استيقظت (رفح)، مشّطت شَعرها، شربت قهوتها، وأكملت زينتَها،
ستبدأ الحفلة.
***
غزّة امرأةٌ يجرحها الماء، ينسرب على بياضها،
فيسقط الوردُ على الرّخام.
***
العصفور، الذي مدّ منقاره الطريّ،
لم يدرِ أنّ نسغ البرتقال قد فاح،
فانطلقت النجومُ لقطف الجَمرة من فمه،
فتزوّج البروج،
وصارت المجرّات أعشاشَه اللامعة.
***
مراجيحُ تبيع الهواءَ للصغارِ،
الذين راحوا يتأرجحون صعوداً هبوطاً،
ثمّ تسرع في حركتها،
وتشتدّ ذهاباً وإياباً،
فكان الأطفالُ يصرخون خوفَ أن يقعوا،
ثمّ ازدادت سرعة المراجيح، فطار الصغار عالياً،
وقبل أن يهبطوا، كان ثمّة وحوش تفتح أشداقها تتلقّف الأطفال،
وتبتلعهم.
***
يعتقد ربُّ الجنود أن المبالغة في القتل تزيد جاذبيته!
***
(لا يشكّ أحدٌ بشيءٍ عندما تكون الأحوال جيدة، ولكن حين تنقلب..
يبدأون بالتفكير فيما فعلوه..
لكنّ الأمر لم ينقلب فحسب،بل تدَمّر)
***
لكثرة ما نبح ملوكُ الرّمل عند أقدامه..بات مسعوراً
***
لا تعبثوا مع ملائكة العدل.
***
ستتعلّمون الخوف من اسم غزة،
واليوم ليس وقت موتها..
***
أين يذهب هذا الرّاعي بأغنامه في هذه الظلمة الملغومة القارسة،
ولا حقول، ولا أعشاب بين هذه المباني الحجريّة المتطايرة؟
وقبل أن أسأله، ويبدّد حيرتي، رأيته يتقدّم نحوي،
وفي يده وعاء فخّاريّ، يحمله بحرص وتؤدة،
ولمّا وصلني، بحذر، مدّ نحوي الوعاء فكان طافحاً بالّلبن،
ودعاني لأتناوله.
ولحظتها أدركت كم كنتُ جائعاً، خائفاً، وحيداً،
ويجمّدني البرد.
***
هنا حصانٌ مريض، سيضعون عليه السَرج، ثانيةً،
ليخسر، كالعادة، في السباق.
***
سيأكلون الثمار الفاسدة، التي زرعوها حولنا.
***
قيل:(الوقت في غّزة من دَم)، ولم يكملوا!
إنه من هستيريا الفناء، وصبّار البقاء.
***
“أهلي تحت الأنقاض”!
.. وكأنّه يهمس لها:إنّ الحيّ بأكمله تحت الأنقاض.
***
قلبُ الدولة حجر أصمّ، وقلب غزّة مطرقة هاوية.
***
بعد أن استهدفَ الصاروخُ سيارّة الإسعاف
تدحرج الكرزُ في الطريق.
***
لا ينبغي لأحد أن يستسيغ طعم المعدن في فمه.
إنّها ماسورة البندقيّة القاتلة!
***
الضوء أعمى،
لكنّ الأشجار الشجاعة تريد أن تبصرَ أجمل فهدٍ رأته الغابات.
ربّما تريد أن تسهر الليلة،بكامل مزاجها الأخضر،
قبل أن تندلقَ النيرانُ من تحت الأبواب.
الضوء أعمى لأنّه يرى،
ويظلّ صامتاً.
***
رغم الحواجز المُسلّحة
الطريق سالك بين غزة والسماء..
***
يمشي
عباءته المتجعّدة فضفاضة شفيفة!
يندفع نحو البيوت المقصوفة، فيردّ الأكمامَ على كتفيه،
ويرفع الرّكامَ، ويسحب المخبوزين تحت البنايات المترنّحة،
يحمل ساطوراً هائلاً، ويقف على مداخل المدينة، كأنّه حارسها.
هو الذي فخت الجدرانَ الإسمنتيّة بإصبعه، وحمل المقاتلين، الشهداء مع وقف
التنفيذ، ليعيدوا الأرضَ إلى أصحابها، ويُثخنوا في ضبّاط الموت الموت.
