تراكمت خلال السنوات الماضية مؤلّفات لأكثر من مئة أسير فلسطينيّ، تجاوز العديد منها البُعد التوثيقي لتجربة الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي، على أهمية كتابات سردية وبحثيّة في هذا السياق، لكنّ القضايا المتنوّعة التي ناقشها عدد من الأسرى شكّلت محاولة جادّة في تقديم طروحات حول الواقع الفلسطيني وسؤال التغيير.
يبرز اسمُ باسم خندقجي المولود عام 1983، في نابلس، الذي قضى في الأسر ما يقارب نصف عمره، سواء في الشعر أو الرواية أو التنظير السياسي والفكري، في أعمالٍ حظيت باهتمام نقدي عربيّ أشار إلى رؤيته المتماسكة، ومضامينه المعمّقة، واحترافية الشكل والأسلوب السردي في رواياته “مسك الكفاية: سيرة سيِّدة الظلال الحرَّة” (2014)، و”نرجس العُزلة” (2017)، و”خسوف بدر الدين” (2019)، و”أنفاس امرأة مخذولة” (2020)، وصولاً إلى “قناع بلون السماء” (2023)، التي استحقّت “الجائزة العالمية للرواية العربية” (البوكر) في دورتها الـ17 التي أُعلنت مساء أول من أمس الأحد.
يفتتح بطل الرواية؛ نور الشهدي الفصل الأول من “قناع بلون السماء” بالتساؤل: “كيف سأكتب الرواية؟ وما الأسلوب الذي سأعتمده؟ وما عنوانها؟ وهل سأتمكّن من نشرها في هذه البلاد عديمة الأدب والنشر”، ليقود القارئ بحديثه عن حاجته إلى لغة مرهفة متينة، واعتماد مسارين زمنيّين؛ زمن الماضي التاريخي، وزمن الحاضر، كما قدّم رسماً أولياً لشخصية بطل العمل في الزمن الحاضر؛ مهنته وعمره وطبيعة حياته في فلسطين، وشخصية زوجته البطلة كذلك. أما المسار الزمنيّ التاريخيّ فستكون مريم المجدلية بطلته الرئيسية مع شخصية محورية متخيّلة هي سمعان الأعرج.
يشارك بطل الرواية قارئها في التساؤل عن كيفية كتابتها
لا ينقصه حسّ السخرية السوداء، في الوقوف عند التصوّر المفترض حول هذه الرواية، والذي يتواصل على صفحاتها حيث يشير نور اللاجئ من مدينة اللّد المحتلّة والذي وُلد في المخيّم، إلى أنه “ليس ثمّة معنى لاسم المخيّم الفلسطينيّ، إلّا عندما ترتكب فيه المجزرة، ليصبح اسماً من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانية”، والفرق بين المخيم و”الغيتو” اليهودي، وهو في “القدرة على أَسطرة المأساة والإمعان في تخيّلها؛ هم أَسطروا وتخيّلوا كما يجب إلى الحدّ الذي خلقوا فيه مخيّماً وشتاتاً ولجوءاً لنور وأمثاله..”.
يغوص البطل في “التفاصيل الكولونيالية” التي يعيشها الفلسطينيّ، حيث تتصدّر عناوين الأخبار انتهاكات الاحتلال على المزارعين في الأغوار، وهدم بيوت المقدسيّين، وإجبار العائلات المقدسيّة على إخلاء بيوتها في حيّ الشيخ جراح. تفاصيل تلتقي مع أحاديثه الدائمة مع صديقه الأسير؛ مراد، من خلال استحضار آرائه ورسائله طوال السرد، وكأنه خلفية ضرورية لفهم سياق الحدث دون أن يكون جزءاً أساسياً منه، إنما هي تعميق لأثر الواقع وفعله الدائم في حاضر الفلسطينيّين وذاكرتهم أيضاً.
تمثّل امتداداً لخطاب يشتغل عليه الكاتب منذ أكثر من عقد
لكن المساحة الأهمّ بين الشخصيّتين تتّصل بالبحث عن مريم المجدلية وافتراض كنز مدفون لها في قريتها المطلّة على الشاطئ الغربي لبحيرة طبرية، وهو صندوق عاجيّ صغير الحجم يحتوي على تماثيل صغيرة لشياطين المجدلية السبعة أو على قارورة عطر الناردين الفاخر الذي سكبته على يسوع، وتكتمل اللعبة بنقد هذا الافتراض في التسجيل الصوتي نفسه الذي يُرسله نور إلى مراد، في تأكيد على ما ابتدأ به روايته: “فما التاريخ في النهاية سوى تخيّل معقلَن”.
