ماركيز.. يعتزل! لو صحَّ خبر توقف ماركيز عن الكتابة، يكون آخر كتابين صدرا له في الاسواق، وفي وقت متزامن، هما “ذكريات غانياتي الحزينات” (رواية)، و”عشت لأروي” (سيرة)، وهما، بحق، مسك الختام الذي يأمله أي كاتب متطلبٍ لنفسه.ولا أظن أن أي كاتب، مهما كان ذا منجز عظيم، يتمني لنفسه ختاما أفضل من هذا.في روايته “ذكريات غانياتي الحزينات” يقدم لنا ماركيز السبعيني أكثر رواياته سهولة ومباشرة، حتي نكاد أن نستغرب توقيع أبرز روائيي الواقعية السحرية عليها. فهنا، لا أثر لـ عقد الأسلوب، وإلحاح التقنيات اللذين يلاحقان، عادة، الكتاب في مستهل مسيرتهم الإبداعية. فبعد أن صار ما صار، لم يعد يهم ماركيز أن يثبت شيئا. فقد أثبت، بجدارة، ما كان يريد إثباته. فاذا كان هم الكاتب التجديد في شكل الكتابة وأسلوبها، فهو سجل هذا التجديد في مدونة الرواية العالمية، حتي تحول تجديده تياراً له أتباع ومناصرون، أما إذا كان هم الكاتب ترك أعمال روائية تتناول زمنا عريضا وشخصيات متعددة ومتشابكة المصائر، فماركيز حقق ذلك في أكثر من رواية،ولمن يهتمون بالشأن العام وصراعات اللحظة المحتدمة فبإمكانهم أن يضعوا علي لائحة أعمالهم المفضلة أكثر من كتاب ملتزم من توقيع ماركيز.
وأخيرا.. إذا كان الحب يمثل تحديا كتابيا وتوقا داخليا سريا يستبد بالروائيين فيقدمون عليه، وأيديهم علي قلوبهم، فان ماركيز ترك أثرا روائيا لا ينسي في هذا الموضوع.طبعا، هناك روائيون يرغبون في التخفف من عبء الشخوص ومصائرهم، فيلجؤون إلى أنواع كتابية أخري.. كالصحافة.. مثلا.. وهذا أيضا، فعله ماركيز.فأي جنس سردي ونثري لم يجربه ويبدع فيه هذا الكاتب الكولومبي العظيم؟ لا يوجد.فهو كاتب قصة قصيرة من الطراز الأول. وروائي لا يشق له غبار. وكاتب زاوية صحافية من طراز رفيع.مدبج ريبورتاجات أدبية جمعت الوقائع اليومية بأفضل أشكال السرد الروائي. كاتب سيرة ستظل درسا في هذا الباب. الشيء الوحيد الذي لم يفعله، علنا، أو يقدم علي نشره، هو الشعر. يندر أن تجد حوارا مع ماركيز لا يتحدث فيه عن تأثير الشعر في تكوينه الأدبي، ولكنه، للغرابة، لم يكتب الشعر. قد يكون جمع الشعر (بمعناه الاصطلاحي) بالسرد كجمع ما لا يجتمع عند الأدباء العرب، لكن ذلك، يكاد، أن يكون ممارسة معتادة عند الأدباء الأجانب (الغربيين خاصة) والأمثلة أكثر من أن تحصي. وفي أمريكا اللاتينية جمع عدد من الروائيين، بنجاح، بين الرواية والشعر، أو بين القصة والشعر، وبين هؤلاء أصدقاء لماركيز.. لكن الأخير لم يفعل.ومن يقرأ سيرته عشت لأروي، سيجد ذكرا متكررا للشعر.. الشعر وهو يحفظ عن ظهر قلب، الشعر وهو يتقدم كعتبة لدخول العالم الأدبي.
وأخيرا الشعر كمعترك للتغيير في الأشكال والواقع. كل هذا الشعر في حياة ماركيز.. لم يتحول إلى كتابة.. ويخطر لي، من خلال إشاراته المتكررة للشعر في “عشت لأروي” أن الوجل الذي يصل حد القداسة، هو الذي حال بينه وبين كتابته. لكن هذا ليس مهما. فالشعر مبثوث، ومتخلَّل، في لغته وصوره وأخيلته، ولا أظنه كان سيكتب شعرا أجمل من هذا لو أضاف القصيدة إلى قائمة إبداعاته الطويلة. “ذكريات غانياتي الحزينات” ليست مجرد رواية أخيرة لماركيز، ولا رواية أخري تضاف إلى أعماله، وإنما هي رواية نادرة في مقاصدها. فلم أسمع من قبل أن روائيا حيّا روائيا آخر بكتابة رواية علي وقع رواية له. قد يحصل هذا في القصيدة، ولكن، علي الأغلب، ليس في الرواية.