وهو الذي قاد بهم المركبات، مع الفجر،
ليطوّحوا الأبراج الناريةَ المنصوبة نحو الحدود الخائفة،
وهو الذي كَنس بجديلته ما تبقّى من جنود على المداخل،
حتّى تتحقّق المعجزة التي فاجأت المحتلّين المذعورين،
الذين انساقوا بهلعٍ وذلّة، نحو القيود.
لقد حطّم الصّنم
ذلك الذي يقدّسون كلّ ما يتعلق به،
إنّه (الجيش الذي لا يُقهَر)!
لكنّ الشيخَ كسّر رأسَه، ومرّغ أنفَه، وداس على عنجهيّته المُدّعاة؛
لهذا جنّ جنونهم،
فلم يتركوا طفلاً، أو بناية، أو شارعاً، أو مزرعة، أو شاهداً إلا ودكّوه
بالصواريخ الارتجاجيّة، الممنوعة دوليّاً.
والشيخُ يذرع المخيّمات والبلدات،
ويُلقي الطمأنينة على الناس،
يقف على صخرة راسخة، ويقول:
إنّ القتَلة يستهدفون الأولادَ، والأمّهات، والأسواق البريئة.
وانقطع التيار الكهربائيّ عن آخر مشفى ظلّ يعمل،
قبل أن يقصفوا المشفى المعمداني،
وتصعد خمسمئة ضحيّة دفعة واحدة.
وقبل أن يتحوّل إلى مقبرة جماعية،
والعالَم كلّه لم يستطع أن يفتح ممرّاً آمناً،
لإدخال الوقود، والدواء، ورشفة ماء،
فهل هؤلاء بشرٌ؟
أم أنّ أسفارهم الملغومة،
هي مَن يمدّهم بالذرائع لحرق اللحم الطريّ، والطيور، والزّغب اللبنيّ؟
فكيف يقيمون معهم “السلام”،
الذي لا يُفضي إلّا إلى الهلاك، والعنصريّة والجنون، والإبادة،
والفظائع المصوّحة؟
ماذا بقي فيهم ليحبّوا السلام؟
ونؤمن أنّهم من نسل آدم؟
لقد رأوا الشيخ، لكنّهم لا يعرفون اسمه، على وجه التحديد،
لكنّ البسطاء يعرفون، ببداهة البصيرة المضيئة،
أنّ هذا الشيخ يدرك نِفاق الغرب،
الذي يبرّر حرقنا، وذبحنا، وفناءنا، وشطبنا من قوائم الحياة،
لقد قطعوا الماءَ، والكهرباء، والدواء، وأحكموا إغلاق الحدود،
وصبّوا أطنان القنابل والصواريخ المُوَجّهة،
والفسفور الأبيض المُحرّم، على الأحياء،
دون تحذير، وحققّوا مشهد (الأرض المحروقة)
ويسألونه: هل انتهت الحروب الصليبيّة يا شيخ،؟
أم أنّ كيان القتل هو ما يُمثّل المملكة اللاتينيّة الأخيرة على شواطئنا؟
ولهذا يدعمونها، على حساب دمنا النظيف،
ونَظرَ الشيخُ في كأسِ النار،
ثمّة مَنْ يبتسم في قَعْرها، قال:
– والأوارُ يلمع على شفتيه –
سيولدُ هنا، بعد الحطام والشظايا،
وسيكون له عَرْشٌ ساحر،
وستصل عرباتُه إلى أفاعي السواحل المُهاجرة،
في حضوره تتفوّقون على أنفسكم،
وإنْ نظر إليكم ستتمّ المعجزة،
وسيضحك لكم الزمان،
ستكون خيولُه بلا عدد،
جلودُها ماءٌ، وأجنحتُها غامضة،
وستبدو أشجارُه ترياقاً للقلوب.
لقد حملته في أحشائها لينتقمَ لها،
لكنّه تجاوز الرمادَ،
وتمرّس بالمعرفة والجموح،
حتّى دقّ عُنقَ الخرافة.
– لا مجد بلا معاناة –
وبكى الشيخُ حتّى ابتلّت لحيته،
ثمّ صرخ: النصر العظيم، انتظروه.
