مَن مَرَّ مِنكُم بِجِلْدٍ كان ثُعبَانا؟
شَيءٌ على الأَرضِ يُلقِي جِلدَهُ الآنا
وَحدِي مِن النَّاسِ مَذعُورًا شَكَكْتُ بهِ
فلم أَجِد لِشُكُوكِي فيه إِمكانا
وَحدِي مِن الخَلقِ يا وَحدِي أَفَقتُ، وقد
تَشَابَكَ الكَونُ أَفلاكًا وكُثبَانا
صَرَختُ بِالبابِ: لا تَفتَحْ، فَأَلفُ يَدٍ
سَتَطرُقُ الآنَ طَرقَ المُدمِنِ الحَانا
كي أُبصِرَ الخَطبَ.. كُلِّي كان في بَصَرِي
كي أسمَعَ الصَّوتَ.. كُلِّي كان آذانا
فَتَحتُ شُبَّاكَ خَوفِي، والنُّجُومُ على تْــ
تُرابِ، يَنزِفنَ أَصواتًا وأَلوانا
ولِلمَجَرَّاتِ هالاتٌ وفَرقَعَةٌ
تُحِيلُ شُمَّ جِبالِ الأَرضِ شُطآنا
وفي فَمِ الرِّيحِ قَرنٌ، وهي نافِخةٌ
بِهِ على الأَرضِ، تَروِيعًا وإِثخانا
وكانت الشَّمسُ مُلقاةً كَجُمجُمةٍ
على الخَريطةِ، كان اللَّيلُ غِربانا
وكان كُلُّ شِهابٍ يَرتَمِي شُعَلًا
فَيَلتَقِي بِجَحِيمِ الأَرضِ بَردانا
وسُجِّرَ الماءُ.. حتى صار أَدخِنةً
على المُحِيطاتِ، صار البَحرُ قِيعانا
والشَّرقُ والغَربُ، لا شَمسٌ، ولا قَمَرٌ
تَلَاقَيَا، لِفِرَاقٍ كادَ، أَو حانا
ولِلسَّماءِ شَظايا كالزُّجَاجِ، هَوَت
على الجَميعِ.. فَعَادَ الكَونُ عُريانا
وأَمطَرَ الأَسوَدُ الغِربِيبُ.. فاختَلَطَت
بهِ الأَقالِيمُ، غاباتٍ وخُلجَانا
وانشَقَّتِ الأَرضُ.. حتى صِرتُ أُبصِرُ في
عِظامِها البِيضِ أَشجارًا وحِيتانا
ومِثلَ رَعدٍ غَضُوبٍ صاحَ في أذُنِي
صَوتٌ يَقُولُ: تَعَوَّذ.. قُلتُ: سُبحانا
وكنتُ أَدعُو سُهَيلًا لِلنَّجاةِ، فَلا
يُجِيبُنِي، فَسُهَيلٌ صارَ جُثمانا
سُهَيلُ!.. كيف تَهَاوَى؟! كُنتُ أَحسَبُهُ
يَعِيشُ بعدَ زمانِ المَوتِ أزمانا
سُهَيلُ رَبُّ جُدُودِي قبل أن تَلِدَ ال
سَّماءُ والأرضُ أَربابًا وأَديانا
سُهَيلُ أَكرَمُ نَجمٍ كان يَنزلُ مِن
سَمَائهِ لِيُحِيلَ القَحطَ وِديانا
وكان خَيرَ بَشِيرٍ.. حِين نَسأَلُهُ:
يا حارِسَ البُنِّ.. بُشرَى، قال: بُشرَانا
وكان حين تَهِيجُ الشَّمسُ يَحمِلُنا
إِلى الظِّلالِ.. زَرَافاتٍ ووُحدانا
وكان يَجمَعُ كُلَّ الغَيمِ في فَمِهِ
إِلى الحُقُولِ.. ويَقضِي العامَ ظَمآنا
وكان كُلَّ صَبَاحٍ يَستَوِي، فَنَرَى
نُضُوجَ أثمارِنا، بُنًّا، ورُمَّانا
سُهَيلُ كان أَبَانا، حين تُنهِكُنا
مَوَاسِمُ الجَدبِ تَجويعًا وخِذلانا
وها هُو الآنَ.. لا الشِّعرَى نَعَتهُ، ولا ال
عُبُورُ ناحَت عليهِ حِينما عانَى
وها هُو المَوتُ يَدنُو نافِضًا يَدَهُ
كَعَامِلٍ يَتَقَاضَى الأَجرَ عَجلانا
وها أَنا الآنَ وَحدِي أَرتَجِيهِ بما
لَدَيَّ مِن كَلِماتٍ ذُبنَ أَشجَانا
فَلم يَقِف بِإزائِي غَيرَ ثانيةٍ
وغابَ.. غابَ حَسِيرَ الطَّرفِ، حَيرانا
وكُنتُ أَسأَلُ نَفسِي: كيف لم يَرَنِي
وكان أَقرَبَ مِن عَينَيهِ وَجْهانا؟!