ينعطف السرد عند صدفة اخترعها خندقجي لمعالجة واحدة من أهم مقولات الرواية، حين يجد نور بطاقة هوية زرقاء لمستوطن، اسمه أور شابيرا، في جيب معطف اشتراه من سوق العتق في مدينة يافا، بعد نجاحه في الإفلات من شرطة الاحتلال بسبب عمله بلا تصريح في أرض فلسطين المحتلّة في عام 1948، وهنا يقرّر نور انتحال هويّته ويلتحق ببعثة أميركية تتبع “معهد أولبرايت لأبحاث الآثار” تعمل في موقع أبو شوشة الذي حلّ عليه كيبوتس “مشمار هعيمق” غرب مرج بن عامر.
وتتعمّق الفكرة بعد أن يتلقي أور شابيرا الذي ينتحله نور، بسماء إسماعيل، ابنة حيفا التي يقع في حبّها وتزيل عنه قناعه وتعيد له شخصيته الأصلية، في تكثيف لفكرة التحرّر لدى خندقحي في كيفية وعي الذات والآخر، بإسقاطاته المُعبّرة على شخصيات العمل، حيث بطاقة الهوية التي يتخفّى بها البطل ما هي إلّا قناع لمناقشة الهوية في مستوياتها المركّبة، إذ لم يتقبّل نور عيشه كلاجئ عقب ستّة وسبعين عاماً من اقتلاع عائلته من اللّد، ولم يتجرّع كذلك العيش بشخصية عدوّه في حياة طبيعية؛ توتّر وصراع تبعث منها ملاحظاته المتعلّقة بالراهن وبالماضي.
خندقجي اعتُقل في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2004، خلال انتفاضة الأقصى، وحُكم بالسجن المؤبّد ثلاث مرات، ولا يزال على قيد الأسر في قسم العزل الجماعي في سجن “عوفر” الصهيوني قرب مدينة رام الله، يرسم بطلاً لا يقوم بأي فعل إيجابي في معظم فصول الرواية مع تداعيات الواقع وتعقيداته، فوالده الأسير المحرّر لجأ إلى الصمت الذي يبدو احتجاجاً على تنازل السياسيّين واستسلامهم، بينما يرتحل نور إلى التاريخ في تتبّعه خطى المجدلية، ليستمع أخيراً إلى صوت سماء إسماعيل التي تؤمن بمقاربة أساسية بألا يركن الفلسطيني إلى أن الحقّ لا بدّ أن ينتصر في نهاية المطاف، وأن عليه أن يتمسّك بالمقاومة خياراً وضرورة.
ليس ثمة معنى لاسم المخيم إلا عندما ترتكب فيه المجزرة
يقدّم خندقجي رواية ممتعة في سردها وما تطرحه من نقاشات راهنة وملحّة تشير إلى قراءاته في كثير من محطاتها تجاه كتب وأفكار ومقولات يواجهها ويشتبك معها، مثلما فعل في مقارنته بين الخطاب الديني الذكوري عند بطرس وبين الخطاب العرفاني الأنثوي عند المجدلية، أو في تعليقاته الساخرة المتكرّرة حول رواية “شيفرة دافنشي” لدان براون، وكذلك حيال “الحداثة والهولوكوست” وفق كتاب زيغمونت باومان.
تمثّل الرواية امتداداً لخطاب يشتغل عليه باسم خندقجي خلال أكثر من عقد، تمكّن خلاله من نيل درجتَي البكالوريوس والماجستير في “الدراسات الإقليمية – مسار الدراسات الإسرائيلية” من “جامعة القدس”، والعمل حالياً على استكمال دراسة الدكتوراه، واختار خاتمة حاسمة بتمزيق نور هوية أور شابيرا أمام سماء إسماعيل ويُعيد برمجة هاتفه بالعربية لا العبرية، ويخاطبها بمسحة رومانسية: أنت هويتي ومآلي. خيارٌ وحيدٌ بالقبض على لحظة الحبّ/ الحياة على درب المقاومة والتحرّر.