إنّ أُمَّهُ تصرخُ من آلام المخاض،
سيتناول أعداؤه العَشاءَ في الجحيم،
ولن تكون شمسٌ في السماء،
سيكون شمسَ الأرضين،
سيُغطّي الأرضَ بدمهم،
ويتبعهم إلى آخر الحشرجات،
ستعلو صواريه،
وينزل بالغيث حيثما يشاء،
وسيفقأ عينَ الفولاذ والبوارج.
ستشكره البواشق،
ويمحو عُرفَ الديك الزائل،
وتتلاشى صور أعدائه كالهواء،
ستحترق الأبواق،
ويذوب المعدن من الصراخ،
ستفيض الوديان، والحُفر، والأخاديد بالعفونة،
والديدان، وثياب الحديد،
إلى أن تتجشّأَ الفراخ،
ثم تدبَّ النار والطهارة،
وتمطرَ غيومُ الصيف، سبعة أيامٍ بلياليها.
ربّما لم تلده أُمّه، بل خرج من مرْجَل العويل والقهر.
سيجفّ على قميصه النُعمان،
ويتقشّر فوق دفقات العَرقِ تحت الظهيرة،
سيدخل المدينةَ العصّية،
كما دخلوا مدائن الأساطير،
سيلاعب السَبْعَ في الكمان،
سيحمل إليه أبناءُ التّيه صناديقَهم، ويفرحون بالعفو،
سيعضّ قلبَه عطرُ الزهرة ذات الخُصلاتِ الفاحمة،
وهو ليس هشّاً ولا نبيّاً،
لكنّه ينسى، كعادة البشر، أنّ ثمةَ خَوَنةً في البيت،
سيصل إلى المجهول والبعيد،
ويتحدّث عنه التائهون في الأصقاع،
وينسجون حوله الهالاتِ التي يريدونها،
سترقص له الغزلانُ في الغيوم،
ويعذّبه بطنُ الجدول،
ويحلم بحليب الياسمين،
سينثرون الأرزَ لياقةً تحت أسواره،
ويشرق بالحِبْر الأبيض،
وتسبح على جدرانه الغاباتُ والأحلام،
وحينما يبلغ القمّةَ سيرى وُعورةً لا تبلغها أو تقطعها إلّا الآلهة،
فيضطرّ أنْ يسلك طريقَ البحر والمواقد،
سيرتجف ويقشَعرّ، هذا القويّ العنيد،
ولن ينحني، لأنّه بعيدٌ عن العار وشهوة الخشب،
ولن يتعجرف كالمُهر الأَرْعَن،
لن يخذله جسده،
ولن تتجرّأ عليه الأيّام،
وسيبقى عابداً، زاهداً، بسيطاً،
وباسلاً إلى أنْ يشيبَ الأحفاد،
ويحملوا خارطةَ الروح،
ولأنَّ الافتراء ضعفٌ، والرؤيا بشرى،
فلا بأس أن تضحكوا أيّها المتوحّشون،
لأنّكم لن تجدوا حتّى الدمع، بعد حين.
ويبدو أنَّ فذاذته تكمن في أَنّه أنقذنا من أنفسنا،
إنّه مكافح سماويّ، وإنّني أراه
في فرط الرُّمّان،
وعلى سواحل الماكرات الّليّنة،
وفي ريق السراج،
وفي كأس النار.
وصرخ الشيخ: إنّني أراه، إنّني أراه!
ماذا ترى يا شيخ؟
قال: إنّها بداية النهاية، إنّها نهاية البداية؛
فاستعدّوا يا قوم..
وبعد كلّ عشرات الجنازات الجماعيّة،
يسمعونه يقول لرجل يهرول نحو المقابر:
كيف لبعضهم أن يُعانقوا هؤلاء الساديّين الكارهين ..
ويصطفّون معهم؟
وكلهم سادر في إطلاق النار على الصغار، والأمواج، ونوافذ الحبق،
عداك عن معظم الدول الأوروبيّة التي اصطفّت مع القتل،
وراحت تبرّره بصفاقة عنصرية كريهة،
وهم يرون ملء عيونهم الوقحة،
تفجير سيّارات الإسعاف، عمداً، وانقطاع الكهرباء عن كلّ شيء،
وتمزيق جثث النساء والمسنّين، في العراء المحترق،
أيّ وحوش هؤلاء؟!