أَلَم يَجِد لِفَراغِي فيه مُتَّسَعًا
أَم أَنه لِرُجُوعٍ غابَ حُسبانا؟!
ما كُلُّ ما يَتمَنَّى المَرءُ يُدرِكُهُ
فالمَرءُ قد يَتَمنَّى المَوتَ أحيانا***
وحين أَيقَنتُ أَنِّي ما أَزالُ على
قَيدِ الحَياةِ، حَمَلتُ القَيدَ قُضبانا
لم تَترُكِ النَّارُ لِي بَابًا فَأُغلِقَهُ
ولم تَدَع لِيَ تحت السَّقفِ جُدرانا
تَصَاعَدَ الخَوفُ، وانسَلَّ الدُّخَانُ كما
يَنسَلُّ سارِقُ لَيلٍ عادَ كَسبَانا
وصائِحٌ صَاحَ: لا غُفرَاااانَ.. قُلتُ لهُ:
وهل وُلِدنا، لكي نَحتاجَ غُفرانا؟!
نَحنُ الذين دُفِنَّا قَبلَ أَزمِنةٍ
مِن خَلقِنا.. أَفَنُعطَى اليَومَ دَفَّانا؟!
وهل نَخَافُ على ما سَوف نَفقِدُهُ
وقد سُلِبناهُ قَبلَ الفَقدِ حِرمانا!
يا كُنتَ مَن كُنتَ.. هذا يَومُ مَولِدِنا
فَنَحنُ أَقدَمُ خَلقٍ عاشَ فُقدانا
أَين اشتِعالُ رُؤُوسٍ في بَيَاضِكَ مِن
مَن لم يَذُوقُوهُ أَطمارًا وأكفانا!
كُنَّا بَنِي سَكَرَاتٍ غَيرِ كافيةٍ
حتى لِنَعرِفُ أُوْلَانا وأُخرَانا
لم نَقطَعِ العُمرَ.. لا شَكًّا، ولا ثِقَةً
ولا كَفَافًا، ولا كُفرًا وإيمانا
إِن كان ذَنبٌ فإِنَّا لا ذُنُوبَ لنا
فَنحنُ لم نَتَعدَّ العُمرَ صِبيانا
يا كُنتَ مَن كُنتَ.. ماذا لو رَجَعتَ بِنا
حتى نُعِدَّ لِهذا اليَومِ أَذقانا؟
ما دُمتَ قَبلَ بُلُوغِ الدَّفقِ قاطِفَنا
فَلا تَكُن بِبُلُوغِ الفَقدِ مَنَّانا
مَن لم يَعِش مُستَطِيبًا عَيشَهُ فَلَهُ
أَن يَقبِضَ العَيشَ بَعدَ المَوتِ مَجَّانا
يا كُنتَ مَن كُنتَ.. لا تَضرِب يَدًا بِيَدٍ
كي تُنصِفَ النَّاسَ كُن ما اسطَعتَ إِنسانا***
وعُدتُ أَسأَلُ نَفسِي: مَن أنا؟! وعلى
ماذا أَنُوحُ؟! وما لِي زِدتُ نُقصانا؟!
وكَيف أَصبَحتُ طَيفًا لا يَرَى أَحَدًا
ولا يَرَاهُ.. وعَمَّن أَبحَثُ الآنا؟!
هذا الصُّداعُ غَريبٌ.. كيف يَحمِلُنِي
قَوسًا.. وأَحمِلُهُ ثَورًا ومِيزانا؟!
وكيف دُونَ جَميعِ النَّاسِ بِتُّ على
مَصَارِعِ الخَلقِ والأَفلاكِ نَدمانا!
أَعُوذُ بِاللهِ مِن سَمعٍ ومِن بَصَرٍ
لا يَعرِفانِ إِلَيَّ الآنَ عُنوَانا
ومِن ثُمَالَةِ أَشعَارٍ تَقُولُ: أَفِق
فَإِنَّ عَبدَ يَغُوثٍ ماتَ سَكرانا
ومِن بَقِيَّةِ نَفسٍ لا تُزِيحُ أَسَى
مُشَرَّدٍ، أَو فَقِيرٍ باتَ جَوعانا
أَعُوذُ بِاللهِ مِن لَيلٍ يَصِيحُ مَعي:
أَيَّانَ يا رَبِّ يَومُ الدِّينِ.. أَيَّانا؟!
