تستكشف الكتابة في مجموعة “ولا أشهى” للشاعرة السعودية هيلدا إسماعيل الواقع من منظور لغة بسيطة تتودد إلى المتلقي، لكنّها تختزن شحنة من المعنى تحيط نفسها بروابط قد لا تنكشف إلا عن طريق تبصّر درجات التّعبير الشّعرية.
تحرّر اللغة في نصوص “ولا.. أشهى” إضاءات شفّافة طبقا لمقاربة صوفية تشتغل على “التقشير” أو التخلي للاندماج في العالم بما يتوافق وطبيعة الشّعر، ولعل نص “مقشّرة” يحيل إلى المعنى في مسعى الشّاعرة التفكيكي.
العتبات/ صدمة التلقي:
تشكّل بعض العلامات المحيطة بالنّص عتبات هامّة، وهي إذ تقدّمه “لضمان حضوره في العالم” كما يقول جيرار جينيت، تمنح القارئ استبصارا لأجل اختراقه وفكّ شفراته، و”تحليل البنى المترسّبة التي تشكّل العنصر الخطابي أو الخطابية الفلسفية التي نفكر داخلها”، كما يشير دريدا إلى مفهوم التفكيك.
ومن هذا المنظور يتعيّن العنوان كبنية تقدّم حقلين دلاليين، تشكّلا من خلال توظيف الشاعرة نقاط الحذف التي فصلت بين “ولا”، حيث تأسّس الحقل الدلالي للنّفي، و”أشهى” الذي يفيد التفضيل والذي تأسّس كحقل دلالي للإثبات، والنقاط المتتابعة تفيد إخفاء معنى ما، وبالتالي، يتأكّد وجود الحقلين، كبنية تضادية تنتج صراعية ما، تنتصر لما ترومه الشاعرة من خلال النّفي والاثبات، والمحتمل التأويلي في جملة العنوان، هو نفي الواقع الذي تناضل الشاعرة لأجل تغييره من خلال تفعيل عناصره داخل فضاء الشعرية، أما الإثبات فهو تأكيد عالم الكتابة.
لون الطفولة/ كتابة الضد:
ترفل نصوص “ولا.. أشهى” بمشهدية انزلاقية، تغيّر من أوضاعها لتعرّي عطب الجسد الواقعي.
وفصل “سيّئة الصّنع.. ربّما” يندرج ضمن هذا المنحى في اللعب مع الواقع لتعريته، فهو يحتوي على حقل مفرداتي للطفولة، يتمثل في:
“الصّغيرة، تنورات ملوّنة، الطفولة، أحلامنا، العيد، بسكويتة، صبية، المدرسة”..
تحرّك الشاعرة هذا الحقل لتجعل منه مستويات مشاكسة، تنتج تفاصيل مضادة لحركة النّشاز في الواقع، عن طريق استدعاء شعري يمتح من اشتهاء طفولي للعب.
تقارب الشّاعرة أدق التفاصيل قربا من الطفولة، متمثلة في الحلم والعيد، مستبقة الحلم الشّعري بمقابلة المعنى على مستويات أخرى تغيِّب الكينونة، لخلق حالة صراعية تنتج تفاعلية البقاء، فعندما تقول في نص “فوق السطح”:
“رجل يدعى ـ أبي ـ/ ينفض.. / يعصر.. ينشر.. / يخذل امرأة.. / كانت أمي”/ ص6
فمواجهة الأب هي مواجهة مع المجتمع الأبوي برمّته، الذي يحاصر طفولتنا الداخلية وبالتالي، يقمعها في تجليات الحلم والعيد، فهي تقول:
“بلا مقاسات/ ـ أحلامنا ـ/ نحوكها معا”/ ص9.
“وفي العيد.. / نرتديها/ نذوب/ ننطوي/ ونتكرمش”، ص9.
فالطفولة تدرَك من خلال معنيين دالين على العفوية، وهما الحلم والعيد، اللذان يُنتَجان “بلا مقاسات”، وهو تعبير عن الفوضى التي تتحكم في مزاولة فعل الوجود وبالتالي، يُنتِج النص أفعالا طفولية (نذوب، ننطوي، نتكرمش) لمواجهة حزم وأناقة العالم الزائفة.
