لا أحد يمكن أن يحيد عن أهمية اللغة في الكتابة الأدبية وغير الأدبية، ولا يمكن أن نجعل الأمر بهذه الصيغة من السؤال، الذي قد يبدو اعتباطيا، لأن لا استنفار مقابلها، ولا مجادلة ولا حتى مقارنة في أن اللغة هي الأس الذي يحتوي النطق، الذي يتحرّك في مجال الفهم والتصوير، وهي المجال الذي يتيح للناطق فيها التعبير عن مكنوناتٍ داخليةٍ موجّهة إلى الآخر الخارج أو العكس.
واللغة لا تعني الاهتمام بقواعدها ونحوها وإملائها، وهو الأمر المهم والمطلوب والأساس والركيزة، بل هي كل فواعل التصوير التي يحتاجها النص الأدبي. ولذا فإن أهمية اللغة، تأتي من أن كلّ ما نريد إيصاله يعتمد عليها، وكلّ ما نحتاج إلى توصيفه بحاجةٍ إلى فعلها الأخّاذ، وما يمكن أن يعكس الصورة المثلى لأهمية اللغة، التي هي المقام الأعلى الذي يشار له، حتى للذي لا يستطيع الكلام، لكنه يستطيع التعبير عن مشاعره من خلال اللغة المكتوبة، كونها ميزان الرؤية الصالحة لمرايا الكون الكلية. ولهذا فإن اللغة ليست حيّزا مكانيا مختصرا، بل هي التي ترسم (أحْياز) ما يتّصل بالإنتاج النصّي، من مكانٍ وزمانٍ وأحداثٍ وصراعٍ يقوم بها أشخاصٌ، أو ما يمكن أن تنتجه المخيّلة الكتابية لخالق ومنتج النص.
إن الصراع، أو لنقل الحديث الذي يجري عن أهمية اللغة من جهةٍ، والإطناب في الوصف من جهةٍ أخرى، والإيغال باللغة وإشباعها شعرية من جهةٍ ثالثة، يأتي لأسباب عديدةٍ، لا تخرج من أن كلّ من يدلو بحديثه عن اللغة في هذه الجهة، أو تلك، يأتي من خلال ما لديه من اكتناز في اللغة، أو شحّتها. وتأتي أيضا لأن الباحثين والنقّاد كما يقول عبدالملك مرتاض في كتابه «نظرية الرواية» ما معناه، أنهم لم يعطوا اللغةَ الروائية حقّها من البحث والدرس، وأنهم كانوا يقسمون اللغة الروائية إلى شكلين اثنين هما: لغة السرد ولغة الحوار، فيبسطون الفكرة ويُسطحونها بالقول، إن لغة السرد يجب أن تكون فصيحة، بينما يجب أن تكون لغة الحوار باللهجة العامية، بل إنهم ذهبوا أبعد من ذلك، فكما أنه لا يجوز كتابة السرد بالعامية، فإنه لا يجوز كتابة الحوار بالفصحى.
إن اللغة في النصّ الأدبي تختلف عن اللغة في النصوص الأخرى، ونعني بها النص الشعري والسردي بشكلٍ عام، وحتى النصّ المسرحي الشعري، وإلى حدّ ما نصّ أدب الرحلات. لكن الأكثر وقوعا في مصيدة النقد، هو النص السردي، خاصة الروائي وكأن الرواية هي مجرّد نقل أحداثٍ بطريقة الروي الحكائي. حتى الباحثين والنقّاد الذي اهتموا باللغة عدّوها وسيلة لنقل الأحداث والمشاعر، وإن تقدّمت بعض الآراء، لكنها لا تخرج عن كونها التعبير الأداتي عن الواقعة بطريقة نثرية/ سردية، باعتبار أن النصّ الشعري لباسه الشعرية في اللغة، وليس المباشرة في التدوين، كما هو في النصّ السردي، وقد ذهب البعض إلى عدّ اللغة رافعة نسب الجمالية في النص، بل يعتمدون كلّ الاعتماد مثلا على ما جاء في «لسان العرب» لابن منظور في باب مادة سَرَدَ (السرد لغة هو: تقدمة شيء إلى شيء تأتي بهِ متسقا بعضُهُ في أثر بعض متتابعا) رغم أن يادكار لطيف الشهرزوري في كتابه «جماليات التلقي» أكد أن السرد هو الكيفية التي تُروى بها القصة عن طريق قناة مكونة من التقاء ثلاثة روافد هي: السارد والقصة والمسرود له، وتتأثر هذه القناة بمؤثرات تتعلق بالسارد والمسرود له والقصة ذاتها.
