قصص “صلاح باديس” القصيرة (1) موضوعها الأساس هو الحب في زمن السرعة وإيقاع الحياة الفردية، وأبطالها جيل الشباب الجزائري: جيل عصري ثائر على الوضع المجتمعي بشكل عام يتوق إلى الحرية والتحرر. المكان والزمان الرئيسيان للأحداث هي الجزائر، وخاصة العاصمة بأسماء أحيائها ودروبها وما عاشته منذ تسعينيات القرن الماضي. لكن الأحداث قد تحيل، أحيانا، على أماكن ومتخيلات أخرى. فتحضر مثلا فرنسا (بلغتها ومرجعياتها الثقافية)، ومصر، ومكسيكو، وأمريكا (المكان الذي أنهى فيه المؤلف كتابة هذه القصص بفضل إقامة إبداعية). كما يمكن أن يحضر المغرب أيضا بالنظر إلى المشترك المتعدد، وبحكم أننا في المغرب أيضا نقول عبارتنا الدارجة الشهيرة: “كاتوقع” (هذه أمور تقع) عندما نتحدث عن يوميات أحداثنا الصغيرة أو الكبيرة.
الحب والمرأة والجنس:
الرجل والمرأة هما الشخصيتان الرئيسيتان في غالبية القصص. وقد نجد أربع شخصيات في القصة نفسها، ولكنهما يظلان رجلان وامرأتان. وهذا ما ينطبق على قصة “هذه أمور تحدث” التي تتناول الأجواء البوهيمية لمغامرات العمل الصحافي (صلاح باديس كاتب وصحفي)، وأوضاع المثاقفة التي تنتج عن يوميات عيش أربع شخصيات خاصة في علاقتهم مع الآخر: الفرنسي.
رجال ونساء المجموعة يعيشون نوعا من التيه الوجودي بحثا عن الحب والحرية في زمن الأسرة النووية. تغيب في القصص العلاقات مع الأسرة الكبيرة، وحتى باقي العلاقات الاجتماعية، باستثناء بعض الإشارات إلى مكانة الأم، وإلى تشابك العلاقات في أوساط العمل؛ بحيث يمكن القول إنها قصص عن فردانية الحب كما يعيشها المجتمع الجزائري، أكثر مما هي قصص عن الفردانية بتجلياتها العامة في هذا المجتمع الجار. إنها قصص تدور حول عالم “ما بعد حداثي ذي أجواء صعبة tropicalisée ومتوسطية”.. عالم يعيش “الوحدة لكن بدون حرية. عالم يعيش الحبس l’enfermement” على حد تعبير قراءة مشرقة للترجمة الفرنسية لهذه المجموعة (2)
تشدك هذه المجموعة بسرعة منذ أول صفحة في زمن تضخم عروض الحكي والسرد المتاح عبر الأنترنيت والإصدارات القصصية. اكتشفتها في المعرض الدولي للكتاب الأخير في الرباط وهي صادرة عن دار النشر “المتوسط” العراقية الإيطالية الصاعدة بقوة في منطقة المغرب العربي.
في القصص جرأة، وربما استفزاز مقصود وواضح للقارئ في وصف الواقع عموما، وخاصة في وصف العلاقة بين الرجل والمرأة. يتحدث الكاتب عن الجنس بلغة بسيطة ومباشرة، ويسمي الأشياء بمسمياتها مع لمسة من الخفر والحذر. ويقوم بإبراز ذلك، لأغراض (الماركيتينغ)، في مقتطف من قصة وضعه في آخر الغلاف: “تم الأمر إذاً. أغلقت الجاكيت، ولبست سيليا معطفها الذي ظلت أزراره العلوية مفتوحة بسبب حجم صدرها”.
