بداية أود أن أؤكد على أن الالتزام لا يعني مطلقا -كما يفهمه بعضهم- أن يعمد الكاتب إلى المباشرة، لكي يعد شاعرا أو كاتبا ملتزما، إذ لا بد من الموازنة بين الفكر والفن؛ بحيث لا يغفل الفن لصالح الفكر، ولا الفكر لصالح الفن.. فالنص الملتزم يجب أن يتكئ على الفن شرطا مركزيا..
ولا بد من الإشارة أيضا إلى ضرورة الابتعاد عن فكرة النفي لجنس على حساب آخر، وضرورة أن نتقبل الأشكال القائمة كلها، ما دامت لا تنفي ما سبقها، ولا تناصبه العداء؛ فالتجريب في الجنس الواحد أو في ابتكار أجناس جديدة، مما يعد حالة طبيعية تتناغم ومنطق العصر والتغيرات التي طرأت على المجتمعات، في ظل ثورة الاتصالات، وتوفر المعلومات، بعد أن بات الفضاء الرقمي وسيلة الاتصال الأقوى اليوم!
ظلت قصيدة النثر العنصر الأكثر إشغالا للنقاد والشعراء، من المؤيدين لها والرافضين على حد سواء؛ ذلك أنها تشكل حالة وعي استثنائية بالفن، وهي -فيما أعتقد شخصيا- فن الأذكياء والمثقفين، أو فن التواقين إلى الجمال المطلق والإبداع المغاير الذي يتحدى الذائقة، ويكسر حواجز الإسمنت التي احتجز خلفها التفكير الفني ردحا من الزمن، تحت مسوغات وهمية تدّعي حماية التراث من التخريب والعبث، وكأن قصيدة النثر وجدت ـ بالضرورة ـ لتمزق النسيج الاجتماعي العربي وتسيء لتراث الأمة..!
الجنس الكتابي وعاء يضم فنا وفكرا؛ فإن أنت وجهته الوجهة الصحيحة؛ صب في صالح الأمة وقيمها، ولا أجد صلة بين الاعتداد بقصيدة النثر، وبين نفي فكرة الالتزام؛ فالالتزام يمكن أن يكون من خلال النص الكلاسيكي أو نص التفعيلة أو قصيدة النثر، أو من خلال القصة والمسرح.. إلخ.
كذلك فإن فكرة الفن من أجل الفن يمكن أن تجيء عبر الشعر والقصة بمشتقاتها، والمسرح والموسيقا، أو أي جنس آخر؛ فالجنس لا يحدد هوية الشاعر، بقدر ما يحدده فكره ونظرته لقضايا أمته، ووعيه بالحالة الراهنة وارتباطه بقيم أمته وإرثها الحضاري..
ربما يرى بعضهم أن من غير المنطقي أن نفصل بين الحداثة بما هي فن وطريقة كتابة، وبينها بما هي فكر، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فمن ذا الذي سيمنعني من الكتابة بطريقة حداثية من دون أن أتبنى الفكر الحداثي؛ فلا أحد يستطيع أن يفرض علينا فكرا معينا، وقد بنينا التزامنا في “شعراء بلا حدود” على أسس واضحة ومبادئ راسخة تقوم على أساس شعارنا المركزي: “نحن مع الأصالة حين تعني الانتماء، ومع المعاصرة حين تعني الارتقاء”، بناء على فهم مشترك لمجموعة من المفاهيم النقدية والفكرية، من شأنه أن يؤسس لحركة نقدية حديثة تعبر عن فكر “شعراء بلا حدود” ووعيها الفني، لتؤكد بأن الحالة الشعرية العربية بخير، وعلى استقلالية التفكير الفني العربي، وأننا لن نظل تابعين لمفاهيم نقدية غربية، وأسرى المدارس النقدية المختلفة، بعيدا عن روح الأمة وتطلعاتها الوطنية والإنسانية، وبأننا قادرون على تصدير القيم الفنية العربية الأصيلة لغيرنا، من خلال التلاقح الفكري الإنساني، وبأننا قادرون على الخلق والإبداع..!
إن “شعراء بلا حدود” تشق طريقها في هذا الاتجاه بثقة واقتدار، وقد بدأنا مشوارنا النقدي ببلورة دراسة أولية ساهم في صياغتها عدد من الأساتذة النقاد، من “أعضاء شعراء بلا حدود” تحت عنوان: “حركة البناء والتأصيل“
إننا نرى وقد يرى معنا كثير من المشتغلين بالأدب بأن قصيدة النثر شكل فني يستحق الاحترام، وأن مناصبتها العداء من قبل بعضهم ليس دليلا على فهم؛ بقدر ما هو دليل على ضيق أفق، وقلة حيلة وعجز عن إدراك ووعي فني؛ فقصيدة النثر ماضية في طريقها، تماما كما بقية الأجناس الأخرى، ولسنا في ” شعراء بلا حدود” مع فكرة النفي، فنحن نقف على مسافة واحدة من الأجناس كافة.. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح..!