تبني المترجمة الإسبانية “نويمي فييرو باندير” (Noemí Fierro Bandera)، جسورا ثقافية وحضارية مهمة بين العالم الناطق بالعربية والعالم الناطق بالإسبانية، انطلاقا من النصوص التي ترجمتها من العربية إلى الإسبانية، وذلك رغم أنها دخلت إلى ميدان الترجمة بـ”محض الصدفة” عام 2014، لتركزَّ اهتماماتها على نقل نماذج أدبية من الأدب العربي المعاصر إلى لغتها الأم (الإسبانية).
وفي هذا الصدد قامت باندير بترجمة عشرات النصوص سواء كانت رواياتٍ أو دواوينَ شعر وغيرهما من قصص قصيرة.
سابقًا ترجمت بانديرا -التي وُلدت عام 1976- رواية “أيام قرية المحسنة” للكاتب العراقي عيسى حسن الياسري، ووصلت ترجمتُها إلى القائمة القصيرة لأفضل كتاب مترجم من العربية للإسبانية ضمن قائمة مجمع الدراسات العربية في إسبانيا، كما قامت بترجمة نصوص مهمة من بينها روايات الروائي السعودي هاني نقشبندي كرواية “سلام” ورواية “نصف مواطن محترم”، كما قامت بترجمة رواية علاء الأسواني “جمهورية كأنَّ” التي نالت بفضلها المرتبة الثانية في جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي (الدورة التاسعة، قطر 2023) في فئة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية.
وفي هذا الصدد قامت الجزيرة نت بحوار مع المترجمة الإسبانية نويمي فييرو باندير، من أجل فهم كيف بدأت علاقتها باللغة العربية، وكيف تختارُ أو تختارها النصوص التي تترجمها، وهل يتحولُ النص المترجَم لنصٍ للمترجِمِ أم لا، فإلى الحوار:
كيف بدأت علاقتك باللغة العربية؟ هل حقا بدأت صدفة؟
نعم بدايتي مع اللغة العربية وليدة الصدفة، دخلت الجامعة لدراسة اللغة الإسبانية وآدابها ولكن في السنة الأولى أو الثانية لا أتذكر جيدا كان عليَّ أخذُ مادة إجبارية كلغة ثانية، على غرار أغلبية الطلبة اخترت اللغة الإنجليزية لتكونَ لغتي الثانية، والتجربة لم تكن لطيفة بالنسبة لي، بخلاصة شديدة رسبتُ في امتحانها الأخير وكان أمامي خياران إما أن أسجل مجددا لدراسة اللغة الإنجليزية وإما أن أختارَ لغة أخرى، ومن بين اللغات المدرجة في البرنامج كانت اللغة العربية التي لم تكنُ تربطني بها أيُّ علاقة، لكن برنامجا كان يحتوي على جملة أو جملتين مكتوبتين باللغة العربية، أدهشني الخط ووقعتُ بحبِ هذه اللغة، ومنذُ ذلك الحين بدأت في تأملها، كنتُ أقولُ لنفسي بأن هذه الحروف ليست بلغة بل هي فن، جمال الخط قادني إلى دراسة اللغة العربية ومن ثم بدأت علاقتي باللغة العربية، ومن ثم تخرجت من اللغة الإسبانية وتخرجت من اللغة العربية في الجامعة.
هل يمكنُ أن نعتبرَ أن علاقتك بعالم الترجمة بدأت صدفة كذلك؟
بدأت علاقتي بالترجمة بطريقة عجيبة، كنت مقيمة في الكويت بفعلِ حصولي على منحة من جامعة الكويت لدراسة اللغة العربية لغير الناطقين بها، وفي الكويت اكتشفت شيئا عجيبا، كانت هناك عاصفة رملية منعتنا من الخروج يومين وكنا نظلُ في سكنِ الطلبات، وتزامنَ وجودي في الكويت مع وجود معرض الكويت للكتاب والذي اقتنيت منهُ رواية “أيوب شاهين” لصاحبها سالم آل تويه.
بسببِ اعجابي الجم بالرواية عكفتُ على قراءتها وإنهائها في مدة يومين، وحينها انتابني التفكيرُ كيفَ يمكنُ أن أنقلَ هذه الأفكار وهذه الشخوص المتناثرة بين جنبات الرواية إلى لغتي الأم (الإسبانية)، وانطلاقا من هذه الصدفة بدأت أفكرُ في الترجمة، وأن أصبح مترجمة رغم أني لم أكن أعرف شيئا عن دور النشر والترجمة كمهنة، وبناء على هذه الصدفة بدأت في التفكير في اتخاذ الترجمة مهنة أنقل عبرها الأفكار من العربية إلى الإسبانية.