ثمّ يهرفون بالإنسانيّة، والحقوق، والمساواة، والعدل، والحقّ!
إنّهم شركاء أصليّون في تنفيذ المذبحة،
فما زالت الترسّبات الصليبية، والمصالح الشّرهة ما يحرّكهم ضدّنا.
(أختلف مع الآخرين على أساس موقفهم من قضيّتنا العادلة،
وليس على أساس لونهم، أو دينهم، أو عِرقهم).
وبعد القصف، الذي يتجدّد كلّ دقيقة،
يقف الشيخُ متّكئاً على عمارة، لم تصلها القذائف بعد،
ويعدّ على أصابعه القنابل والبراميل التي سقطت، والشهداء،
فيتلعثم، ويعاود الكرّة، لكنّه يتوقّف، فقد تجاوز الشهداء الأرقام!
يقطع الشمال إلى الجنوب، كأنّه يتفقّد الأحوال،
ولطالما رأوه يسحّ من عينيه دموعاً حمراء،
يجمعها في كفّيه، ويدلحها على الأشجار المشلوخة الظمأى،
فَمُه مالح،
وعيناه زرقاوان داكنتان،
وشَعره يضفضف بالفضّة،
ويكاد طوله يغطّي الآفاق.
قال له صاحب دكّان: أنا أعرفك يا شيخ،
فابتسم، وقال: أنا أعرف جدَّ جدِّ جدّك،
كان يلعب معي على الشاطئ، وقد شهدتُ عُرْس أبيه،
يحمل الجرحى والأشلاءَ المتناثرة في الأسواق،
وقد تجاوزوا الألف، على ساعديه،
ويسارع بهم إلى المشفى،
فلا يجد لهم متسعاً،
فيجأر بصوته حتّى ترتجّ الآفاق،
ويتشقّق سقف الدنيا،
وينهمر كِسفاً جهنميّة على الدخلاء،
يزيح أنقاض الأحياء،
ويعيد فتح الطريق،
ويرشّ الماء على التراب،
امتلأ ثوبه ببقع النجيع
التي دبّغته، لكثرة الشظايا والقنابل التي أصابت جسده،
حتّى لا تصيب البيوت، ومراكب الصيّادين، والمنشآت.
يرونه جالساً عند رؤوس الأطفال المقتولين، يبكي،
وهو يمسّد رؤوسهم المفغورة.
يخطّ بإصبعه الأرض،
فينشقُّ أخدود كبير طويل، لدفن الضحايا،
ويبقى عند شواهدهم يتمتمُ بالنار والرّذاذ،
هو شيخ الماء، الذي يسكن قرب بيوت الصفيح على شاطئ غزّة،
هو الذي ينسرب من تحت الأبواب،
ليعود امرأة فقدت كلّ أبنائها،
يربط على قلبها بالنعناع،
ويقبّل قدميها،
وهو الذي يُلقي بالركام بعيداً، حتّى يصل إلى لعبة القُطن،
يحملها ليعيدها إلى تلك الطفلة المُثخنة الزائغة،
ينتقي بإصبعيه قطع الحيطان المهدّمة،
وما تقصّف من سقوف وجدران وشجر،
وينعفها في السماء بعيداً،
فتشهق بنثار الضوء،
وهو الذي أعاد المئذنة التي شطروها،
إلى حالها،
ولبّدها بريقه لتظلّ واقفة كالمسلّة والنداء،
يعتلي حصانه الرّاعد،
ويعرج به إلى السماوات،
ليبكي على أبواب العَرْش:
لترحمَ غزّة.
وهو الذي حتَّ بإظفره جدولاً؛ لتجري المياه العادمة المتفجّرة
إلى المَصَبّ البعيد،
حتّى لا تغرق البساتين والأحياء،
وهو الذي يتراكض كالغيوم في الليالي،
يحمل ما تبقّى من أكياس على كتفه،
يوزّعها على المشرّدين والمتحلّقين في العتمات،
يفتح شريانه ليتدفّق النعمان،
لترتوي البيّارات العطشى،
وتنفجر أراضيها بالشقائق، وأزرار العندم،
ويغسل، بعد كلّ قنبلة، الطرقات،
فيبدو ما تبقّى من البنايات والشوارع مصقولاً
بالرقراق الشاحذ،
وأراه، يجلس القرفصاء،
وجهه إلى الشرق،
وقد غرز كفّيه، مثل معولَين في قاع الحدّ الجنوبيّ والحدّ الشماليّ،
ويحاول أن يستلّ غزّة من جذورها،
ويحملها إلى شرفة في بيته العالي، ويضعها هناك،
ويحيطها بذراعيه،
إنّه البحر.
