ألمسُ الضوء الذي يعمل كالمحراث.. وأكتشفُ كيف يظلُّ الشّاعرُ طفلاً وله عمر الأفق. (أبجدية ثانية) أدونيس.
أطفأ الشاعر أدونيس أول أمس شمعته الخامسة بعد التسعين. عمر من الحياة في الشّعر وللشّعر. فإقامة أدونيس على هذه الأرض لم تكن سوى إقامة شعرية بامتياز. هذا ما تقوله يدهُ وهي تخطُّ هندسة النّص على الورقة، ما يقوله فكره أيضاً، مثلما مواقفه التي تعدُّ بين سياق اليوم ورياح الأمس، متأشكلة لدى البعض، مريبة ومثيرة للجدل.
لنرقب كل حركة منه، كل كلمة، كل سِعة من الحضور، وكل نظرة في الأفق؛ جميعها تؤكّدُ: الشّعر هنا على الأرض ليقول كلمته. الشّعر بمعناه الواسع؛ المتجاوز للتصوّرات الضيّقة التي تُعرّفه في حدود البلاغي والغنائي العاطفيّ المجبول على لمس وتر اللاوعي الجمعي. واضعة إيّاهُ في إطار الإمتاع والمؤانسة تحت سقف خيمة الأمس الأزليّ، إذ ما يزال لدينا الكثير من التعلّق، بحيث لا نسمح لأنفسنا بالنظر بعيداً. لكن قصيدة أدونيس لا تُؤنسُ ولا تُطرب، ولا تُوظّفُ كما لا تُقولبُ لصالح فكرة أيديولوجية، بل تُفجّرُ وتُشظي وهي تُجاور بين المختلف وتدمج بين الأشياء القصيّة. من هو العالم الفيزيائي الذي قال، «الكون طاقة شعرية بالأساس»؟ شِعر أدونيس يجسّد هذا الكلام.
شِعر انفجاريٌّ يولد كالمجرّات التي تبرد وتتوسّعُ متقدة في الذِّهن والنّظر. لا يتحدّى برسمه السّائل المبتكر هذا أفق انتظار القارئ فحسب، وإنما بنية العقل العربي تحديداً. ألذلك يضع أدونيس بموازاة خطه الشّعري خطاً فكريّاً مزلزلاً، بدأ بكتابه «الثابت والمتحوّل»(1973)؟ ربّما، لكن لا ليشرح قصيدتهُ، أو ليدافع عن خيارات جمالية فرضها الضِّيق من جلباب السلف، بل ليكشفَ بالدرجة الأولى عن رؤية الشِعر كيف تكون وكيف تفكّك وكيف تؤسّس للمستقبل دائماً وهي تفتح في الواقع أبعاداً أخرى ممكنة التّحقق؛ وفي العقل باب المخيّلة، فتجعل منه عقلا مرناً قابلا للتوسّع والنموّ. لقد أتى أدونيس أساساً من سؤال الشعر ويقظة الفكر وأنوار العقل وفرادة الجسد. وبهذا أمكنه أن يقود زلزال الحداثة العربية تصوّراً ورؤية.
في فكره أبجدية الضوء، وفي قصيدتهِ إعادة لتسمية الأشياء بمسمّياتٍ لا تنتهي. حين نقرأ فكرهُ نرى ظلّ قصيدته، وحين نقرأ قصيدته نستضيء بفكره. عُملة واحدة سبكت من معدن الشعر اللامع بوجهين؛ فالشعر هو منطلق السهم، والوصول.
على مدى كل تلك السنوات إذن، خطّ أدونيس سيرته الشِعرية والفكرية بمنأى عن التقليد. وهو في ذلك أشبه بطائر مُعجب بأجنحته التي ترفعه أعلى، خارج السرب. بالطبع، هذا ما يجعل كتاباته تبدو منحرفة عن السياق، مضادّة، وفي موضع خلاف. لكن، ما أهمية الكتابة إن لم تكن حسب تعبير ميلان كونديرا: «لذة المخالفة، وسعادة الوقوف وحيداً ضدّ الجميع»؟ مع أن هذه المخالفة قد تبرز خارج الترف الكونديري حين نكون بصدد الحديث عن المبدع الحرّ داخل مجتمع تقليديّ منغلق، إنها قدرٌ محتوم. فحريته تُلزمه بأن يظل وحيداً مفرداً في مواجهة هذا الجمع الذي يشكل منظومة في تواشج تام مع السلطة. إنّ فعله الثقافي هو بالضرورة فعل مقاومة، فالأسماك الميتة وحدها هي التي تسبح مع التيّار.