تقولين إن ما لفت انتباهكِ للأدب العربي أنه لصيق بالحياة، كيف ذلك؟
في هذا الصدد أتفق مع ما قالهُ الدكتور (الناقد الفلسطيني) فيصل دراج بأن الرواية العربية هي الوثيقة المكتوبة الوحيدة التي تعبرُ عن الواقع العربي والعيش بداخله، وهو ما اكتشفتهُ وأعجبني وجعلني أستمرُ في الترجمة، لأن القصة والرواية العربية مؤثرة وتحملُ بين طياتها دروسا كثيرة يمكنُ تعلمها عن الحياة وصيرورتها، الأدب العربي بالنسبة لي بوابة لكي أستمرَ في التعلم وأظل لصيقة بالشعوب العربية.
في الحقيقة، المتأمل في اختياراتك للروايات يرى أنك تختارين الروايات التي ترصد الواقع العربي وتحاول أن تظهر الإنسان إنسانا، وتحاولُ أن تظهرَ تفاعلات الإنسان العربي مع السلطة أو التاريخ، وربما هنا نعود إلى الرواية التي ترجمتها لهاني نقشبندي والمعنونة بـ “سلام” هذه الرواية ربما تظهر العلاقة ما بين الغرب والشرق، ما بين الحضارة الأندلسية والإنسان العربي والحنين وعلاقته بالماضي، وفي الوقت نفسه فإن الرواية تسلطُ الضوء على مسألة مهمة مفادها أن هناك لعنة أن إعادة بناء قصر الحمراء ليس سوى لعنة يتجدد بها الخلاف ما بين الأنا والآخر ومن العربي المسلم والغربي المسيحي لماذا اخترت هذه الرواية وكيف قمتِ بترجمتها؟
قمنا بترجمة رواية سلام ضمن منشورات جامعة أليكانتي، وهي رواية عميقة جدا، تحملُ بين ثناياها رسالة تدفعُنا جميعا للتفكير (نحن الإسبان وأنتم العرب)، تواصل معي هاني نقشبندي (رحمة الله عليه) “صدفة” لكي أترجم الرواية، حيث قرأت أعمالهُ قبلَ أن نصبح أصدقاء، تحدثنا كثيرا عن الرواية، والتقينا بشكل مباشر، هذه اللقاءات والصداقة التي ربطتني به ساعدتي كثيرا لكي أقتحمَ عالم نقشبندي بسلاسة وأدخلَ في جو الرواية، وهو ما جعلنا معا فخورين بنص الترجمة الصادر للرواية.
الرواية تتميزُ بتواجد عناصر مهمة كفيلة للفت انتباه القراء العرب والإسبان، لأن قصر الحمراء الذي تحومُ القصة حولهُ موجود بإسبانيا “الأندلس”، ورغم أن الرواية تم استقبالها بالنقد لدى القراء والنقاد فإنها رواية مهمة وشجاعة على غرار شخصية هاني نقشبندي التي اتسمت بالشجاعة، حيث لا يسعى لإرضاء النقاد والقراء بقدر ما يسعى لإيصالِ أفكاره المميزة.
ورغم أن الرواية تتضمنُ أفكارا مهمة فإنها تدفعُ القارئ للضحكِ بسبب تظافر المواقف الطريفة بين طياتها، لأن نقشبندي يستطيع مخاطبة قلوب وعقول قرائه سواء كانوا عربا أو إسبانا وهو ما يجعلني فخورة بهذا العمل.
في رواية “سلام” نجدُ هاني نقشبندي يأخذنا في رحلة للبحث عن سلام، هل هذه الرحلة هي رحلة للبحث عن الهوية الضائعة؟ أم أنها رحلة تعكسُ عبثَ الارتهان بالماضي ونسيان الحاضر الذي يجب أن نعيشه؟
أتفقُ مع آخر ما قلتَ، وأعتقدُ أنها هي جوهرُ رسالة رواية “سلام”، امتلك نقشبندي صورة واضحة عن هويتهِ، لكنهُ أرادَ أن يقدمَ للقارئ بالعربية نظرة عن تاريخ الأندلس ومآثرها (كقصر الحمراء)، ليدفعهُ نحوَ التفكير، واستعمل نقشبندي هذا النهج لأنهُ يدرك أن الثقافة الماضوية تهيمنُ على العالم العربي، حيث يعيشُ العربي في الماضي أكثر من عيشهِ في الحاضر، وأعتقد أن هذا أمر محققٌ بالفعل، فنظرة العرب والإسبان للأندلس ليست واحدة، هناك اختلافٌ كبير في النظرتين للأندلس.