قُل هَل أُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِين؟؟ هُمُو
مَن يَمنَحُونَ دَنِيءَ الأَصلِ سُلطانا
ومَن يُلَاقُونَ مَن يَسطُو مَلائِكةً
ويَسأَلُونَ: لماذا صَارَ شَيطانا!
لَانُوا لِمَن عاثَ، أَجسادًا وأَفئِدَةً
والنَّارُ تَأكُلُ حتى الصَّخرَ إِن لَانا
لا تَشتَرِ العَبدَ حتى والعَصَا مَعَهُ
فَالحُرُّ أَرخَصُ مِنه اليَومَ أَثمانا
يا بَين قَوسَينِ إِنِّي بين أَربَعَةٍ
وما أَزالُ غَريقَ الماءِ عَطشانا
ما أَطوَلَ البَحثَ عن شَيءٍ بلا صِفَةٍ
وما أَمَرَّ احتِمالَ العَجزِ إِذعانا
هل أُفصِحُ الآنَ عن شَوقِي إِلى وَطَنٍ؟!
لا أَستَطِيعُ لِهذا الشَّوقِ كِتمانا
وعُدتُ اَسأَلُ نَفسِي عن سُهَيلَ، وعن
بَنِيهِ، كيف غَدَوا صُمًّا وعُميانا!
وكَيف لم يَتَساءَل عَنهُ مَن سَجَدُوا
لِوَجهِهِ، وحَبَوهُ الزَّادَ قُربانا
أَين الذين تَسَاقَوا صَفْوَ غُرَّتِهِ
وأَين مَن عَهِدُوا مَسرَاهُ سُلوانا
مَن وَحَّدُوهُ، وقالُوا: أَنتَ كالِئُنا
وعَدَّدُوهُ، وصارُوا عنه كُهَّانا
ومَن لِوَمضَةِ طَيفٍ مِن جَلالَتِهِ
كانوا يَذُوبُونَ أَرواحًا وأَبدَانا
تَزَاحَمِي يا سُمُومَ القاتِ في دَمِهِم
وأَطلِعِي الوَعيَ بِالمَأساةِ أَغصانا
مَن سَوف يَبكِي سُهَيلًا أَو يُسامِرُهُ
إِن كان كُلُّ عَزيزٍ هانَ أَو خانا؟!
يا أَيُّها اليَمنيُّونَ انهَضُوا، فإذا
لم تَنهَضُوا فَسِوَاكُم ليس خَسرانا
إِنّا لَنَنطِقُ كُفرًا حِين نَبرَأُ مِن
شَقَائِنا، ونَقولُ: اللهُ أَشقانا
لا تَبعَثُوا لِسُهَيلَ اليَومَ تَعزِيَةً
سُهَيلُ لا يَتَقَاضَى الحُزنَ أحزانا
لَن تُرجعُوهُ مُنِيرًا قَبلَ أَن تَئِدُوا
ظَلامَكُم، وتُزِيحُوا النَّارَ والرَّانا
لَن تَغلِبُوا المَوتَ بِالمَوتَى، ولَن تَجِدُوا
سِوَاكُمُو بين أَهلِ الأَرضِ أَعوانا
أَنْ تَكبَحُوا النَّارَ مَغلُوبِينَ أَشرَفُ مِن
أَنْ تَربَحُوا العَارَ هالاتٍ وتِيجانا
لا يَبلُغُ الذُّلُّ بِالأَوطَانِ مَبلَغَهُ
إِن لم يَجِد بِبَنِيها مِنه أَقرانا
ولا يَنَالُ عَدُوٌّ مُبتَغَاهُ سِوَى
مِن مَوطِنٍ نالَ مِن أَهلِيهِ عُدوانا
يا تاركًا شَاتَهُ لِلذِّئبِ يَحرسُها
لا يَملِكُ الذِّئبُ إِلَّا الفَتكَ إِحسانا
وعُدتُ أَسأَلُ نَفسِي عَن سُهَيلَ، كما
لو أَنَّهُ لِيَ وَحدِي كان هَيمانا
حِينٌ مِن القَهرِ لم يَشعُر بهِ أَحَدٌ
عاصَرتُهُ، وعَصَرتُ القَلبَ ذَبلانا
ولم أَكُن بِمَصِيرِي عابِئًا، فَلَقد
رَضِيتُهُ يَمَنِيًّا، زانَ، أَو شَانا
خَمَّارةً كانت البَلوَى، وجَارِيَةً