يعتمد فهم النصّ على اللغة التي يطرحها المنتج، لتكون سواده الأعظم.. واللغة تعتمد على المفردة التي تصاغ وفق رؤيةٍ خاصةٍ، بهدف إعلانٍ كاملٍ لماهية النصّ المنتج، سواء ما كان أدبا أو نصّا آخر يتم وضعه بين غلافين. وبعيدا عن فلسفة دي سوسير في اللغة، فإن ما نتحدّث عنه، يختلف عن تلك المفاهيم التي وضعها، لأننا نناقش هنا (الرأي) الذي يطرحه البعض، سواء من خلال المقالات النقدية، أو الحوارات التي تجري معهم، أو كتابات خاصة على صفحات فيسبوك، التي تشير هذه الآراء إلى أن لغة السرد ينبغي أن تتلاءم مع الحدث والشخصيات، بل عد البعض أن المبالغة في المفردات والتعابير واستعراض العضلات اللغوية فوق ما يحتمل السياق، أشبه باستخدام سكاكين وأشواكٍ متنوّعة لتناول الحساء. اللغة شطر من السرد، لا بديل عنه. وهو توصيف لغوي جميل استخدم (إطناب) اللغة للترويج لفكرةٍ مضادّةٍ لاستخدام اللغة بطريقة غير إخبارية. وهو رأي يحمل صحّته، لو أن اللغة غطّت الأحداث ولم تصورها، وغرقت في الشاعرية، ولم تقترب من الروح السردية.
إن أجمل الروايات تلك التي تعطي مفعول اللغة صورتها الذهنية، لأن الذي لا يجيد استخدام اللغة لتحويلها إلى صورةٍ ذهنية مخيالية، فإن هذا يعني ضعفا في المخيلة. فالرواية لم تعد إخبارية لشرح المعاني وتنسيق الأحداث، وأن أجمل روايات ماركيز مثلا هي تلك التي تعطينا مفعول اللغة العالية لصنع الدهشة، وبالتالي فإن استخدام اللغة ومعرفة فنونها وأهميتها وطرق تدوينها وأيضا جزالتها تعد مقدرة سردية أيضا. إن الأهمية التي تعطيها اللغة غير الإخبارية، كما كانت في عمليات التدوين السردية السابقة تأتي، لأن الفكرة أصبحت هي المهيمنة، وليس سرد الأحداث وقيادتها لبثّ مجموعة من صراعات مختلفة، التي تعني عملية شرح الواقع أكثر من الغوص فيه لإنتاج الفكرة. ولهذا فإن ما قاله إبراهيم صحراوي في كتابه «السرد العربي القديم – الوظائف والبنيات» وهو يشرح التعريف اللغوي باعتباره يركز ضمنا على كيفية بناء المسرود، أكثر مما يركّز على مادته، أي أن الفهم هنا هو المبنى السردي، بشروطه وأدواته، أكثر مما هو المادة التي يتناولها. وهنا بعد التطوّر الحاصل في إنتاج الرواية، فإن اللغة تركّز على أهمية توصيف الصورة، التي تجعل المتلقّي يرى ما يحصل فكريا وعقليا، مع القليل من العاطفة، التي كانت تحتاجها الرواية الحكائية.
