تقول الناقدة الأدبية اللبنانية هدى فخر الدين إن الشعر لا يأمن للحدود ولا يسكن إليها. ولذلك نجد أن أعظم الشعر هو الذي كتب خارج القوالب المتفق عليها، وهو الذي ابتدع أشكالا جديدة ولم يلتزم بالقواعد والتعاريف النظرية، بل حفز النقد والنظرية على اللحاق به.
تعد الأكاديمية والناقدة والمترجمة هدى فخر الدين من التجارب اللبنانية الثرية في الوسط الثقافي اللبناني والعالمي، لما جمعته من بحث واستكشاف حول الأدب والنقد الشعري منذ العصر العباسي حتى العصر الحديث.
أستاذة الأدب والنقد العربيين في جامعة بنسلفانيا، تشدد على أهمية القراءة وعدم الاستخفاف بها لأنها المعيار الأساسي لحضور الشعراء والنقاد الحقيقيين. وقد تناولت هدى فخر الدين قضية قصيدة النثر، وجاءت دراستها عبارة عن قراءات في مختارات شعرية تضيء لنا جوانب عدة حول هذه القصيدة.
نالت فخر الدين الدكتوراه في الأدب العربي والأدب المقارن من جامعة إنديانا بلومنغتون والماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت، ولها عدة إصدارات منها كتاب نقدي بعنوان “الميتاشعرية في التراث العربي: من الحداثيين إلى المحدثين”، وقد ترجمته حديثا إلى العربية المترجمة آية علي، وتتناول فخر الدين فيه تجربة التجديد وأسئلة الشعر ولغته، انطلاقا من العصر العباسي وصولا إلى عصر الحداثة، وكان للجزيرة نت هذا الحوار معها:
يعد العصر العباسي من العصور التي نتجت عنها ثورة في الأدب بمظاهره كافة. كيف تجسدت مظاهر هذا التجديد وما كانت تأثيراتها المستمرة على صعيد التلقي؟
أحدث الشعراء العباسيون ثورة حقيقية في القصيدة العربية. لم يتخلوا عن الشكل الشعري الموروث وإن كان بعضهم ضاق به أو تذمر منه، كما هو حال أبي نواس. وعبر الشعراء العباسيون عن مواقفهم النقدية من تراثهم الشعري في قصائدهم وبذلك أجبروا القصيدة العربية على التفكر في نفسها أكثر من أي وقت سبق. وهكذا صارت القصيدة العربية على أيدي شعراء كبشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام مشروعا مفتوحا على الاحتمالات. وقد نجح هؤلاء في فتح أفق اللغة الشعرية العربية على المستوى البلاغي إلى حد لم يفعله أحد من قبلهم وربما من بعدهم في الشعر العربي.
أما على صعيد التلقي، فتكمن ثورة العباسيين في أنهم كشفوا قدرة اللغة والقول الشعري على تغيير العالم. وكانت القصيدة العباسية صدمة أفزعت المؤسسات الدينية والسياسية والنقدية في ذلك العصر، ولذلك صُوّر مشروع الشعراء المحدثين على أنه بدعة أو فتنة بالمعنى السلبي، وسارع النقاد المحافظون إلى مهاجمة حركة التجديد هذه، وسعوا إلى التصدي لها على أنها مفسدة وخطرة أو حاولوا احتواءها والتقليل من أهميتها باعتبارها مبالغة أو مغالاة. وطبعا، لم تفلح هذه الجهود وكانت نتيجتها نشوء نقد عربي ابتعد تدريجيا عن المعيارية والأحكام المسبقة حتى وصل إلى لحظة نضوج نقدية في كتابات عبد القاهر الجرجاني الذي قدم نظرية في الشعرية ما زلنا نهتدي بها ونحن ندرس سر اللغة في الشعر أو النثر.
كيف تصفين تجربتك في التطرق والتعمق في كتابك حول الميتاشعرية (القصيدة في القصيدة، أو الكلام على الشعر ضمن إطار العمل الشعري نفسه)، وأين تكمن الصعوبة في الحوار بين الحداثيين والمحدثين؟
الميتاشعرية هي استجابة الشاعر الخلاقة لتراثه الشعري. إنها حالة يكون فيها الشاعر مدركا مشاركته في مشروع التغيير الشعري، لكنه يتطلع باستمرار إلى الوراء ليرى ما فعله أسلافه، لا لمحاكاتهم أو لمعارضتهم بالضرورة، بل لتبيان المراجع التي يصبح تمرده أكثر وضوحا في ضوئها. دراستي للميتاشعرية في التراث العربي لا تسقط على الشعر العربي مفهوما طارئا عليه؛ بل تنطلق من المصطلح الأجنبي (اليوناني الأصل) لتثبت وجود هذه النزعة الأصيلة في الشعر العربي منذ بداياته المعروفة لدينا (أي الشعر الجاهلي) وبشكل خاص وأكثر حدة في العصر العباسي. الميتاشعرية أو الشعر على الشعر كما يسميه الجرجاني، تعبير عن اهتمام الشعراء المجددين بتراثهم وإصرارهم على الانطلاق منه في سعيهم نحو لغة شعرية جديدة.