وكُنتُ أكثَرَ خَلقِ اللهِ إِدمانا
وكُنتُ عِندَ بُلُوغِ البابِ أَصغَرَ مِن
يَدِي، وأَكبَرَ مِن دُنيَايَ فِنجانا
لم أَستَعِر صَوتَ غَيري كَي أَنُوحَ بِهِ
بَلِ استَعَرتُ بِدَمعٍ سَالَ نِيرانا
واختَرتُ أَن أَتَخَلَّى فيه عن فَرَحِي
لا عِشتُ حَيثُ يَسُودُ القَهرُ فَرحانا
لا شَيءَ يَقتُلُ مِثل الصَّمتِ في وَطَنٍ
بِأَهلِهِ ضَاقَ حتى صَارَ أَوطانا
وقِيلَ: مَن أَنتَ؟! قُلتُ: اللهُ أَعلَمُ مَن
أَنا.. فَكُلُّ جَوابٍ صارَ بُهتانا
لا السَّاعةُ الآنَ تَدري ما الزَّمانُ، ولا زْ
زَمانُ يُدرِكُ مَعنَى السَّاعةِ الآنا
ودارَتِ الأَرضُ.. وانشَقَّ الغَمَامُ على
غَيَابَةٍ، أَنبَتَت دُورًا وسُكَّانا
وعادَتِ الشَّمسُ تَجري في مَجَرَّتِها
والبَحرُ عادَ عَمِيقَ القَاعِ، رَيَّانا
وعادَ لِلأُفقِ لَونٌ كان فارَقَهُ
وعادَتِ الشُّهبُ قُطعانًا فَقُطعانا
وعادَ كُلُّ زَمَانٍ صَوبَ وِجهَتِهِ
وعادَ كُلُّ مَكانٍ حَيثُما كانا
إِلَّا سُهَيلُ.. وإِلَّا أَهلُهُ.. فَلَقَد
تَأَرَّضُوا، وغَدَوا لِلنَّملِ جِيرانا***
سُهَيلُ هانَ على مَن كان سَيِّدَهُ
فكيف يَرفَعُ رَأسًا سَيِّدٌ هانا!
سُهَيلُ كان بَعيدًا عن قَذَائِفِنا
فكيف أصبَحَ قَتلانا وجَرحانا!
وكيف صار غَريبًا وهو وَالِدُنا
وجَدُّنا، وهو وَالِينَا، ومَولانا
وكَيفَ بَعدَ نَجَاةِ الكَونِ أَجمَعِهِ
سُهَيلُ أصبَحَ لِلبَارُودِ خَزَّانا؟!
سهيلُ أصبَحَ يَمشِي حافيًا، وعلى ال
دُّرُوبِ يَعطِسُ أَضراسًا وأَسنانا
وصَارَ يَمسَحُ نَعلَ الغَاصِبِيهِ، ولا
يُريدُ غَيرَ رِضَاهُم عَنهُ رِضوانا
وصارَ يَلعَقُ صَحنَ الجِنِّ مُختَلِسًا
وصارَ يَدخُلُ سُوقَ الطَّلحِ طَحَّانا
وصارَ يَبرَأُ مِن صَنعاءَ في عَدَنٍ
وصارَ يُنكِرُ في البَيضاءِ عمرانا
وصارَ بَعدَ أَذَانِ الفَجرِ يَخجَلُ مِن
خُرُوجِهِ بِثِيَابِ المُلكِ قُرصانا
وصارَ يَلعَنُ طَيفَ الذِّكرياتِ إِذا
أَعَدنَهُ لِزَمانٍ كان رُبَّانا
وصَارَ يَشحَذُ حتى الشَّمعَ مُفتَخِرًا
بِأَنَّهُ كان أَقمارًا وشُهبانا
وأَنَّهُ كان لِلأَنهارِ مُرضِعَةً
وأَنَّهُ كان لِلأَدهارِ خَتَّانا!
ماذا يُرِيدُ عَزيزٌ باسِطٌ يَدَهُ
مِن فَخرِهِ؟! أُيُعِيدُ الفَخرُ ما بانا؟!
وَجهُ العَزِيزِ إِذا ما ناحَ مِن عَوَزٍ
لَيلٌ يُنَطِّفُ ماءَ الرُّوحِ قَطرانا
سُهَيلُ كيف تَنَاسَى أَنه مَلِكٌ
لا سائِلٌ يَتَمنَّى النَّومَ شَبعانا
وكيف أَصبَحَ وَكرًا لا أَمَانَ بهِ
وكان تَحتَ ظِلالِ العَرشِ بُستانا
وكيف صار عُبَيدًا لِلعَبِيدِ له
وكان أَكثَرَ غاراتٍ وفُرسانا؟!