يحتفي أدونيس بهذه الفردانية وسط مجتمع لا يؤمن بحرية الأفراد في أن يفكروا ويعيشوا ويبدعوا بشكل مختلف. بديهيٌّ إذن، ألا يُفهم أو حتى يُرفض. أمّا الشعراء الذين تمّ الترحيب بهم فقد عكسوا دائما روح الجماعة، لكن أغلبهم لم يقدّم شيئا جديداً فيما أنجزه. والحقيقة أن الشعر لم يوجد إلا ليكون تعبيراً شديد الفردانية في مواجهة العالم. في الثقافة الحيّة المرنة والمتصالحة مع نفسها، من الطبيعي والبديهي أن يتّسعَ حضنها للشاعر المختلف. مفسحة له حيّزاً لكي يكون، لأنه خلاّق عوالم بديلة. لقد رفض الشاعر آرثر رامبو فرنسا كلها بثقافتها وحضارتها، مع ذلك كان وما زال مفخرتها ومعجزتها الأدبية. هل نفهم بعد كيف يكون الأدب؟ ومن هم الشعراء حقّاً القادرون على جعل ثقافتنا أكثر حيوية وغنى، وأوسع أفقاً؟
أدونيس نموذج لهذا التمرّد، على طريقته الخاصة. فمشروعه كلّه إن شئنا الاختزال هو مشروع رفض. «لا» مُعلنة بشجاعة في وجه ثقافة جامدة، سلطوية، تقليدية. يراجع أدونيس باجتهاد، ينقب ويكشف ويضيء الجوانب المظلمة من هذه الثقافة، كما لم يفعل شاعر آخر. يفكّر كمفكّر، لكن من وجهة نظر وحدس الشاعر. وتلك حالة فريدة في الثقافة العربية المعاصرة. حسب الشاعر الرُّوسي أندريه فوزنيسينسكي هناك وظيفة واحدة للشّعر: «الدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم». يستثمر أدونيس هذه الوظيفة إذا ما اعتبرناها كذلك إلى حدود قصوى يجعل الشّعر معها يتكلّم بوضوح الطرح الفكري الذي يفهمه طلاب الفلسفة. فليست هذه الأخيرة إلاّ الشعر بوجهه الآخر الملموس في حدود العقل. «ينبغي كتابة الفلسفة كشعر فقط» يؤكّد الفيلسوف لودفيغ فيتغستاين. تتحقّق تطلّعات لودفيغ في أعمال أدونيس ولا شكّ. فمثل سلوك الضوء من موجة إلى جسيم مع إمكانية السّفر في الفراغ، هكذا نقرأ فكره كشعرٍ أيضاً. شيء يبعث على التأمل، بالإضافة إلى ذلك، يعجن صاحب «أغاني مهيار الدمشقي» الشعر بيديه كمادة خارج فضاء أيّ نصّ. يرسمُ الخطوط والأشكال ويُقيم المعارض. لا يقف الشعر بالنسبة إليه عند القصيدة أو الفكر، بل يتفجّر كل ما في عقله وروحه، وما بين يديه إلى شِعر. إنّه النبع، الطاقة الشفيفة التي تحدث هكذا ببساطة متحققة في المنجز الفني. ساعيّاً في كل مرّة من خلال ذلك إلى معرفة النفس التي لن تتم، متجاوزاً ذاته باستمرار. «الإنسان هو نظرة تشتهي صورة أخرى وتبحث عنها خلف كل ما تراه» (باسكال كينيار).
لن تستطيع مقالة عجولة كهذه أن تبدي قراءة متعمقة في مشروع أدونيس الشعري الكبير، وجهده الفكري المهم. لن تتمكن من رسم صورة لهذا الشاعر في ألف كلمة أو في صفحات أخرى. إذ ينبغي عدم رسم تلك الصورة إلاّ من خلال إعادة تركيبها كلعبة (البازل)، حيث يأخذنا المتعدّدُ فيه إلى الواحد؛ الشّاعر. لم يكن شِعر أدونيس في الحقيقة يشبهُ ما قرأناه من شِعر آخر، أكثر مما كان يشبهُ رعداً في السهول. بحريّة يتقلّبُ في الغيوم حاملا بشارة المستقبل. لولا مثل هذا الشعر، الذي يبدو في شكله غريباً صافقاً الباب وراءه بقوّة، لكانت القصائد سجنا، والعالم أضيق، والشعر العربي أقلّ. فبطريقة مباشرة وغير مباشرة أثّر أدونيس في الشّعرية العربية؛ إذ بلور منهجاً شعريا ثوريا لا يقاس إلاّ بما أحدثه كبار الشعراء في العالم. هذا شيء واضح ولا يحتاج إلى نظارات. وفي أوروبا، باريس تحديداً، حيث يقيم الشّاعر دون أن يتخلى عن نقده الحاد لمركزية الغرب وسياسته الكولونيالية، ثمة إصغاء يقظ إلى صوته المُميّز، وابتهاج بحضوره الشّعري الآسر. في الصين أيضا يُقرأ كما لا يقرأ اليوم في لغته العربية. وهذا أمر عجيب! يردُّ الشّاعر بأسف: «العرب لا يقرؤون». وهل الحقيقة غير ذلك؟