في سؤال للروائية البريطانية زادي سميث عن سبب اختيارها الكتابة بضمير الغائب البعيد، اختارتْ أن تُجيب بالمقارنة مع تجربة زوجها الشاعر نيك ليرد، الذي كان يُشاركها المنصة حينها، فقالت -ما معناه- إنها على خلاف تجربة الشعراء لا تريد لكتابتها أن تدور في فلك “الأنا” انطلاقا من اللغة.
* * *
ظلّت الرواية على أطراف كل شيء؛ الحرب والقتل والأذى الفاقع، لكنها -في المقابل- كانت تُطلّ على كل ذلك من دون أن تقع فيه، وهو أمر كفيل بإيصال المعنى والشعور، كما تفعل تلك الجرعة المفرطة، وربما أزيد.
من هذا المنطلق ربما كنتُ متوجّسًا -بشكل مسبق- من أن ينحو الشاعر السوري المغيرة الهويدي صوب اللغة ويتكئ عليها بشدة، وهو يكتب روايته الأولى “قماش أسود”، فلا تغدو التجربة في النهاية أبعد من تدوير للشعر على هيئة سردية، غير أنه خالف ظني، وحسنًا فعل!
الرواية الصادرة -حديثًا عن منشورات “تكوين” الكويتية في 260 صفحة- تسرد قصة المأساة السورية، أو جانبًا منها بالأحرى، لكن هذه المرة بنبرة أُريد لها أن تخرج هادئة، وكأن مجيء الرواية زمنيًّا يعقب صراخًا طويلاً، فلم يكن من بدّ إلا التماهي مع الصوت المبحوح والأوتار المُتعبة. ظلّت الرواية على أطراف كل شيء؛ الحرب والقتل والأذى الفاقع، لكنها -في المقابل- كانت تُطلّ على كل ذلك من دون أن تقع فيه، وهو أمر كفيل بإيصال المعنى والشعور، كما تفعل تلك الجرعة المفرطة، وربما أزيد.
ينطلق العمل من الرقة، أثناء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على المحافظة الواقعة شمال سوريا، حيث يحكي قصة “نسرين”، الشابة التي تعيش حالة انتظار طويلة؛ بدءًا من الزوج المغيّب في السجون، ومرورًا بلحظة الانعتاق من القرية وهي تشهد معارك لا تهدأ، وليس انتهاء عند انتظار أمنيات قديمة لا تكاد تلوح حتى يأتي ما يُبدّدها.
يُحسب للمغيرة أنه أعطى ظهره -وبالهدوء ذاته الذي أنجز به العمل- لإغراء الكتابة عن صخب الأحداث في ظل حكم تنظيم الدولة، وهو صخب كان سيجرّ التجربة ربما إلى منطقة متوقعة؛ وبالتالي تُصاب بالفتور من حيث يراد لها الحياة. عوض ذلك، انحاز الكاتب للحكايات الصغيرة، لكن الأصيلة، للحياة المنزوية في العتمة، لكن العامرة بالمشتهى والمنتظر. حتى بطلة العمل لم تستحوذ على المساحة الأكبر لنفسها، كانت أقرب ما تكون لمصباح يضيء كل شيء حولها؛ الأماكن والأحداث والشخصيات، ولا تنال آخر الأمر إلا فتات ما ينعكس على وجهها من ضوئها هي. وذلك في ظني ملائم كثيرًا لشخصيتها الباطنية المنسحبة من العالم إلى ذاتها، والغارقة في انتظار أن تحدث الأشياء؛ تحدث من تلقاء نفسها، إذ لا يقين مطلقًا عند الشابة في قدرتها على فعل شيء، وهي ترزح على الدوام في خانة المفعول به.