سُهَيلُ ليس سُهَيلًا بعد أَن خَلَعُوا
بَرِيقَهُ، وكَسَوهُ العُريَ أَدرانا
لا يَبلُغُ السَّوطُ بِالتَّعذِيبِ نَشوَتَهُ
إِلَّا بِظَهرِ سَجِينٍ كان سَجَّانا
سُهَيلُ مُذ هَارَ لم يَترُك لِآسِرِهِ
ولا لِخَاسِرِهِ في الأَسرِ بُرهانا
سُهَيلُ في القَيدِ نَبضٌ غيرُ مُنضَبِطٍ
يُصَارِعُ المَوتَ، تَرحابًا، وعِصيانا
وكُلَّما شاءَ أَن يَنسَاهُ.. عانَقَهُ
عِنَاقَ مُنتَحِرٍ لم يُبقِ شِريانا
بِهَيكَلٍ لا تُحِسُّ الرِّيحُ إِن عَبَرَت
بِهِ، أَكَانَ عُزَيرًا أَم سُليمانا!
ولم يَزَل صارخًا بِالمَوتِ: يا شَبَحًا
يُحِيطُ بي.. لم أُعُد أَحتاجُ حِيطانا
كُلِّي امَّحَى بين سِندانٍ ومِطرَقَةٍ
أُرِيدُ مِطرَقَةً أُخرَى وسِندانا
أُريدُ أَكثَرَ مِن رَأسٍ أَنامُ به
حتى أُلَاقِيَ مَا أَخشاهُ يَقظانا
وكَي أُحِسَّ بِأَنَّي صِرتُ أَكبَرَ مِن
صَخرٍ يُقَسَّمُ أَسداسًا وأَثمانا
لو كُنتُ أَعلَمُ أَنِّي سوف أُبخَسُ.. ما
تَرَكتُ حِين لَمَستُ الأَرضَ دُكَّانا
ما أَظلَمَ النَّاسَ إِن غابُوا وإِن حَضَرُوا
وأَعدَلَ المَوتَ في الحَالَينِ إِن آنا
ماذا أُسَمِّيكَ يا حَظًّا وَقَعتُ بِه
سَهوًا، وجَاوَرتُ بَعدَ الشُّهْبِ جُرذانا
ماذا أُسَمِّيكَ يا هذا الهَوانُ إِذا
جُعِلتُ لِاسمِكَ بين الخَلقِ جُسمانا
ماذا أُسَمِّيكَ يا هذا الزَّمَانُ وقد
غَدَا بِكَ البَعرُ ياقُوتًا ومِرجانا؟!
واااا غُربَتَاهُ.. أَمَا لِي مَن يُقَاسِمُني
شَوقَ الصُّعُودِ كَريمًا، كان مَن كانا
لم يُنسِنِي القَيدُ مِقدارِي ولا نَزَعَ ال
غُبَارُ مِن يَدِيَ المُلقاةِ إِيوانا
يا مَعشَرَ اليمنيين الذين رَأوا
سُهَيلَهُم، فَأَشاحُوا عنه نُكرانا
لا بُدَّ لِلحُرِّ مَهما هانَ مِن قَدَرٍ
يُعِيدُهُ بَعدَ طُولِ اليَأسِ دَيَّانا
والبُؤسُ إِنْ طالَ أَعوامًا، فَإِنَّ لَهُ
يَومًا، يُحِيلُ زُقَاقَ الكُوخِ إِيوانا
شَتَّانَ ما بين طَمَّاحٍ يَمُجُّ دَمًا
وخانِعٍ حَرَّرَتهُ النَّاسُ.. شَتَّانا
يا يَومَ أَنْ أَلقَتِ الدُّنيا بِزِينَتِها
واصَّاعَدَ اللَّيلُ في الآفَاقِ هَتَّانا
لم يَنسَ قَطُّ سُهَيلٌ فيكَ نَكبَتَهُ
لكنَّهُ صَارَ لا يَسطِيعُ نِسيَانا
ما بَينَ أَكبَرِ مِن صَخرٍ، وأَصغَرِ مِن
طَودٍ، أَرَاهُ يَحِيكُ السِّرَّ إِعلانا
ويُوقِظُ الحُلمَ في عَينَيهِ، عَن ثِقَةٍ
أَنَّ الطُّمُوحاتِ لا يُغمِضنَ أَجفانا
ويَقدَحُ الأَرضَ مُشتَاقًا إِلى سَفَرٍ
مُجَنِّحٍ، وجَنَاحٍ ليس عِيدانا
سُهَيلُ أَصبَحَ يَدري ما عَلَيهِ، وما
لَهُ، ويَعرِفُ مَن عادَى، ومَن صَانا
وأَصبَحَ اليَومَ أَقوَى حُجَّةً ويَدًا
مِمَّن أَعَاشُوهُ واعتَاشُوهُ طُغيانا
وصَارَ يُدرِكُ أَنَّ الأُفقَ مَنزِلُهُ
لا حَيثُ يَصحَبُ تَحتَ الشَّمسِ خِرفانا
وصَارَ يُدرِكُ أَنَّ المَوتَ أَكرَمُ مِن
حَيَاةِ مَن يَتَعَاطَى الذُّلَّ جَذلانا
سُهَيلُ أَصبَحَ شَوقًا لا حُدُودَ له
ووَثبَةً تَتَخَطَّى الكَونَ أَكوانا
لكنَّهُ دُونَ رَأسٍ يَستَطِيعُ بِهِ
أَن يَنهَضَ الآنَ حُرًّا، رافِعًا شانا