إن هذا الرأي قد يجعل الأمر صحيحا في وجوه مرايا التلقّي، ومنه التلقّي النقدي، لكنه يضع المشرط في تبويب اللغة، التي يشير لها البعض إلى أنها يجب ألا تكون ملائمة للحدث، وهو أمر صحيح، لكن يراد منه أن تسمع الجارة إن صح التعبير، وهو أن اللغة يجب أن لا ترتقي بالنص السردي، الذي يعتمد على الحكاية، وأن تكون تابعة له، وكأن المنتج هو آلةٌ توضع في محرّكاتها وأسنان آلاتها كمية من الحكايا بشخوصها وزمانها ومكانها، لتدور بعدها الآلة، وعلى الجميع انتظار ما ستسفر عنه (العلبة) النهائية التي هي القراءة الكلّية للنص. ولهذا فإن اللغة لم تعد (مقود حركة) أو أن توضع كمية المفردات على شريط توصيل الكلمات إلى المصنع، بل هي التي تسحب كلّ شيء إلى مكان العمل، وتحدّد أين يمكن التوصيف، وأين يكمن الحوار، وأين يكون الصراع، وكيف يكون التصوير، الذي ينشده المتلقّي، وحتى القارئ البسيط، الذي يحتاج إلى كميةٍ من اللغة الإدهاشية، التي تجعله يندمج مع الصورة الكلّية للعمل السردي، ما يعني الحاجة الفعلية إلى أن يكون المنتج السارد الخالق الروائي، مالكا للمفردات الشعرية، لا متحرّكا مع اللغة الإخبارية، التي لم يزل الكثير من الروايات التي تعتمد عليها في توصيف الحال، لهذه الشخصية أو تلك. ونعطي مثالا على اللغة الإخبارية، كي نقرّب الصورة. (خرج الرجل من بيته. كانت الشمس مرتفعة، وهو يروم الذهاب إلى السوق ليشتري كعكة عيد ميلاد إلى زوجته. كان يمنّي النفس بالحصول على هذه الكعكة بسعرٍ منخفضٍ لعمله لها مفاجأة، للتعبير عن حبّه، لكن كلّما تقدّم إلى السوق، يعلم أن جيبه فيه القليل من النقود والكثير من الغبار).
والكتابة باللغة التي يطلقون عليها (الشعرية) وفيها إطناب، لكنها تقرّب الصورة إلى المتلقّي بشكل آخر يغرقها بالشعرية كما توصف:
(كان الرجل قد خرج من بيته يسحل خطواته سحلا. يعيقه الكثير من المطبّات وهو يخطو نحو السوق، الذي بدا بعيدا جدا، وفي رأسه ألف فكرةٍ، تجعله عاجزا عن تحقيق المفاجأة لزوجته التي لا تعلم لماذا خرج زوجها في هذه الظهيرة القائظة، تاركا صمته معلقا خلف الباب. كان مع كلّ خطوةٍ تهب عليه ريحٌ ترمي أمامه حصى التفكير، وتعلن جفاف الحيلة والحل. فكلّ شيء يعود إلى الخسران، معاندا عجزه عن تحقيق أمنيةٍ واحدةٍ أن يجد (كيكة عيد الميلاد) بسعر لا يزيد عمّا يحمله في جيبه الذي يشكو الغبار، في الكثير من أيام عمره).
إن الحال واحدٌ في الاثنين، لكن الثانية تمنح الفكرة قوام حضورها، وتمنح اللغة قوام تصويرها، وتمنح التأويل قوام التفكير بشكلٍ أكثر تفاعلٍ من الأولى، فالأولى كانت إخبارية، تحمل عاطفة وسهولة في التلقّي، لكنها خالية من رسم مشهدية (سينمائية) أو لقطةٍ مخياليةٍ، لها أبعاد الصورة والبعد السيكولوجي، وفيها جزء من فكرة عامة تناقشها الرواية. فيما في الثانية ثمة تفاعلٌ مع اللغة، وربما حتى سماع نبض السارد، أو صوت الشخصية المعنية.
إن اللغة تدوين الكلام الذي يصدر من مخيلة الكاتب، لتتحوّل كلّ الأشياء بعد النصّ إلى فعّاليةٍ كتابيةٍ تدوينيةٍ، يمكن أن تتوحّد عندها النقاط وتنطلق منها المفاهيم الخاصة بعملية التلقّي لأصل التلقّي المنطلق من الاطلاع على نصّ محدّد.. لأنه قد يكون مفهوم نصٍّ ما يختلف عن مفهوم نصٍّ آخر.. ولذلك فإن اتّباع المفاهيم يكون حسب النصّ وما تم إسقاطه من وعيٍ وما تم ترتيبه من سبكٍ وتماسكٍ وتنظيمٍ ولغةٍ وإشارات، لأن المتلقّين تتباين معارفهم ومشاربهم.