يسعى الفنان عصام عبد الإله لإنتاج لوحاته من خلال الفكرة التي تعيش في مخيلته ليجعلها محسوسة، والقدرة على تنفيذها داخل الإطار ليجعلها ملموسة في المشاهدة. فالفكرة هي أساس حركة الفرشاة، والفرشاة تأخذ الإيعاز اللحظوي من بنية الواقع الذي يعيشه، واللحظة التي ينغمس فيها مع هذا الواقع. فالفكرة تحيله إلى اعتماد الواقعية كما هي، ولكن بطريقة تشكيل العناصر، أو الرمزية التي تعبّر عن هندسة الأشكال التي تتداخل معها الكلمات في بعض الأحيان، للتدليل على مكان الفكرة أو عائديتها، ليس من خلال الفاعلية اللونية فحسب، بل من فاعلية المكان الذي أريد له أن يكون في منطقةٍ عليا من التحاور والمحاورة، والتجاور والمجاورة.
فهو يميل إلى جعل اللوحة مكتنزةً بالدلالات، حتى تلك التي يكون فيها الواقع مرئيا بوضوح، كما في لوحات الهور والبلم والصياد، أو اللوحات التي ترتكز على الرمزية، كما في لوحات الوجوه التي يوزّعها على مساحة اللوحة، أو الحركات الفرشاتية، ليعطي للرمز مفعول النطق، إذا ما تمعّن المتلقّي في استبيان الواقع المخفي تحت ثوب الرمزية. لذا فإن اللوحة في تفكير عبد الإله، تأخذ جانبين مهمّين في عملية طريقة الاشتغال.
الأول: المواد الأولية التي يستخدمها من فكرةٍ وموهبةٍ وحركة فرشاةٍ وتناغم وهندسة، وهي بكل تأكيد متوافرة مع كل فنان تشكيلي أو فنان نحتي.
الثاني: طريقة الإنتاج التي تمنح الكلّ اللّوني عبر قراءةٍ فاعلةٍ للمحتويات الكليّة، التي يضعها أمام المتلقّي، ليقرأ بدهشةٍ حركة الخطوط والمحاكاة معها، والتحاور، لفهم المعطيات التي دخلت في الإنتاج النهائي.
تعدد الأفكار
اللوحة لدى عبد الإله، لا تتدرّج إلى عدّة إقسام، وإن بدأت كذلك، ولا تتوزّع إلى عدّة موتيفات أو حيثيات، وإن كانت في الظاهر تبدو كذلك، لكنه يحاول أن يجعلها كنصّ سرديً يتداخل فيه الشعر بالنثر. وهنا يتداخل فيها اللون بالفكرة، مثلما يتداخل فيها الواقعي بالرمزي، لكنه في الكثير من لوحاته وإن فضّل الرمزي على الواقعي لكن ثمة (واقعيات) حاضرة في الأسلوب التشكيلي من جهةٍ والقراءة العيانية من جهةٍ أخرى. فهو لا ينفك مستمرا على (ترميم) الفجوات داخل اللوحة بعناصر (الامتلاء) سواء عن طريق اللّون، أو عن طريق وضع التعبيرات الشكلية أو الحروفية، ككلمةٍ كاملةٍ كما في اللوحات التي يدرج فيها كلمة (بغداد) مع كلمةٍ باللغة الإنكليزية، وكأنه يربط التأويل القصدي بالواقع الذي يقصده، لذا فإن المعادلة التأويلية تجعله يلجأ إلى اعتبار اللّون الأصفر مثلًا، هو المعادل الموضوعي للفكرة، لينتج لنا عبر المواد الأولية التي تتركّب عليها الوحدات الشكلية، مع القراءات اللّونية، ما يعطي فكرة اللوحة قوامها التفكيري المرتبط بالمعنى المراد الوصول له. فهو يحشّد داخلها قبابا أو وجوها أو تقاطعاتٍ لونيةً، بتدرّج من له القدرة على الإمساك بقوّة اللّون، وإعطاء مساحته، سواء على شكل مثلّثاتٍ أو دوائر أو مربّعات، بمعنى استخدام الأشكال الهندسية وتوزيعها بطريقةٍ هندسيةٍ غير معلومة المعادلات، لأن الفكرة التي يشتغل عليها لا تقبل الهندسة المتوالية المتناسقة، كونه لا يريد إنتاج لوحةٍ قابلة للقراءة الشفاهية، من دون الخوض في غمار التفكير مع ماهية اللّون بأشكاله المختلفة.