سُهَيلُ كم عاشَ مَسلُوبَ الجَنَاحِ، وكم
أَحَالَهُ الشَّوقُ أَعناقًا وأَحضَانا
كم عاشَ تَحتَ رَمَادِ الحَربِ مُفتَرِشًا
جُرحًا، ومُلتَحِفًا سُوسًا ودِيدانا
يُسَائِلُ النَّاسَ عَن شَعبٍ وعن بَلَدٍ
تَنَافَرَا، وأَحَالَا اليُمنَ أَضغانا
سُهَيلُ كم طافَ أَرضًا كان يَرمُقُها
مِن السَّمَاءِ، حِبَاءً، ليس سُؤلانا
في كَفِّهِ صُرَّةٌ غَبرَاءُ يَحمِلُها
حينًا، وتَحمِلُ عنه الكَفَّ أَحيانا
كم عاشَ بائِعَ وَردٍ في طُلَيطِلَةٍ
يُحَاوِرُ ابنُ زِيَادٍ فيه أَسبانا
ويَستَبِينُ رَعَايا تاشفِينَ وقد
تَجَوَّلُوا بِدُرُوعِ الفَتحِ رُهبانا
وعَاشَ سائِقَ باصٍ في السُّوَيدِ، وفي
أَطرافِ لَندَنَ حُوذِيًّا، وفَرَّانا
ومَاسِحًا لِزُجَاجِ المَركَبَاتِ، على ال
حُدُودِ، ما بين هانجتشو وهُونانا
وعاشَ تاجِرَ مِلحٍ، لا جَوَازَ لَهُ
مِن ساحِلِ العاجِ مَطرُودًا إِلى غانا
وكَم قَضَى في جنوبِ الشَّرقِ داعِيَةً
حِينًا، ونائِحَةً حِينًا، وفَنَّانا!
وفي الخَليجِ عُقُودًا عاشَ، ليس سِوى
إِلى الكَفَالَةِ يُلقِي المَالَ تَعبانا
وطاهِيًا في بِلادِ التُّركِ، مُجتَلِبًا
مَوَاشِيًا، بين سُوريَّا ولبنانا
وطاف كُلَّ بِلادِ اللهِ مُحتَمِلًا
إِهَانَةَ النَّاسِ، مَلعُونًا ولَعَّانا
شَوقُ البيُوتِ إِذا ما أَهلُها افتَرَقُوا
شَوقُ القَصائِدِ أَن يُصبِحنَ دِيوَانا
يا رَبَّةَ البَيتِ قُومِي غَيرَ صاغِرةٍ
كي تَذبَحِي الجُوعَ.. إِنَّي شِمتُ ضِيفانا
لا تُشعِرِيهِم بِأَنَّا مُنذُ أَزمِنةٍ
لا نَرفَعُ اللَّحمَ إِلَّا عن ضَحايانا
أَو نَعرِفُ العَيشَ إِلَّا في ضَمَائِرِنا
أَو نُبصِرُ المَوتَ إِلَّا في مَرَايانا
لا تُشعِرِيهِم بِأَنَّا جائِعُونَ، وما
في دَارِنا لِلقِرَى فَأرًا، ولا ضَانا
قُومِي اطبُخِي الجُوعَ مَندِيًّا، ولا تَقِفِي
وُقُوفَ مَن يُشبِعُ الأَضيافَ أَيمانا
قَولُ ابنِ مَحكَانَ: أَخوَالِي بَنُو مَطَرٍ
لَن يُحدِقَ اليَومَ إِلَّا بِابنِ مَحكَانَا
قُولِي لَهُم: إِنَّ دَعوَى مُرَّةَ انقَلَبَت
مَرَارَةً، أَو فَقُولِي: ماتَ خَزيانا
لا عُذرَ كالمَوتِ يُنجِي مِن نِكَايَتِهِم
أَو قَولِهِم: كان يُقرِي الفَردَ ثِيرانا
سُبحانَ مَن أفقَرَ الأَغنَى، وعَلَّقَنا
بَينَ ابنِ مَروانَ جَوعَى، وابنِ مَرَّانا
يا رَبَّةَ البَيتِ نُوحِي، إِنَّهُ زَمَنُ ال
نوَاحِ، أَو فَلتُعِيدِي الطِّينَ كِيزانا
أَمَّا سُهَيلُ فَإِني غَيرُ تارِكِهِ
تَركُ اليَمَانِيِّ ما لا يَنبغِي الآنا
سُهيلُ يَبحثُ عَن رَأسٍ يَطِيرُ بِهِ
لا زَاحِفٍ يَتَحَدَّى المَوتَ نَعسانا
سُهَيلُ ليس مَجَازًا.. إِنَّهُ يَمَنٌ
بَينَ ابنِ زايِدَ مُلقًى، وابنِ سَلمانا
يا مَعشَرَ الجِنِّ إِنَّا لائِذُونَ بِكُم
مِن عالَمٍ صارَ فيه النَّاسُ ذُؤبانا
إِخوَانُنا فيهِ جَارُوا في مَحَبَّتِنا
فَضَاعَفُوا البُؤسُ بَعدَ الرّطلِ أَطنانا
وصَيَّرُوا الخَوفَ مَأوَانا، وأَصبَحَ ما
يُخِيفُهُم: أَن يَصِيرَ الخَوفُ مَأوَانا!