بكل تأكيد من يزورُ المعالم الأندلسية يقعُ في حبها، ولكن تظلُ نظرة الإسبان لحقبة الأندلس مختلفة كل الاختلاف عن نظرة العرب لها، وهنا أنا لا أقيمُ أيهما أصح، ولكن يهمني أن ألفت الانتباه لاختلافهما، وأحدُ أسباب هذا الاختلاف يكمنُ في طبيعة اختلاف نظرتنا للماضي، وكيف يمكن أن يؤثرَ الماضي على الحاضر.
بناء الحضارة الأندلسية، كان عملا مشتركا بين سكان ضفتي البحر الأبيض المتوسط، ألا ترين أن العودة إلى اللحظة الأندلسية مهم، لأنه عودة لنقطة مشتركة بين حضارتين مختلفتين من أجل بناء قنوات وجسور للتواصل الحضاري؟
أتفق معك تماما، الأندلس هي نقطة التقاء حضارية مهمة يمكنُ البناء عليها من أجل مد جسور التواصل الحضاري، الأندلس جسدَت نموذجا لالتقاء الثقافات والحضارات والأديان، وهنا يبدأ النقاش بين المتخصصين لتمحيص مثل هذه الأسئلة أكثر، وتحديد طبيعة وحدود التعايش الذي جسدتهُ الأندلس، وفي هذا الصدد لا أستطيع أن أقدم الكثير لأنني لستُ متخصصة في تاريخ الأندلس، ولكن أتفقُ معك بخصوص أن هذه الحضارة التي امتدت لقرون ترخي بظلالها على مكنوننا الحضاري العربي والإسباني في آن واحد، وكيف صنعت حركة الترجمة التي كانت في الأندلس أوروبا التي نعرفها اليوم، ولكن في نفس الوقت لا يجبُ أن نُحَّمِلَ الأندلس ما لا طاقة لها به، أصبح هناك اختلاف كبير اليوم بين المجتمعات العربية والإسبان، وحضور المركب الأندلسي في إسبانيا أو دول الجوار محدود جدا في ظل اختلاف السياقات الزمنية.
مع ما توفرهُ الأندلس من أرضية مهمة لبناء نسيج التعايش، إلا إنني أعتقد أننا لا يجبُ أن نقفَ كثيرا عند الأندلس لأن التحديات التي يفرضها الواقع المعاصر عديدة وتحتاج منا جميعا أن ننخرط فيها وننظرَ للمستقبل نظرة متفائلة.
لنظل قليلا مع روايات هاني نقشبندي، لم تترجمي رواية واحدة له بل قمت بترجمة أكثر من رواية من بينها روايتهُ المميزة “نصف مواطن محترم”، هل هذه الرواية تذكيرٌ آخر من نقشبندي للمواطن العربي بأنهُ يجبُ أن يواجهَ واقعهُ بدلَ أن ينغمسَ في الماضي، لأن واقعهُ يقولُ لهُ إنه مجرد “نصف مواطن”، هل هذا صحيح؟
نعم صحيح، الماضي يتحولُ أحيانا إلى ملجأ يجنبنا المواجهة نستخدمهُ للتهربِ من التفكير النقدي نحوَ أسئلة الحاضر والمستقبل، رواية “نصف مواطن محترم” رواية مهمة جدا، وتحملُ بين طياتها رسالة عميقة جدا. والجميلُ في طريقة كتابة هاني حسبَ ما شعرتُ بهِ، أن القارئ لا يشعرُ بأن الكاتبَ يلقنهُ رسائلَ مباشرة، بل القارئُ يستشفها من معرضِ تطورِ أحداثِ الرواية.
أصدرت الرواية في وقت “الربيع العربي”، وهو تزامنٌ فقط، لأن هاني اشتغلَ عليها وعلى تفاصيلها قبلَ أحداث “الربيع العربي”، والرواية تناقشُ علاقة الفرد البسيط بالسلطة وكيف تغيرُ السلطة أهداف وتصرفات الفرد البسيط، وهي رسالة كونية لا تقتصرُ على المواطن العربي بل أي مواطنٍ يتفاعلُ مع الدولة والسلطة، وكيف تؤثرُ السلطة على حياتهِ اليومية البسيطة.