المقاربة التاريخية لتراثنا الشعري -وهي مقاربة ورثناها عن المستعمر الغربي- هي نظرة تجعل من الحداثة الغربية مثالا وهدفا؛ على ثقافات العالم الأخرى أن تطمح إليه وتسعى إلى التمثل به. وهنا تكمن الصعوبة. علينا أن نفشي (نعلن عن) أنفسنا ونعالجها من هذه المقاربة المتأصلة في مناهجنا التعليمية وفي تخيلنا لأنفسنا ولتراثنا الأدبي.
إن هذه المقاربة التاريخية للموروث الشعري العربي، غالبا ما تحيل الشعر العباسي إلى مجرد فئة كلاسيكية، أي إلى لحظة بالية على الشعراء العرب المعاصرين أن يتجاوزوها في سعيهم إلى الالتحاق بركب الأدب العالمي أو الأدب المعاصر أو غيرها من التسمية الإشكالية.
الحوار بين الحداثيين والمحدثين في التراث العربي حوار قائم بطبيعة الحال. لا مشروع في الشعر من دون الحوار مع الماضي. وهذا يصح في كل اللغات وكل الثقافات. كل شيء يفقد ذاكرته إلا اللغة، كما يقول جورج شتاينر. والشعر هو اللغة وهي تتذكر نفسها وتتخيلها في آن. ولذلك أرى أن المقاربة التاريخية للشعر مقاربة قاصرة؛ فالزمن في الشعر غير الزمن خارجه. ماضي الشعر حاضر دوما ولا سبيل إلى التجديد الشعري من دون الاشتباك الخلاق مع التراث.
لطالما كانت هناك عدة روافد أدت إلى تشكل النقد وبناء تصورات حوله وتوسيع آفاقه، أين نحن من النقد اليوم؟
النقد الأدبي يبنى على القراءة. القراءة، وبخاصة قراءة الشعر، اشتغال فكري لا يقل أهمية عن الكتابة. قارئ الشعر الحقيقي يحتاج إلى ثقافة ومراس ينتجان موقفا وذائقة ورؤية. الناقد هو القارئ الذي تشكلت لديه رؤية إلى اللغة وذاكرتها الأدبية تمكنه من قراءة كل نص جديد في ضوء نصوص أخرى وتؤهله لقراءة النص على حدة كما تؤهله لقراءته في سياقات مختلفة تضيء جوانبه المتعددة، الشكلية والبلاغية واللغوية والفكرية والفلسفية والتاريخية وما إلى ذلك. رصيد الناقد قراءاته، فهي الشبكة التي يضع فيها النص ليتذوقه، وهي الروافد التي تمكنه من إقامة علاقة بين النص الأدبي والعالم.
أين نحن اليوم؟ لا أعتقد أننا نولي القراءة ما تستحقه من اهتمام. استخفافنا بالقراءة كاشتغال فكري يحتاج إلى ثقافة يوازي استخفافنا بالكتابة. لذلك يكثر لدينا الشعراء والنقاد ويندر الشعر والنقد.
نلاحظ هيمنة الرؤية الانطباعية إلى عالم النص وغياب الرؤية الموضوعية العلمية. إلى أي مدى يمكن للناقد التوفيق بين الاثنتين؟
للانطباعية أهمية كبيرة في تذوق الأدب والفن بشكل عام. ومن الأفضل أن تكون لحظة التفاعل الأولى مع النص انطباعية. ولكن الانطباع وحده ليس نقدا. لا بد للانطباع أن يؤدي إلى قراءة نقدية تقوم على الثقافة والعلم، فتستهدي بالمعايير وتستأنس بها، ولكن من دون أن تكون محكومة بها. إن النقد الحقيقي قراءة خلاقة قادرة على تعديل المعايير أو تقديم معايير جديدة. فالرؤية الموضوعية هي انطباع تسدده الثقافة ويصوبه الإخلاص لمقاربة أدبية أو شعرية لا تعكرها دوافع طارئة على الأدب كالمواقف السياسية أو العلاقات الشخصية مثلا.
وهكذا تنشأ النظرية الأدبية، من قراءة نابعة عن ثقافة ورؤية كما ذكرت سابقا. أما القراءة التي تنطلق من المعايير وتسعى إلى إسقاطها على النص فقراءة قاصرة وعقيمة.