***
ثمّة حجارة تتنادى، لتعيد البيتَ إلى شبابه.
***
القَطِران المغليّ، الذي غطّى الجَنينَ، جعلني
لا أتأمّل الحليب كما أُحبّ أن أراه،
فقد رأيته، غير مرّة،
وألحَفَ عليّ لأن أغضّ الطرف عن لونه،
وأحمل القتيل الصغير إلى مقبرة مُلفّقة، تفغر فمها..
فثمّة فُسحةٌ قد تتّسع له بين أكفان المطمورين.
***
وأنت تجمعين أغراضك عند الحاجز المخيف، ومن أمام الجندي المُتحفّز ، كان قلبٌ يتبعك، وتوقّف عندما أوقفوك، وشهد الحكاية كلّها، وحينما لملمتِ الأغراضَ، لم تنتبهي إلى أنّك وضعتِه في الحقيبة، انتبهي،
ثمّة قلبٌ ينبض بين يديك.
***
أكتب على الهواء
لا قلم في البلدة سوى أغصان الشجر، وحِبْرها دم،
وأنا لا أتقن غير المداد، أو الكحل الذائب في قبضة الرّمان.
***
شجرةٌ أرملة تبكي بعْلَها، وهي على ذروة المقصلة، وتصيح،
والسماء المنهوبة تضجّ بالطائرات.
***
وما زلت أنتظر العشبة التي تهجس بها العتمات.
***
الغيمة الزرقاء النّابضة، التي تُظَلّل الأشجار الناطقة..
تُخبّئ الصباحات للعيد.
***
لا بُدّ من إنقاذ الدُّمية من الوَحش.
***
ما أجملَ شغب النسور بين الأشجار!
***
أحبّي حياتك أيتها المدينة وأنت في حضن الموت ، مثلما تحبّين جبروتك وأنت بين يديه العاصفتين ، اندسّي في مغارة حضنه وأطلقي كل زوابعك الحارقة ، ولا تعودي ..، وتذكّري أن صيحاتك الجامحة أيقظت آبار الجحيم ، وأعادت الصواعق للشتاء.
***
وعصفت الريح السوداء، وجاء الطامعون من كلّ فجّ يلهثون وراء ما تمور به بلادي من خير، وقد حسدوها على العفّة، والاطمئنان، ورغد العيش الهانئ؛ فظهرت الهوام، وجفّت الينابيع، ونشفت الحقول من الحرائق والقنابل وسعير القاذفات، ووضعت الحواجز القاتلة، وانتظروا الخيبة والخسران، من أعداء قساة أشرار، ونبضت العروق خوفاً في الليالي المدلهمّة، وفزعت القلوب من صليل الهجوم المباغت والمكرور، وانكتمت صرخات، وناحت الصدور وجاحت الأفواه المذبوحة الثكلى، ونزح الكثيرون وتشتّتوا، وبدت الذلّة والانكسار على الوجوه، بعد أن كان البِشْر لونها البريء.
وكان مجنونُ البلدة قد صرخ في الهزيع، مُحذّرا الناس، من أنّ الغرباء سيأتون على مراكبهم السوداء الباطشة الهائلة، بوجوههم الغوليّة المشوّهة، وقرونهم الحادّة، وأظفارهم التي هي مخالب ذئاب هَرِمة، يحملون السواطير والقضبان البرونزيّة التي تشرّ حدّة وسعيراً، وبملابسهم المعدنيّة المُطْفأة، سيهبطون على الشاطئ وبين الحارات، في ليل بهيم، يذبحون، وينهبون، ويسلبون، وسيبيدون القصور والقلاع والمعابد، وسيدخلون البيوت من أوّلها حتّى آخرها، سيغرزون سكاكين أيديهم الآثمة القذرة في بطون الحوامل، وينزعون الأجنّة من الأرحام، وسيقهقهون وهم يرفعونها وهي تنبض بالدم الفوّار، وسيلتهمونها، فتتبقّع وجوههم بفقاقيع تتخثّر، فيصبحون أكثر رعباً وتوحّشاً.