تعمد بعد ذلك الشّاعرة إلى إحالة القارئ على بنية تضادية، مُنتَجة من تقابل مفهومَيْ القيادة والإسقاط:
“أقود دراجة لم أنتقها”/ ص10، مفهوم يؤول إلى الحركة بدلالة القيادة، لكنّها حركة مفروضة غير اختيارية، وتلك هي حال الذّات الشّاعرة، إلا أنّها لا تستسلم للحال بل تتسلح بشكس الطفولة متقمّصة فعل الإسقاط الذي يتوافق مع ركوب الدرّاجة، وفعل الإسقاط تلحقه بحقل الأب (ابنته):
“وهكذا../ أُسقط ـ ابنته ـ/ ولا ألتقطها”، ص10.
وبهذا تقتص من عالم الأبوية الاجتماعية، لتحقق ضمن فعاليات الاقتصاص الطفولي معنى الحرية:
“هه اشتريتها.. /ولم أدفع الثمن”، ص11
الذي لا يُشترى فهو من الحقوق الطبيعية، ومفردة “هه” تترجم الإصرار والعناد الطفوليين.
ثم تحاصر المشهد بلون طفولي عامر بالتشكيل الممتلئ بالبراءة، فقد ورد في قصيدة “فجراً”:
“والله كبرت/ وحدائي المخملي/ لم يكبر معي“، ص16.
توظيف عنصر الحذاء الموصوف بالمخملي، ثم إقحام الذّات في مجال الكِبر والصِّغر المتعلقين بوضع الحذاء كقيمة ترتبط بمستوى اجتماعي رفيع، وهو ما يؤكد “قواريرية” المرأة التي أحالتها الى قطعة ماس مغلّفة يُنظر إليها على أساس هشاشة وجودها المرتبط بالإغراء.
الحذاء مخملي من أعلاه وهو ما يجعله مرتبطا بمستوى الرّفاه، ولكن له أسفل متعلق بالتراب، وهي حركة شعرية تنبّه إلى المستوى المقابل للمجتمع المخملي، والذي يتأسّس كقيمة أيضا، والحذاء مرتبط بالحركة إلا أنّه لم يكبر مع الشّاعرة مما يشكّل حقل إعاقة بينها وبين الحركة كقيمة.
تبئير المعنى/ تفجير الدلالة:
لحظة اللقاء الأول مع النص هي لحظة للكشف عن عناصر متفرقة، فالمقطع الشّعري التالي من نص “مجرّد قهوة” يبني دلالة إيحائية انطلاقا من العنوان:
“أترسب في قاعك/ وبمزاجي../عابثة أموت“
تكثف الشّاعرة من إصرارها الوجودي في العالم انطلاقا من تفاصيل مهملة، “أترسب في قاعك”، تأخذ مدلولها مباشرة من العنوان فتتعالق في أفق التلقي بالقهوة، إلا أنّها تفرز ومضاتها من خلال ما يترسّب في الفنجان، فهو عادة لا يُشرب وإنّما يُتلهّى به، فينخرط في الوعي بـ”المزاج” و”العبث” عن طريق التظاهر بشفطه، وبذلك يحقق كينونة وعدما في ذات الوقت.
ما يحققه المعنى الشّعري في هذه التضادية، يمثل ذوقا يجده من يراعي مدى اللعب مع قعر الفنجان:
“لا أشبه ثلجا/ قطنا/ فروا ابيض!!/ ولا أحسني وشوشة، في حب عابر“.
خيال شاعري وانفلات من واقع يستثمر في التهميش، أبرز صورة مجتمع لا يتذوّق تجليات القهوة رغم تداولها في فضاءه، لذلك أضافت الشّاعرة إلى مفردة القهوة في العنوان وصف التجريد الذي يوحي بالعادي والمستهلك.
تبالغ الشّاعرة في إظهار مغايَرة مترسَّب القهوة لما هو سائد:
“ورغم أنني../ لست ودعا/ ولا كدمة خانت زرقتها! / ولم أكن يوما../ بقايا غيمة”!
التقاء عدّة صور شعرية لتشكيل بؤرة تفاعلية، فالوَدَع للاستشراف، والكدمة للوجع والغيمة للسقاء، وعند هذا المستوى من تداخل المعنى تنفي الشاعرة سلبية الثيمات السابقة، إذ استعملت أدوات نفي، “لست، لا”، مؤكدة على إيجابية المشاركة من خلال تحوّلية طبيعتها من الحالة المرّة إلى الحالة الحلوة:
“إلا أنني ـ مُرّة ـ/ تحليني الطقوس”.