وحَرَّرُونا.. ولكنْ مِن مِنازِلِنا
وأَهلِنا، وغَدَوا لِلخَصمِ أَخدانا!
والآنَ خَمسَةُ أَعوامٍ.. ونَجدَتُهُم
تُمَزِّقُ الصَّفَّ إِنسَانًا وبُنيَانا
والآنَ خَمسَةُ أَعوامٍ.. ونَحنُ على
فَرشِ الخِيَاناتِ أَنصَارًا وإِخوانا
لم نَقتَنِع بَعدُ أَنَّا زَاحِفُونَ إِلى
هَلَاكِنا، لا إِلى إِحياءِ قَتلانا
يا بَانِيَ الوَهمِ مِن طِينٍ ومِن حَجَرٍ
ما زِلتَ في الوَهمِ حَجَّارًا وطَيَّانا
بِالرَّأسِ يُعرَفُ قَدرُ القَومِ، ليس بِما
أَحَالَهُ العَجزُ أَعجازًا وسِيقانا
لا بَأسَ إِن كان هذا الرَّاسُ قُنبُلةً
لكنه بَانَ بعد الفَحصِ جِعنانا!
وأَصبَحَ اليَومَ ذَيلًا لِلذّيولِ، وصَا
رَ الذَّيلُ لِلذَّيلِ حَنَّانًا وطَنَّانا
مَن ذا يُعِيدُ سُهَيلًا لِلسَّماءِ إذا
بَنُوهُ صَارُوا خفافيشًا وفِئرانا؟!
يا حِميَريُّونَ يَستَغشُونَ كاظِمةً
الحِميَرِيَّاتُ لا يُنجِبنَ عُبدانا
تَعِبتُ مِن سَردِ فَصلٍ لا انتِهاءَ لهُ
وما أَزَالُ بِسِفرٍ مِنه مَلآنا
أُشَاغِلُ النَّجمَ عن ظِلٍّ يُشَاغِلُهُ..
فَالظِّلُّ يُصبِحُ عِندَ الخَوفِ غِيلانا
وأَقطِفُ الفَجرَ بَعدَ الفَجرِ مُنتَظِرًا
سُهَيلَ، وهو بِصَدرِي يَغرِسُ الدَّانا
ما أَقرَبَ الحُلمَ مِن سَمعِي ومِن بَصَرِي
لا تَهجُرُوا الحُلمَ هَجرَ البَانَةِ البَانا
ولْتَسأَلُوا إِن سَأَلتُم عَنهُ عَبهَلَةً
لا تَسأَلُوا عَنهُ باذَانَ بْنَ ساسَانا
وإِن أَرَدتُم بَيَانًا عنه ذا ثِقَةٍ
فَلتَسمَعُوا عنه حَسَّانًا ونَشوانا
لا تَرتَضُوا الحُكمَ مَحكُومًا، ولا تَضَعُوا
مِن بَأسِكُم فيه إِعوالًا وإِرنانا
لا يُرتَجَى الرُّشدُ مِن رَأسٍ له ذَنَبٌ
حتى ولو كان رَبُّ الرَّأسِ لُقمانا
كُلُّ العَمَالاتِ أَذيالٌ، وإِن حَمَلَت
غَيرَ اسمِها، أَو تَخَلَّت عنه أَحيانا
ما كُلُّ مَن قال: إِنِّي رَبُّكُم، هَطَلَت
أَرزاقُهُ.. فاكتُبُوا فِرعَونَ هامانا
يا حِميَرِيُّونَ.. ما في الأَرضِ مِن أَحَدٍ
كالحِميَرِيِّينَ إِعجازًا وإِتقانا
كُنَّا حُدَاةَ الثُّرَيَّا والثَّرَى، ولنا
بَينَ السِّمَاكَينِ قُطبٌ كان رَحمانا
وقَبلِ أَن تَستَدِيرَ الشَّمسُ سَاخِنَةً
كُنَّا بشَمسَانَ نَغلِيها، وغَيمانا
وقَبلَ أَن يَتَقَصَّى الرَّملُ قَامَتَهُ
ونَحنُ نَغزِلُ لِلمِرِّيخِ فُستَانا
وقَبلَ أَن يَتَهَادَى البَحرُ مُعتَكِزًا
ونَحنُ نَبرِي عَمُودَ الصُّبحِ غُدرانا
لا نَدَّعِي الفَخرَ.. إِنَّا مَن إِذا ذُكِرُوا
رَنَا إِلى الأُفقِ مَزهُوًّا وحَيَّانا
نحن الذين اجتَذَبنا العَيشَ، لا صَلَفًا
ولا أَذًى، واجتَذَبنا المَوتَ شُجعانا
ما بَالُنا اليَومَ خَلفَ الرَّسِّ مَوكِبُنا
مُعَطَّلٌ، وهُدانا خَلفَ خَلفانا!