قال : سيَدْهمون المدائن والقرى كلّها، وسيشعلون الحرائق في البيوت، والدواوين، والدكاكين والحقول، وسيرقصون على إيقاع اللهّب المسعور، وسيجأرون ويضربون بمدرّعاتهم الأبواب فيحطّمونها، ويقطّعون رؤوس الشيوخ والأطفال، ويستبيحون النساء الصغيرات، وهم يخلعون ضفائرهن فتنسلخ جلدة الرأس وتنبع بالدم الحرام .
وسينجو القليلون، ليبدأ المُغنّي بكائيّته من لغة زائغة، مجنونة الحنين، دائخة، تبحث عمَّن بقي من الأشياء والوجوه، بعد هذا الدمار المريع.
سيقف على تلّة في البعيد، لعلّ أرضه تتراءى له، ليقول: كان كلامي العذب مخبّأً في عينيك، ولطالما قلتِ لي أن أصيح باسمك عندما أشتاقكِ، وها أنذا أصيحُ فلا تأتين!
كنتِ تشعّين بجسمكِ تحت غلالات الضباب الحزين، وها أنتِ تنغلقين على سواد تامّ.
لقد أفقدوك براءتك وعفّتكِ، وأطبق الملحُ على شفتيكِ.
لقد خرج بعضُ أهلك مفزوعين، وكانوا ينظرون إلى الوراء، ودمهم يتهاطل من أجسامهم، ودموعهم ملء وجوههم، وكانت الأشجار تنخلع عن عَرْشها الأبديّ، وتجري نحوهم لتعانقهم العناق الأخير، وكانت حجارة البيوت المهدومة تتطاير باتجاههم لتقبّل رؤوسهم وأكتافهم، وتودّعهم، وتبكي وحدتها مع الجثث المترامية والصبّار اليتيم.
وظلّ السراج يرتعش في البيوت التي انذبحت، وبقي الفتيل يتغذّى من الدم الذي شخبت به الأبدان والجدران، فعبّأ حوض السراج الصغير، وهذا ما تراه يومض من بعيد في الظلام.
وليس لك الآن، أيّها المُغنّي إلّا أن تحرس السنبلة التي حملها ذلك الفتى اللاجئ، بعد أن استلّها من حقله، قبل أن يحرقوه، ووضعها في جيبه. خُذ حبّات السنبلة وابْذرْها في كل الحقول المحيطة بالأرض، لتمتلئ الحدود بالموج الأشقر.
يا ليتهم صدّقوا مجنون البلد المبروك، الذي كان يجأر في وحشة الليل، يشرخه بصراخه، محذّراً من الغرباء، الذين سيَدْهمون البلد، ويستبيحونها من كلّ الجهات، بعد أن انشغلت البلد بنفسها، وتقاتلت فيما بينها، وبطرت، وتقحّمت المحارم، وطاشت ببذخ وإسراف، بدل أن ترعوي، وتشكر الخالق على نِعمه وفضله، وكان على بلادنا أن تحوّل أخطاءها إلى ذهب، لكنّها لم تفعل.
تشظّى أهل البلد، ونزحوا إلى الظلال، وركنوا خلف التلال، وصمتوا وذبلوا، وراحوا يَزْجون أيامهم بالتذكّر والتحسّر على ما مضى من عزّ غابر لن يعود ما دامت سواحلهم كسولة، ترغي برتابة، لم يشقّ عبابها قارب محاربٍ ذو شراع أسود متين. وهناك على السواحل حطّ الغزاة الغرباء، وأقاموا معسكراتهم، وراحوا يبحثون عن منابع العطاء والكنوز، وصارت الأرض التي اغتصبوها مكاناً وثنيّاً لإقامة الشعائر الخرافيّة.
وضاقت البلاد، وانسدلت ستائر خرافيّة سميكة من البعيد، جعلت المدائن من خلفها غائمة لا تُرى، وقيل لقد هدمها الغزاة، وتبدّلت، وصارت أشباحاً مهدودة، وانحسر جزء من أهلي في هذا المكان، وتوقّف الزمان الثقيل على كواهلهم، ينتظرون المصير الغامض..