هذه الحلاوة حازت على طبيعة خاصة لما أُقرنت بالطقوس، فالنص يعيدنا الى طبيعة القهوة، الحاضرة تبعا لطقوسية تحضيرها ووجودها في مجتمع الشاعرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما التصق بالفنجان من استشراف المستقبل عن طريق العرافة، وبالتالي، يصبح الفنجان قيمة من خلال الحضور ومن خلال النّشوة التي تحيل الذّات إلى عالم الحلم والاتساع والمستقبل.
في نص “منذ (قهوة ع المفرق)”:
“طبعا.. / ما عدا ذراعي المبتورة/ كل شيء../ ما زال هناك”.
معنى ما يحيل الى الذات إيحاءً في “ذراعي المبتورة”، يحيل على مفهوم “موريس ميرلوبونتي” للجسم، حيث يرى بأنّ هناك “جسما معتادا”، وفسّره بالعضو الوهمي، واستدل عليه بمريض بُتر ذراعه، وظلّ يشعر به حتى بعد غيابه عن تعضية “الجسم الحالي”، “وهذا لا يمكن تفسيره إلا إذا اعتبرنا أنّ “الجسم المعتاد” قد خزّن حركات هذا العضو”..
رفض الجسد أن يتخلى عن تناسقه الذي هو مبعث النّشوة، وكذلك هي القهوة بالنّسبة لمرتشفها، وهو ما ينتج حالة ذات خصوصية تنعكس في “جسدانية واعية” كما ترجمها ميرلوبونتي، وبذلك يتمعلم عنصر القهوة داخل النّص، ويصبح عنوانا للأنثى المغمورة بالنّشوة.
تلميح اللغة/جمالية الإشارة:
تتقارب اللغة في نصوص “ولا.. أشهى” مع العادي، متحرّكة صوب الأشياء المكتظة بفرح يكشف عنه الهمس المُخزَّن في تراكيب التقارب غير العادي داخل منجز المعنى، وهو ما يجعل المقاربة الخطية للنص سطحية لا تصل إلى مضمر أنساقه.
نص “للجنون نهايات أخرى” هو اشتباك مع الدّنيا في هوامشها العامرة بالحياة والفرح البسيطين:
“جسدي../ إلى المحطة يسبقني/ يكنس/ يمسح/ يفترش../ الرصيف الذي أضاء”
لوحة تضج بالبراءة التي ينحتها الرّصيف، من خلال معنى التشرد عند حواف مفردتي الكنس والافتراش، إلا أنّ مدلول الحركة المتمثل في:
“جسدي../ إلى المحطة يسبقني“..
يجعل من التشرّد معادلا موضوعيا لتسكع الفنّان المباشر في جواهر الأشياء،
و”الرصيف الذي أضاء”..
تمثل شرارة انقداح بَوْحي وندِّي للعالم، منزاحة من مستويات فنية وإطلالات مسرورة للغة، حيث الرّصيف مسكن الغرابة والمغايرة التي تمنح جوهرانية “الوجود – في – العالم” بتعبير هيدجر، والرّصيف يكمِّل معناه من المدلول الإشاري الى الذّات في نص “قبل أن يخاصرني الموت”:
“أن على الأرصفة/أتمطى”
وفعل التمطي يعني الاستطالة، وهو اتساع الشاعرة بقدر العالم الذي تحيطه بمسبرها الشّعري، حتى تتمكن من الوصول إلى جوهره الوجودي من حيث تقدّم ذاتها إلى العالم مشاكسة لا مهادنة، وهو المحتمل:
“وبلساني أعرقل المارة”
يأتي المقطع الثاني ليكمِّل دلالات اللوحة في المقطع الأول:
“عامل نظافة.. / يرتدي كيسه الأسود/ ويراقص مكنستي”، ص81.
مدلول بسيط، إلا أنّ تراكيب الوحدات الشّعرية تقدّم مستويات من الدلالة تتقاطع عند زوايا حادة لتنتج إبهارا استثنائي، فصدى المعنى في جملة عامل النظافة، يستدعي بالضرورة مفهوم التهميش، بينما الرّقص الذي هو كناية عن حركة الكنس، يترجم مستوى من التناغم مع عملية النّظافة برمّتها وبالتالي، يصبح المدلول الجمالي أكثر انصياعا للإدراك من المدلول الوظيفي، وهو ما يجعل الاحتمال قويا في بحث الشّاعرة عما تعيد به التوازن إلى الخلل الذي أصاب العالم، من خلال انعزال الرّؤية في تضخيم عالم المركز، وتقزيم عالم الهامش الذي يمنح عالم المركز معناه من خلال القيم الجمالية التي يختزنها (النّظافة).