إن أكثر اشتغالات عبد الإله ترتبط بمحاكاة اللونين الأصفر والأزرق في لوحاتٍ تأخذ المنحى الرمزي والدلالي، الذي يحتاج إلى قوّة تبصّرٍ وتعمّقٍ من قبل المتلقّي، لأن المشاهد البسيط سيكون أمام هندسةٍ شكلية لا يفهم لماذا المثلث مقلوب، لكن المتلقّي المتبصّر يدرك المعنى من وجود مثلثين بلونين مختلفين يتقاطعان بشكلٍ غير متناسقٍ مع الألوان الأخرى، وإنه يقول إن الواقع الذي نعيشه لم يتم ترتيبه، وتعيش فيه الفوضى، ولكن يمكن لمن يمتلك الوعي أن يبرهن على أن هذا الواقع المأزوم، غير قادرٍ على تآكل الوعي.
والاشتغال الآخر وهو الاشتغال الواقعي المباشر، فإنه لا يلجأ إلى رسم البورتريت مثلًا، لكنه يرسمه بما هو تشكيلي، موزّع النهايات في الشكل الواحد، وكأنه يريد من فكرة اللوحة أن تجعل الإنسان مثلّا، يبدو وكأنه مرهقٌ في واقعه، أو أنه يجري إلى ما لا يدريه، أو حتى يدري إلى حيث المعيشة، كما في لوحات الأنهر. لذا يلجأ إلى تطعيم اللوحة بحركة السفن، أو حركة القصب، واللون بالاعتماد على الضوء والظل. فتبدو اللوحة متحركةً يمكن النظر إليها من قبل المشاهد على أنها جزءٌ من مكوّنه الواقعي، وينظر لها المتلقّي على أنها محاولةٌ لصنع دهشة الواقع، من خلال حركة الفرشاة خارج النقل الطبيعي للوحة أو النقل الاستنساخ. لذا فإن التنوّع الذي يبديه عبد الإله لا يخضع إلى اتجاهٍ واحدٍ في اللوحات، وإن كان في كلّ اتجاهٍ له البصمة المتمثّلة بقدرته على صنع المعاني من حركة الألوان.
قراءة القصديات مفعول التأويل
إن قراءة القصديات تتيح لنا المجال إلى استحصال مفعول التأويل الذي يأتي في لوحات عبد الإله من تفاعل الألوان، ومن الممكن القول إن لوحاته تندرج ضمن عناصر صناعة الدهشة عبر عددٍ من الخواص الفنية:
أوّلا: أنها تريد تحويل اللّون إلى صوتٍ ناطقٍ من خلال حركة الفرشاة وتوزيعها داخل اللوحة، التي تعمل على استحصال مفعول الدهشة، من خلال الفعل التجريدي، الذي يتماوج مع استدراكات اللّون، ومن ثم القابلية على صنع التقابل اللوني، لتشكيل وحدات العناصر التي تعطي مفعول الفكرة.
ثانيا: إنها تسعى إلى عملية التركيب الخارجي لحركة الألوان من خلال خاصية اللّونين الأزرق والأصفر، وما يتبعهما من ألوانٍ أخرى، أقل حدّة ووجودها مرتبطٌ بتفاعلها مع الغاية المراد الوصول إلى قصديتها.
ثالثا: إنه يريد الممازجة بين اللّوحة الواقعية والرمزية، عبر الرسم التجريدي في كلا الحالتين، وإن كانت الكفّة تميل إلى اللّوحة الرمزية، لأنها تعمد على تشاطر وتشارك اللّون في التعبير عن الخطوط، التي تكون هي المعادل الموضوعي للحصول على التأويل.
