“لا يمكن لأحد أن يناقش مسألة الحب دون الرجوع إلى هذا الكتاب”، هكذا كتبت صحيفة دي تسايت الألمانية، واصفةً كتاب “لماذا يجرح الحب: تجربة الحب في زمن الحداثة” لأستاذة علم الاجتماع إيفا إيلوز. صدر الكتاب عن دار نشر صفحة سبعة عام 2020، بترجمة الكاتب والمُترجم خالد حافظي. تُناقش إيلوز في كتابها الضخم (أكثر من 400 صفحة). مسألة الحب في زمننا هذا، تتعمّق إيلوز في تفصّيلات كثيرة، حول الإشكاليات التي يُعاني منها الحب في واقعنا الحداثي، نحاول إيجازا الوقوف عند بعض ما طرحتّه إيلوز.
تطرح إيلوز بدايةً ما وصلت إليه العلاقات الإنسانية من هشاشة وضعف وانعدام ديمومتها، حيث قصص الحب لا تكتمل بين طرفيها، وهذا ما استفاضت فيه أكثر من الراحل أستاذ الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في طرحه لما سمّاه الحب السائل، حيث اهتمّ باومان في رصد الواقع الهش للعلاقات، وتحليلها في سياقها الراهن، أما إيلوز فكانت أكثر تعمّقا، آخذة السياق التاريخي للحبّ وإشكاليّاته وعلاقاته بالمنظومة الثقافية الحالية.
ترى إيفا أن إشكالية الحب قديما، كانت كما تروي القصص والأفلام الكلاسيكية، في اختلاف البنّيات الطبقّية المادية والاجتماعية بين الطرفين، حيث الغنى والأرستقراطية مقابل الفقر وانعدام الحَسبِ (العائلة النبيلة). وهذا ما يقف حائلا بين الأحباب، عدم نيل الاعتراف الاجتماعي والسلطوي من أحد الأطراف. لكن، في راهننا، تطرح إيلوز أن الأمر اختلف تماما، حيث يحقق الحب الآن، اعتراف الذات بنفسها، حيث يُعطيها الآخر عبر حبِّه الأمان الذاتي، التي يحقق لها الاستقرار النفسي، كما الثقة في التعامل مع المُحيط الاجتماعي، وهذا ما يعني أن فقدان الحب، يعني فقدان الإحساس بالذات، وفقدان الثقة في النفس، وبالتالي انزواء المهارات والقدرات الذاتية والاجتماعية، وتعطيلها ضمن ممارسات الحياة اليوميّة، ما يجعل “الانفصال الرومانسي/العاطفي يصل إلى حد تهديد شعور الفرد الأساسي بقيمة الأمن الوجودي”
وهذا بالطبع، لا ينفي أن المُحيط الاجتماعي ما زال حاضرا في العلاقات الاجتماعية، إذ نحن وبامتياز، في عصر السعي نحو نيل الرضا، حيث عند اختيار شخص ما للارتباط به، كي يصبح شريكا ومحبوبا لنا، يفكر الشخص -بشكل خفي- بينه وبينه نفسه، ويتساءل، هل عندما أُعلن على التواصل الاجتماعي الافتراضي عن الشخص الذي ارتبطت به، هل سيكون شخصا على قدر الاهتمام والتشريف في أعين الناس، هل ارتباطي بهذا الشخص سيزيد من رفع مكانتي وسطهم. وهذا لأن معايير اختيار المَحبوب “اُحتويت وحُميت بالحضور الكثيف للآخرين، الذين يتصرفون كحكّام ومنفذين للمعايير الأخلاقية والاجتماعية”، أي شرط الذات الشريكة لنا في الارتباط، أن تكون محلّ تقدير من الاجتماع الخارجي المُحيط بنا.