اللغة والمتخيل:
يكتب صلاح باديس بلغة عربية بسيطة جدا أقرب إلى الدارجة. لكنها لغة شخصية وباديسية، إذا جاز التعبير، تكشف، بشكل مفاجئ أحيانا، عن التماعات، فتلوح وسط جملة الدارجة البسيطة والطويلة انزياحات شعرية. وهو أمر ليس غريبا عن كاتب يكتب الشعر أيضا. لا يبدو الغرض من هذا الانزياح هو الحذلقة، بل خدمة الحكاية وديناميكيتها ودلالاتها الرمزية كما هو الحال في قصة “حاجة جديدة” عندما تقول إحدى الشخصيات: “لا أحد يحرس الليل في الجزائر. الليل هنا بالغ، وهو يحرس نفسه”.
تطغى اللغة الدارجة كثيرا. ويمكن أن تشكل، إحصائيا، حوالي ثلث الصفحات. وتحضر في العديد من عناوين المجموعة مثل: “حاجة جديدة” و “أشياء تحدث” … كما تحضر بقوة في الحوارات، إلى درجة أن بعض مفرداتها تكون غير مفهومة أحيانا.
من جهة أخرى، يشتغل الكاتب على اللغة الفرنسية بشكل كبير. ولا تخلو أي صفحة تقريبا من جمل وعبارات طويلة بالفرنسية (تكون مترجمة في الكتاب). لماذا هذا الاختيار اللغوي؟ هل للتعبير عن الواقع اللغوي الجزائري المتميز بطغيان الفرنسية أكثر مما هو عليه الحال، ربما، في المغرب أو تونس؟ أم هو اختيار فني بهدف إثارة الانتباه إلى وضعية لغوية متشظية، كما يلمح إلى ذلك، بسخرية، بطل قصة “البحث عن بلكون” الذي يتحدث عن جهله للدور الذي يقوم به “المجلس الأعلى للغة العربية” في الجزائر. ثم وهو يقول أيضا بسخرية أقوى: ” العربية ناس ملاح… الناس الكل يحبوها بلا ما يعرفوها”. وهي وضعية لغوية تعكس تلك: “التوترات المثيرة للجنون للازدواجية اللغوية” التي يعيشها المغرب العربي حسب تعبير عبد الكبير الخطيبي(3). وهذا الاختيار الإبداعي على مستوى اللغة يعطي، في المحصلة، إيقاعا وحوارية داخلية خاصة للمجموعة القصصية.
قصص صلاح باديس مثيرة على أكثر من صعيد. لغة الحكي بسيطة ومباشرة مع اقتصاد كبير في الوصف، وابتعاد عن التنميق اللغوي والشعرية المجانية التي كثيرا ما تهدف إلى التغطية على ضيق الخيال السردي. في المجموعات القصصية، قد نعثر على تفاوت في قوة الحكي والحضور بين قصة وأخرى، إلا أن الكاتب استطاع هنا أن يحافظ على النفس نفسه، والإيقاع في جميع القصص تقريبا مع تميز خاص للبعض منها مثل: “بحث عن البلكون”.
تتميز المجموعة بخيال خاص في نقل الواقع وفي تصوير تفاصيله الدقيقة، وتقطيع المشاهد وفي الحوارات. هناك اشتباك عميق مع الواقع الجزائري الذي يحضر محملا بكثير من السخرية من هذا الواقع بتناقضاته ومشاكله الاجتماعية والسياسية والثقافية كما في قصة “الشركة الوطنية لانتظار القطارات”. بعض القصص تذهب بعيدا في ملامسة نوع من الواقعية السحرية عندما تدور مثلا حول “أحلام اليقظة” عند البطلة الشابة في قصة “البحث عن بلكون”. وهو ما يجعل القصة القصيرة تنبني، إلى حد بعيد، على نسق “جبل الثلج” حسب تعبير هيمنغواي: جزئها الخفي أبلغ من الجزء الظاهر منها.
________________________________________________
هوامش:
- قصص. صلاح باديس. “هذه أمور تحدث” منشورات المتوسط. 2019 كما صدرت ترجمتها بالفرنسية تحت عنوان:
« Des choses qui arrivent », de Salah Badis, traduit de l’arabe par Lofti Nia, co-édition Barzakh et Philippe Rey, 156 pages
- Jacques Ould Aoudia: https://fr.alyaoum24.com/01-news/culture/30892.html
- Khatibi Abdelkabir, « le roman maghrébin »