لكنّ إرهاصة الجمر قد توهّجت، وبدت كأنّها وردة أسطوريّة ستملأ الدنيا بنارها المقدّسة، لتنجو الأرض ثانيةً من اليباب والظلام، فكانت الفرس التي اخترقت المسافات، فانقدح الشّرر من حولها، وأومضت البلاد بأُوارِها، وسالت أعراف السابحة بعسلها الساخن المنثور، فشهقتِ البلادُ بالنّرجس والشقائق والفرفحينة، واستيقظت الأقواس، فانظروا إلى السماء.
***
دائرة الفسيفساء تكره موقعها على مدخل بَهو المشفى المُستَباح،
كانت قد طلبت من البنّائين أن يأخذوها إلى غرفة الحارس،
فثمة شمعة لا تنطفئ،
وإبريق لهبٍ يرشح لليل.
***
كائنٌ من ضبابٍ كثيفٍ يُقرفص أمامي،
ويشير عليّ أن أتسلّق الشجرة التي ورائي،
فالتفتُّ، فوجدتُ جذورها في السماء وغصونها على الأرض مقلوبة،
أُحاول أن أصعدها،
فأجدني أمام بابٍ كبيرٍ خشبيٍّ سميك،
نهايتُه في السماء،
أدفعه وأدخل،
فإذا أنا أمام بحرٍ أحمر!
إنّها دماء،
يعلو الماء المُكثّف ويتقدّم مني، ويلامس قدميّ فأنفضهما من لزوجةٍ أحاطت بهما،
فيجفل الدم، ويتراجع، فينكشف ترابٌ جافّ، كان يحمل البحر الهارب،
أطؤه وأتقدّم ماشياً، فأتناثر كأنّي حبيباتٌ خفيفةٌ طائشةٌ في الهواء،
ولم يتبقّ منّي غير فمي،
هذا الذي ألجَمَتْهُ الرّهبة، وجمّده الخوف
من السقوط.
***
سنعبرُ نَهرَ النار، لنبلغَ البُستان.
***
لا بأسَ من وجود بعض الخوف مع الجَسارة.
***
الدَمُ الزاجلُ مَسَّ الغزالةَ فتوهّجت، وأغراه المتكوّر فتقاطر شهداً، وانحنى على الصخرة، فحفظ التلاميذُ دروسَ النسيان. هو السيّد المحفوظ في الحديد والسَّهَر، وقهوة العروس المُصابة بالإغماء. عقربُ الحرب وأقدامُ العرْش، وزغبُ أنثى الوشق ، وجرأةُ الناي وهدايا النحلة. دمعةُ البرتقالة وإشارةُ الجُلـّنار وعُرْفُ الصيّاح المختال.
والدمُ مَهرُ الحرية وبكارةُ العاصفة وصوتُ القـُرآن المكتوب. أمشاطُ النخلة وعنادُ الغروب وخريفُ الحور الواقف. سيفُ العاهل العادل، وسنانُ البدوي الأمير. نبضُ الحرير المنساب، فتيلُ سراج القرية، وعطرُ الفجر المشهود، وما تركته الأفعى على صخرة الثأر. أيقونةُ النار وتلويحةُ المُهر وثوبُ الضبع الوحيد. والدمُ تلبيةُ المتبتّل، وهمس الغنوصيّ السّريّ. هو قلبٌ وهلالٌ وما شئت من التراب. وهو بُراقي إلى نبيذي الحامض وسنابلي المهروسة، وتاجي وأنا أصارع الهزيمة، وقد بلغ الصليبُ الـُجلجلة! وهو حجري الأسود وأذاني للقوافل.