شاع في النقد العربي الحديث مصطلح نص علي نص.. أي ذلك النص القارئ الذي يغويه النص المقروء، فينتهي إلى الوقوع في غرامه أو، في الأقل، مجاراته في نص آخر يتمثله. ماركيز يقدم لنا، هنا، أمثولة أخري في الوقوع بغرام عمل آخر، وينتج عن ذلك الغرام ما يمكن أن نسميه مجازا رواية علي رواية. من قرأ رواية “ذكريات غانياتي الحزينات” يعرف أن ماركيز أضمر، طويلا، رواية الياباني العظيم “كاواباتا الجميلات النائمات” كأمنية، أو كحسرة، في نفسه. طبعا.
رواية ماركيز ليست مجرد صورة في المرآة لرواية كاواباتا.. كما أنها أكثر من تحية لروائي أحبه.. فبمقدوره أن يفعل ذلك في مقال (فعل ذلك فعلا في مقدمة الترجمة الأسبانية لـ الجميلات النائمات )، وإنما هي عمل يحاول أن يصل بأطروحة التعلق بجمال الفتوة ونضارتها إلى أقصي حد ممكن، وأن يختبر وقع هذا الفاتن المتعب الذي يسمي الحبَّ عند النقطة التي ينهي فيها الجسد والروح دورتهما المضنية ويتأهبان للرحيل.. عند هذه النقطة يقفز الرسم البياني لقلب العجوز التسعيني من مستواه الأفقي، في خطوط طالعة ونازلة، تنم عن شيء آخر غير استعادة الجسد المنهك وظائفه الحيوية مرة أخري.قفزة الخطوة البيانية علي الشاشة الإلكترونية الافتراضية تأتي من ذلك الشعور المستبد والمجهول الذي لم يتوقع أن يعرفه في غسقه الكبير.
في السبعينات من عمره عكف ماركيز علي رواية سيرته كأنه يكتب رواية أخري. يصعب أن تفرق بين أعمال ماركيز الروائية (المتخيلة) وبين سيرته (الواقعية)، فالمتخيل والواقعي يشكلان، هنا، وشيجة، يستحيل فك أسلاكها المكهربة بعضها عن بعض.الرغبة في القص والحكي مستبدة؛ تلحظ ذلك في أول صفحة من الكتاب.والعودة إلى نقطة الصفر لا تتم من نقطة الصفر، بل من نقطة ما علي الطريق الذي سار عليه الكتاب، ما تبقي له من العمر: نقطة الكتابة.عودته، مع أمه، إلى أراكاتاكا لبيع بيت العائلة، تبعث ذكريات الماضي المسحور كله.. فنعرف أن هذا البيت والكائنات التي سكنته ردحا من الزمن كان مسرحا لأكثر من عمل روائي، لاحق، للكاتب.. معظم الشخصيات الواقعية، أو المتخيلة،. الأحداث التي وقعت فعلا في ذلك البيت المتداعي، أو تلك التي كان مسرحها المخيلة فقط، سيضمها عمله الخالد مئة عام من العزلة .استعادة الحياة الأولي، أو اختراعها، تتم انطلاقا من تلك العودة لتصفية آثار الماضي.. حينها كان ماركيز قد كتب روايته الأولي.. ثم لتصبح تلك العودة جنبا إلى جنب مع الأم، مدخل روايته الثانية.
ما هو مدهش في عشت لأروي ليست تلك الذاكرة الحديدية التي تستعيد، بعد سبعين سنة، أدق تفاصيل الطفولة والشباب، ولكن العصب المشدود الذي يتخلل الكتابة، ويرفعها إلى مستوي من التوتر الدرامي العالي. ليس ذلك عصب الشيخ الهرم الذي وصل إلى منتصف السبعينات من العمر، ولكن الشاب نفسه الذي كان يندفع بشعر مشعث وسروال من الجينز وقميص مشجر وصندل جلدي مهترئ في شوارع بارانكيا، متمتما بأسماء شخصيات وأمكنة، متخيلا أحداثا كبري، ستنتقل من فضاء كاريبي محلي، شبه مغلق، إلى مدار كوني. شاب في مستهل العمر، بعصب متوتر، وباحتشاد داخلي متفجر وبنظرات تلتهم وتهضم كل ما تراه، هو الذي وضع سيرة تقع في نحو سبعمئة صفحة.. علي نفس واحد..