل
وأستحيل بروقًا، شوق أودية
غمامة، بعروق الأرض تنغزل
وكان يبدأ حلمًا من أواخره
وأستهل نشيدًا سوف يكتمل
وكان يهمي ندَّى جمرًا، وكنت أنا
أجمّع الغيم في كفي واشتعل!!
لم يكترث بالوصول اكتراثه بنزوة الوصول، فكان يقول:
بودي أن أفر الآن منه
وأدخل نزوةً في رأس جني
وأسبح فوق ومضٍ لا يُسمى
ولا يلقى المُلقِّب والمُكني
أما لماذا ذلك فتعليله ما قيل على لسانه:
أحولُ قصيدةً لما أقلها
وخفق الصمت قافيتي ووزني
هنا، في لا هنا أمتد جسرًا
إلى الوطن الذي فوق التمني
ومن ماهية أخرى أوافي
فأختار الذي أمحو وأبني
وأطوي لحد ذاكرتي ورائي
فلا أهذي بـ: كنت ولا كأني
لأني صرت غير أنا، وعصري
سوى عصري، وفني غير فني
أليس حمى حنيني لا يضاهى
بمقياس التيقن والتَّظني ؟!
ولكن المتلقي لا يجد بُدًّا من الارتداد إلى مقاييس التَّوق والحنين بعد رحلة الشوق الأبدي إلى عوالم البردوني:
ترى أرتد !! كلا، سوف أمضي
وأنت معي رضيع يدي وحضني
تبنَّيت اغترابي، عدت طفلي
تجاوزنا الأبوة والتبني
قبيل الآن كنا اثنين شكلًا
فصرنا الآن كلًّا، لا يُثَنِّي
فأغرتني القصيدة بالتحدي
وأغراها بهم أخفى المعاني
تغاضى العارفون وثرت وحدي
كفاني هتك ما حجبوا، كفاني
ويدخلني، يجدِّد عنفواني
التضام الدلالي:
ترابط الكلمات مع معانيها، ومقاربة المعنى والدلالة للمستوى المطلوب من الانتظام بين عموميات النص وخصوصياته وفكرته ومحتواه.