قديما كان هذا الاحتماء مُعتمدا على معايير اجتماعية وطبقية بالمَفهوم الكلاسيكي، لكن الآن، تغيّرت تلك المعايير، أو زادت عليها أشياء كثيرة، أهمّها الجمال والكمال الجسدي حدَّ الهوس، لاسيما عند الأنثى. إذ تحوّل المحبوب إلى سلعة، نبحث عليها بمواصفاتٍ معيّنة، ولو وجدناها، ربما نستغنى عنها بعد ذلك إن ظهر لنا مواصفاتٍ أُخرى في شَريكٍ أفضل من شريكنا الحالي، إذ المشاعر -هُنا- سائلة بوصف باومان، تبحث عن الافتخار بالمحبوب السلعة التي يمتلك سمات عُليا، يقدّرها الجمهور المُقيّم قبل أن يقدّرها الحبيب، وفي قلبها الإغراء الجسدي/الجنسي لدى كل من أطراف العلاقة، والذي مؤخرًا، أخذ حيّزا أساسيّا وطاغيا من مُتطلبات الانجذاب نحو الآخر، هذا الحيز مطلوبا وإنسانيّا، بل ومن المعايير الأساسية، بما يحتويه من جماليّة جسدية وذوقية، تجذب إليها الآخر، لكن، طُغيانه اليوم هيمن بالتوازي مع تعظيم، بل وتأليه الجسد الصاعد في فضاءات كثيرة حولنا، على سماتٍ أُخرى ثقافية وأخلاقية ومهاراتيّة تمتلكها الأنثى.
وهذا ضمنيا، نَجده، أي (التسلّع والهوس بالجسد) حيال تطبيقات المواعدة dating app مثل تندر tinder، ماتش دوت كوم match.com، بامبل bumble وغيرهم، والتي تعمل عن طريق تسجيل البيانات للملايين من المُستخدمين حول العالم، كُل شخصٍ حسب مواصفاته والمواصفات التي يتطلع إليها في شريك المُقابلة، ومن ثمَّ تبدأ عمليات الترشيح والإضافة والمتابعة، وتتمَّ المقابلات، ما أضاع فرصة الحبَّ بالمصادفة، وجعل الحب عملية تقنيّة مُنظمة، توفرها رأسماليّة الشركات التي تهدف أولا وأخيرا إلى الربح من خلال المُستخدم، بل وجعل الحبَّ عمليّة قائمة على الصفات الجماليّة الجسدية التي يرغبها ويُقيّمها كل طرفٍ في الآخر، بما سيكون محل إبهارٍ عام، هذه الصفات الجمالية التفت في عصرنا الحداثي المُشبّع بالتقنية التواصليّة حول الجسد، ومدى جاذبيّته وتألقه في الفضاءات الافتراضية والواقعية، إذ غدَا الجسد وفي دلالته الجنس أشدّ قوّة وسُلطة على أي معنى أو عاطفة مثل الإعجاب والحبّ
«إخفاقات حياتنا الخاصة ليست نتاج ضعف نفسي، وإنما تقلبات حياتنا العاطفية ومآسيها تتشكّل وفق ترتيبات مؤسساتية؛ فالمشكلة في العلاقات الإنسانية المعاصرة لا يكمن في طفولة مختلّة، أو نقص في الوعي الذاتي للنفس؛ وإنما مردّه إلى مجموعة من التوترّات الاجتماعية والثقافية، والتناقضات التي اجتاحت هيكلة الأنفس والهويات الحديثة»، بهذه العبارة، تُرجع إيلوز إخفاقات العلاقات العاطفية في واقعنا، إلى المنظومة السُلطوية الحالية، ثقافيا واجتماعيا، كوّنها تُساعد وأحيانا تتحكّم في تشكّل هذا النمط الهش من العلاقات. والفرار منه، يستلزم وجود أو خلق هُوية ثقافية تُقاوم تشكّلات المنظومة الثقافية والاجتماعية، وترجع إلى أصلانيّة الحب، أصلانيّته التي بوجودها، تتحقق ديمومة العلاقات الإنسانية كُلّها، وفي قلبها العلاقات العاطفية.