تقضي نسرين الوقت وهي تصل الليل بالنهار -وحتى هذا كان نزولاً عند رغبة والد زوجها- لتخيط العباءات السوداء لنساء القرية، وهي العباءات ذاتها التي ستراها بعد حين تُرمى في الهواء قبل أن تُداس بعد هزيمة تنظيم الدولة، فلا تدري أتفرح أم تحزن، وقد كان كل ذلك القماش أمل نجاتها في يوم، لكنه الآن يُمرّغ في التراب. كم يُشبه هذا بقية أشيائها!
تظهر “آسيا”، الشخصية الأكثر حدة ومعرفة بما تريد، لترافق البطلة في رحلة النجاة من المعارك، لكنّ تلك الصفات لم تكن إلا القشرة التي تستر الضعف نفسه، في حيلة مكشوفة لمواجهة الحياة القاسية بملامح تُشبهها. ومع هذا فقد أعان وجود آسيا على تسلل الانتباه إلى نسرين؛ الانتباه إلى ما تملكه أكثر مما تفتقده؛ لذا وفي مرة نادرة، وبينما يدور حوار بينهما، تجد نفسها تقترب أكثر من مرادها بالوضوح اللازم:
– “أنت تُحبّينه؟
– لا، لا أدري.
– خائفة؟ سألتني وسحبتْ أصابعها.
– أريد أن أستعيد نفسي، أن أختبر شعوري نحوه في ظرف غير هذا الظرف، أريد أن أعرف إذا كنتُ أحبه، أو أنني باختصار أكرر الخطأ ذاته مع رجل آخر أحتاج إليه وأدله على مفاتيح زنزانتي”.
تنتهي الرحلة في المنتصف، بأن يَعلق الجميع في منطقة بقدر ما هي خارج دائرة الموت، لم يُكتب لها أبدًا أن تلج دائرة الحياة. ينزح أهالي القرية إلى سهل في انتظار عبور، لا يتحقّق، إلى مكان أكثر أمنًا. هناك يتجدّد الانتظار، وهو الفعل الوحيد الممكن حين لا يملك الناس ناصية أمورهم. تتحرك الأشياء من حولهم، ولا يملكون إلا مراقبتها؛ آملين ألا يتورّطوا يومًا في مجرياتها. يخافون المطر، والرياح، وأصوات الرصاص، والظلمة الحالكة. إذن، ها هي الآمال تتضاءل لتصبح الفرجة الآمنة هي السقف والمبتغى. وكأنّ الرواية هنا تُخبر عن حال الناجين من الموت، لكن من دون أن تُكتب لهم الحياة.
في السهل يتكثّف الوصف، فتسفر مهارة المغيرة عن نفسها بوضوح أكبر، وهو وإن استبعد بملء إرادته أن يلجأ للشعرية، فقد وظف الصورة باقتدار، وأتاح للقارئ قدرًا مهمًّا من الاقتراب، حيث التفاصيل هي رأس مال المشهد السردي. كما نجا النص من ورطة استخدام الصوت الأول “ضمير المتكلم”، حيث تم تبرير ورود كل الحكايات التي لم تكن البطلة جزءًا منها. ومع هذا فربما كان من الأفضل الابتعاد عن هذا الرهق السردي، في ظل تعدد الشخصيات والأحداث العابرة للأزمنة، عبر اللجوء إلى ضمير أكثر اتساعًا وإمكانية.
بقي أنّ إصرار نسرين على التحدث بالفصحى في حواراتها مع آسيا بدا لي غير متسق تمامًا مع بيئة النص، حتى مع تبرير الكاتب أن الشابة دارسة ومنشغلة بالأدب، وللسبب نفسه ربما بدتْ لي آسيا أكثر صدقًا وطبيعية.
جاءت النهاية المفتوحة ملائمة لهذا النوع من الكتابة خفيضة الصوت، العابرة بروية، وغير المباهية بمفاتنها مع كل ما تملكه. يبدو ملفتًا حقًا أن يأتي كل هذا التجرّد في ظل تجربة إبداعية تعود لشاعر!
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”