ما بَالُنا نَتَسَاقَى مِن جَمَاجِمِنا
فِدَاءَ مَن بِغُرابِ البَينِ داوَانا!
شَيءٌ عَن الحُلمِ أَلهَانا وأَخَّرَنا
والحُلمُ إِن طَالَ يَومًا زادَ هِجرانا***
يا حِميَرِيُّونَ.. لا ذِكرَى لِ حِميَرَ في
أَبنائِهِ، إِن أَنَالُوا الحُكمَ زُعرانا
دُوسُوا الخِلافَاتِ إِن تُقتُم إِلى بَلَدٍ
إِنَّ الخِلافاتِ لا يُبقِينَ بُلدانا
لا تَطمَعُوا أَن تُعِيشُوا آمِنِينَ وقد
نَاصَرتُمُ الخُلفَ إِغضَابًا وتَحنانا
هذا سُهَيلٌ يُنادِي: يا بَنِيَّ قِفُوا
كي تُبصِرُوا كَم مُرادًا زادَ إِمعانا
كادَ الظَّلامُ عَليكُم أَن يَثُورَ، وما
زِلتُم تَقُولُونَ: شَوقُ الفَجرِ أَعمانا!
مَن غَيرُكُم مَن يَقُودُ الفَجرَ إِن فُقِئَت
عيونُهُ، وغَدَا لِلشَّوقِ عَجَّانا!
مَن غَيرُكُم مَن سَيُعطِي النَّجمَ أَجنِحَةً
خَفَّاقَةً؟ مَن سَيُعطِي الرِّيشَ أَلوانا؟!
مَن غَيرُكُم مَن سَيُنهِي الشَّوطَ، مُكتَنِزًا
في صَدرِهِ مِن عُيُونِ القَهرِ طُوفانا؟!
لا تُؤمِنُوا بِاعتِسَافِ اليَأسِ، واحتَرِسُوا
أَن تُمنَحُوا الوَهمَ جُدرانًا وأَركانا
غَدًا يَعُودُ سُهَيلٌ زَاهِيًا نَضِرًا
يُعانِقُ الأَهلَ أَشياخًا وفِتيانا
ولَن يَظَلَّ أَسِيرًا لِلتُّرابِ، ولَن
يُهَادِنَ اللَّيلَ مَهما جَارَ واختَانا
سَنَلتَقِي ذاتَ فَجرٍ تَحتَ رَايَتِنا
مُوَحَّدِينَ، كِبَارًا، رُغمَ بَلوانا
لا يَغلِبَ اليَأسُ إِلَّا مُؤمِنِينَ بِهِ
ونَحنُ بِالحُلمِ أَقوَى النَّاسِ إِيمانا
هذا بَيَانِي إِلَيكُم، صُغتُهُ جُمَلًا
ما لُحنَ لِلعَينِ إِلَّا فُحنَ أَلحانا
هَاجَرتُ فَيهِنَّ، حتى صِرتُ مُطَّلِعًا
وكاشِفًا ما سَيَأتي بِالذي كانا
وقُلتُ؛ والشِّعرُ يَحسُو مِن فَمِي ودَمِي:
ما دُمتُ أَملِكُ نَفسِي لَستُ خَسرانا
لا أَشتَهِي الآنَ لا حُزنًا ولا فَرَحًا
ولا أُرِيدُ على ما قُلتُ شُكرانا
إِذا صَدَقتُ.. فَقَولِي تِلكَ عادَتُهُ
وإِن كَذَبتُ.. فَقَولِي ليس قُرآنا
وإِن يَكُن لِيَ عَيشٌ بِالهَوَانِ يُرَى
فَالحَمدُ للهِ أَنِّي مِتُّ إِنسانا