تعتبرين في كتابك الصادر حديثا “الميتاشعرية” أن ثمة إهمال أو عدم اهتمام من العرب باللغة والأدب وحتى عدم توجيه الطلاب نحو الدراسات الأدبية والإنسانية إلا نادرا، ما يدفعهم إلى التخصص في الخارج. كيف يمكن جذب الطالب العربي نحو اللغة والأدب وسط سرعة التطور التي اجتاحت عصرنا وغيرت مسار اهتمام الشباب؟
في تجربتي الشخصية، دفعتني خيبتي من الأنظمة والمؤسسات التعليمية العربية إلى السفر لمتابعة دراستي في الأدب. وكنت قبلها قد حصلت على ماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت، ودرست الأدب الإنجليزي واللغة في الجامعة اللبنانية والجامعة اللبنانية الأميركية مدة سنة. حاولت جاهدة متابعة دراستي للأدب العربي في لبنان، ولكنها كانت تجربة محبطة جدا. لم تكن الجامعة الأميركية في بيروت وقت ذاك قد أعادت إحياء برنامج الدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها، فكان خياري الوحيد هو الجامعة اللبنانية حيث كنت أدرس كمتعاقدة. تجربة تقديم طلب الالتحاق وحدها كانت رحلة سريالية في دهاليز البيروقراطية والفساد، وكأنها مستلة من كتابات كافكا. لن أدخل في تفاصيلها هنا ولكنها دفعتني يأسا إلى الدراسة في أميركا.
مع أن السفر إلى أميركا لم يكن خياري الأول، إلا أنني كنت محظوظة بالعمل مع أساتذة أمينين ومخلصين للأدب العربي والشعر من أمثال سوزان وياروسلاف ستيتكيفيتش. ولكني بشكل عام لا آمن كثيرا إلى الاهتمام الذي يلقاه الأدب العربي في الجامعات الأجنبية ولا أعول عليه. فهو وإن أتاح الفرص للطالب العربي المغترب المجتهد وقدم المصادر والمراجع، إلا أنه لا يعوض عن تقصيرنا في العالم العربي.
ليس لدي خطة لجذب الطالب العربي نحو الأدب واللغة، ولكني متأكدة من أن الخطوة الأولى هي تربية علاقة مع اللغة منذ الصغر، علاقة حب وتقدير إذا لم أقل تربية شعور بالفخر بهذه اللغة وتراثها الغني. وهذا شيء مفقود لدينا. إذ نتوهم أن التعليم والثقافة لا يتمان إلا في اللغات الأجنبية، فننشئ أجيالا مغتربة عن نفسها في بلادنا العربية. وكأن اللغة العربية غير صالحة للحياة. أعود هنا إلى ما ذكرته سابقا عن المقاربات إلى لغتنا وثقافتنا التي ورثناها عن المستعمر الغربي. ما زالت مظاهر الاستعمار الثقافي واضحة في مؤسساتنا ومناهجنا التعليمية.
آمل أن نشهد قريبا حركة ثقافية متوازنة تعي موقعنا في العالم اليوم وإمكانية العلاقة مع الآخر من دون الانسحاق والتخلي عن لغتنا وتراثنا. فهما رصيدنا الذي يخولنا المشاركة في الثقافة العالمية مشاركة حقيقية، وإلا نظل مقلدين ومستهكلين ومتلقيين سلبيين.
تعد قصيدة النثر من التحولات في الشعر العربي. كيف تنظرين إلى إشكالية هذه القصيدة وتصنيفها؟
كتابي “قصيدة النثر بين الممارسة والتنظير” استكمال للمشروع الذي بدأته في كتاب الميتاشعرية في التراث العربي. فأنا مهتمة بحركات التجديد في الشعر.
الشعر لا يأمن إلى الحدود ولا يسكن إليها. ولذلك نجد أن أعظم الشعر هو الذي كتب خارج القوالب المتفق عليها، وهو الذي ابتدع أشكالا جديدة ولم يلتزم بالقواعد والتعاريف النظرية، بل حفز النقد والنظرية على اللحاق به.
في حالة الشعر العربي تحديدا، نشأت قصيدة النثر بتأثيرات غربية كما تؤكد لنا الدراسات، ولكن المحفز الأهم لها هو ما سبقها من شعر عربي. فقد ظل الوزن شرطا من شروط الشعر العربي وإن كان قد خلخل وأخضع إلى تجريب وتخريب. فقصيدة التفعيلة التي ظلت مقيدة بشروط (أي نظام التفعيلة)، كانت حدا لا بد من تجاوزه. وكان لا بد لها أن تستفز مشروعا أكثر خلخلة وتوسيعا كقصيدة النثر العربية.
وهكذا كانت قصيدة النثر القصيدة العربية الأولى التي تفترض إمكانية البناء الشعري خارج الوزن. لم يكتف مشروع قصيدة النثر بالادعاء بإمكانية الشعر خارج الوزن، فهذا طرح قديم ولدينا أمثلة كثيرة عليه في التراث. طرح قصيدة النثر هو إصرار على إمكانية البناء الشعري في النثر. هذا طرح مغر نظريا، ولكنه يصيب ويخطئ في الممارسة.
ويتناول كتابي قصيدة النثر العربية كممارسة شعرية ذات منطلقات نظرية محركة تهدف إلى مسائلة تخريبية توسيعية لحدود الشعر في اللغة العربية. لم أقصد فيه تقديم مسح شامل ولا صورة كاملة، بل سلسلة قراءات في مختارات شعرية تضيء لنا جوانب من هذه القضية النقدية. لم أكن مهتمة بتقديم مسح لقصيدة النثر العربية أو فهرس بالشعراء والشاعرات يراعي المناطق والجنس والتوازنات والاعتبارات الأخرى التي ليس لها مسوغ فني أو نقدي.