والدمُ يتيمٌ، ثمينٌ، يصلح لأنْ يلمع للآخرين ويظل جائعاً كفأس العبيد. حاكمٌ يُغري الصوفيين وروحه مخبّأة في الوردة السوداء. سأرميه إلى مخلب مهمازي وللنار ،ولن يتم خلاصي من دون بعثه للنجمة القاحلة، حتى تشفّ النداءات في البراري، وتعود المواقد في أجنحة الفينيق. وسأركب هذا درجه الساطع وأعتلي منصّة السبيكة الحمراء، وأنظر من عينيْ زرقاء اليمامة لأرى أدغال الثائر تدفّ من بعيد، أحضنه، فيبتلّ قميصي بالكرز، وأرجع إلى البيت، إلى أن تقول الجارةُ لامرأتي: ما هذا الشجر الماشي؟ ألا يكفيكم بلّوراً لتصدّوا الظلّ الداكن! يكفي، غطّتنا الشمس الحارقة.
***
***
المرأةُ، مَنْ كانت تتغيّا الليل المُفـْرد، لِتَعُبَّ هواء الأضواء وغبش الرنّام، وتنزلق على أرجوحة الحرّيف… جَفّ حلقها مرارةً، وانكمش الأرنب الصغير على فراء الحسرة..
لقد وقعت الحرب قبل اللقاء!
***
والولد اللاهث هرباً من خوذات الدببة دلف إلى بيتٍ يقيه الموت، فوجد زليخة التي أجلسته مع وحدتها الملكية، فَهدّأت من رعشاته الخائفة ، وعادت إليه بحزمة سنابل،حتى يصدّق رؤيته المُضمَرة ،ولا يخاف .. فخرج غير آبهٍ بالحوت الحديدي الساحق.
***
غزالة حامل بأجنّتها تقطع الدرّب إلى شجرها، فتضربها مركبةُ الجيش، فتطير الغزالةُ وتسّاقط حبّاتُ رحْمها المدمّاة، وتتدحرج بعيداً مشقوقة البطن، والفوران الأحمرُ يتدفّق، والزغب مهروس تحت العجلات!
جاء الفلاّحون من القرى المجاورة، ولمّوا أشلاء الغزالة، وجمعوا معها الأجنّة المسحوقة، وأقاموا عليها الصلاة!
يقولون: نبعٌ من عصافير مضيئة يتدفق عالياً كنافورة من شذرات لامعة ترسم شكل قلب مكان ارتطام الحديد مع أمّ الصغار.
ويقولون: ناي يعلو كالغبش أو الغلالة يتكوّر كبطن الحامل وينفجر رذاذاً بلّورياً، حيث انسحقت الشمسُ مع نجومها التي لم ترَ النور.
ويقولون: بكاء خفيف يصدر عن الحجارة والأغصان وجذوع الشجر وأنامل العشب وتبر التراب في فضاء استشهاد الحامل الصعب.
ويقولون: إن جمرات بيضاء تنبض في الليل، كلما وسوست العتمة وادلَهمَّ الليل، فتخرج الطيور من أعشاشها تؤنس وحدة البياض الشجاع.
ويقولون: ما فتئت قطرات ندى بطنها المخمليّ ترهج كالذهب على جنبات الطريق، وإن الشجن يعلو كلما عصفت الرياح، أو مرّت العجلات القاتلة.
وقالوا: إن الغزال المكحّل الذي فَقدَ غزالته المدهومة قد تحزَّمَ بالإثمد، وجنّحت شظاياه على بُعد وردة من الحاجز المنعوف.
***
الرجلُ الذي سملوا عينيه يتذكّر جفرا التي قتلوها،وينادي..لقد انقطع الماء واندلعت النار في الثياب، فاحترق ومات، وتيتّم الحبق الوحيد، وبكى طوال الليل الأطول.
***
جريء كالموسيقى هذا الطفل، ومجنونة كالزلازل تلك الحرب، والمسرح يعجّ بأقنعة المُشاة المدججين بالنار.
***
هي المعركة السرمديّة بين أنبياء الأرض ومصّاصي الدماء،
وبين الزيتون والنار،
وبين ثقافة الكرامة، والأنفة، والحياة، والخلاص، والحلم، والانتفاضات العبقريّة،
القائمة على ثقافة “اقرأ” السماويّة،وبين ثقافة الاحتلال المتمثّلة بالهدم، والحرق، والقتل، والتخريب، والجهل، والضيق، والموت، والحصار، والخرافات الدمويّة، والاستلاب، والشطب، والإلغاء، وتطوير كلّ أشكال القمع عبر التاريخ، وإعادة إنتاجها بساديّة، على كلّ ما هو قائم يتنفّس.
***