رابعا: إنه يريد الوصول إلى لحظة التوقّع في البعد الدلالي، عبر تشكيل اللّوحة ظاهريا، لتكون القصديات مختفيةً تحت الحالة الباطنية، أو المخفية عن التعبير، وهذا الأمر الموجود في اللّوحة الرمزية، لكنه يكون واضحا في اللوحة الواقعية، وبالتالي إنتاج لوحةٍ تفاعليةٍ ما بين الرمزية والواقعية، حسب الفكرة، أكثر منه اقترابا من النقل الفطري.
خامسا: تتيح الفكرة في مرحلتها الشفهية أو اللحظوية أثناء مسك الفرشاة، أن يكون متفاعلًا مع الأدوات الواقعية، أو مرموزاتٍ مستلّة من الواقع، حين يمنحها الروح الرمزية، فينتج لنا لوحةً تجريديةً قوامها عناصر الواقع بروح الرمز، ودائما ما تكون الألوان تشبه حركة المياه، للدلالة على الديمومة والحياة والإسقاء.
سادسا: إنه يجعل من اللّون انعكاسا للحالة السيكولوجية، سواء بالنسبة له كفنانٍ، أو بالنسبة للّوحة التي تعبّر عن فكرته التي يريد (ولادتها) وتكون ضمن أدوات الاشتغال قبل الإنتاج.
سابعا: إنه يريد أن يجعل من الرمز واقعا والعكس صحيح. لذا فإن تشكيل اللّوحة في الحالتين، يأخذ البعد الجمالي الحركي، والتناغم بين الاتجاه الذي يمثّله اللّون، والاتجاه الذي تمثّله حركة الأدوات الشكلية المستلّة من الواقع، حتى تلك التي أخذها من الأسطورة أو التاريخ، أو الواقع المعاش الذي يجري معه بأفكاره، لعلّه يصطاد واحدةً ويحوّلها إلى لوحة.
ثامنا: إن طريقة إنتاجه لا تجعله ينساق إلى تخليق هارموني هندسي متناسق، بل يريد أن يجعل للّوحة مسارات متعدّدة من الهارمونات، التي تنطق في كلّ جزء منها بحركةٍ لها صوتٌ تأويلي وصدىً قصدي.
تاسعا: إن عنصر الانسجام يتوالد مع عناصر الاشتغال في اللوحة، عبر استنطاق أمكنة اللون ذاته، خاصة في اللّوحات الرمزية، كون التجريد يحتاج إلى قدرةٍ فنيةٍ عاليةٍ، لتكوين فاعلية الانسجام بين الألوان ذاتها. واللّوحة لديه لا بد أن يكون الانسجام فيها غاية الإنتاج الكلّي، حتى في (فوضى) التراشق اللّوني، وتعدّد أشكاله الهندسية، لأنه يعني أن الترابط الانفعالي يبين الفكرة والاشتغال الفني الذي يخرج في الكثير من حالاته عن التعبير القصدي المباشر، كما في اللوحات المأخوذة من الطبيعة.
عاشرا: إنه لا يريد خلق حالة من التفاعل بين الانسجام اللّوني والفكرة الكلية، بقدر ما يريد خلق حالة من التماهي مع الحركة اللّونية التي تعطي لوحدها حركة هذا التفاعل، وبالتالي فإن هناك كما يريد المتلقّي ثمة زخرفة لونية، لكنها زخرفة متشظّية، وعلى المتلقّي توحيد فعالياتها.
لوحات عصام عبد الإله تخضع لمبدأ محاكاة الفكرة التي تأتي له بالاشتغال الرمزي/ التجريدي، أو الاشتغال البيئي الواقعي، لتكون له في النهاية لوحةٌ تعّبر عن ملاذات الروح، والتعبير المخفي بكلّ تأكيد، كما هي اللوحات التي تنفّذ خارج المدرسة الواقعية أو الانطباعية، التي تحتاج إلى متلقٍ يفهم حركة اللّون وغايته، وبالتالي له القدرة على الإمساك بالتأويل، أو على الأقل الاقتراب من قصدية الفنان. ولهذا تكون اللوحة لديه عبارة عن نصّ يقترب من روح النثر في اللّوحات التعبيرية، والموسيقى التعبيرية في اللّوحات الواقعية.