وخاصة أن الرواية دخلت غمار التحديات السياسية التي يعانيها المواطن العربي حسبَ تصورِ نقشبندي، حيث سردَ لنا قصة إنسان تطورت حياتهُ فقط لانهُ كان يسعى ليأخذ تصريحا لدفنِ زوجته، وإذ به يجدُ نفسهُ مسجونا ومتهما في قضايا “زعزعة النظام”.
ترجمت رواية أخرى تنحو نفس المنحى ولكن بأدوات أدبية أخرى وهي “جمهورية كأن” لـ علاء الأسواني وأخذت عليها جائزة حمد للترجمة والتفاهم الدولي، أول ما يتباردُ في الذهن لماذا ترجمتِ هذه الرواية؟ هل نحن أمام صدفة أخرى؟
صحيح، الأمر جاء صدفة كذلك، وهنا يجبُ أن أنوهَ لأمرٍ بأن أغلب المشاريع التي أعملُ عليها لا أختارها بل يتمُ اقتراحها عليَّ من دور النشر، في المقابل أغلب ما أودُ ترجمتهُ أجدُ صعوبة لإيجادِ دار نشرٍ لترجمتهِ، وعليه، فإن ترجمة رواية “جمهورية كأن” لصاحبها علاء الأسواني كان بطلبٍ من دار نشرٍ إسبانية، اتصلت بي واقترحت عليَّ المشروع واتفقنا على التفاصيل وباشرتُ ترجمتها، وخاصة أنَّ الرواية ترجمت في السابق للغات عديدة من بينها الفرنسية والإنجليزية، كما أن دار النشر كانت تضغط عليَّ من أجل ترجمتها لذا اشتغلنا عليها بشكلٍ مكثف لمدة 4 شهور بتركيزٍ عالٍ طوال أيام الأسبوع، وبعدَ إتمام إنجازها جاءت جائحة كوفيد-19 وتأخر اصدارها عاما كاملا.
هناك من يرى بأن المترجم يبني علاقتهُ الخاصة بشخصيات وعالم الرواية، ورواية “جمهورية كأن” لعلاء الأسواني، غاصة بشخصيات عديدة تسبرُ أغوار المجتمع المصري وتعكسُ مختلفَ شرائحه والطباع التي قد تكونُ متناقضة، كيف تعايشتِ مع هذه الشخصيات من أجلِ أن تترجمي لنا هذا العمل الأدبي الرفيع؟
سؤال جميل لأنهُ يدخل مباشرة في “فن الترجمة”، وهنا أعتقد بأنَّ، ما يهمني في الترجمة هو الدخول في أعماق النص، وهو ما أقومُ بهِ مع كل النصوص التي أترجمها بما في ذلك رواية “جمهورية كأن”، وبهذه الطريقة يتحولُ النص المُتَرْجَمِ إلى نصٍ للمُتَرْجِمِ، وفي حالة رواية “جمهورية كأن”، وبسببِ شهرة صاحبها، تشكَّلَ لدي ضغطٌ وتوترٌ كبير بفعلِ أن للرواية قراء عربا كُثُرا، وهي حالة سيئة جدا، المترجم لا يستطيعُ أن يعملَ تحت ضغطٍ كبير، لكن هذه الحالة تفككت شيئا فشيئا مع مرور الأيام، وعملتُ على أن أتعمدَ نسيانَ صاحب النص ودار النشر وجمهور الرواية، وهي خطوة إجبارية لدخولِ عالم الرواية، هذا الدخول هو الذي حولَّ نصَّ الرواية إلى نصي، وجعل عملية ترجمتها للإسبانية أمرا ممكنا بالنسبة لي.
الذي أكسى رواية علاء الأسواني جمالية خاصة مقارنة بالنصوص الأخرى التي ترجمتها هي أن الرواية غنية بالحوارات الجميلة، ووجودُ عنصرِ الحوارات مهم لأن الحوارات هي بوابة القارئ لدخول عالم الرواية بشكلٍ مباشر، عبر الحوارات يمكنُ للقارئ أن يُلِمَّ بأبعادِ الشخصيات، كما أنها ساعدتني لدرجة أن شخصيات الرواية أمست صديقة لي، وخاصة أني لا أصدرُ أحكاما على شخصيات النص، المترجم لا يجبُ عليه أن يلعبَ دورَ القاضي، بل يجبُ أن يحاول أن يفهم الشخصيات ليفكك النص.