لم يفتتح صهيب أيّوب روايته «ذئب العائلة» (نوفل 2024) بمشهد خروج شمسة السّبع من خيمة زوجها حمد، الذي جاء ليطلب يدها مشيا، قاطعا الأراضي الواسعة بأقدامٍ عفّرها التّراب، وظهرٍ يحملُ فوقه قصص الأجيال التي تواترت على امتطائه، تاركة له أسنانا ذهبية تلمعُ في وهج الليل، وأنيابا يعرفُ كيف يطلقها بوجوههم، «هم بصيغة الجمع»؛ الوجوه التي عاش معها مثلَ من يتنفّس في مستنقعٍ آسن، صورٌ بلا إطارات، لا يحددُ ملامحها أحد ولا يسهر على تعبها إلا الوقت، وحده السّارد الأكبر في الرواية، يتنقّل بينهم، يضحكُ على قصصهم، ثمّ يعود إلى بيته.
تُخرجُ شمسة السّبع رأسها من فتحة الخيمة، يتقطّر جسدها تباعا، يسيلُ مع النّهر الذي حملها في طفولتها وصار مع الوقت نافذة تستأجرها لتسترق النظر إلى أمّها نجمة الصّبح وهي تظهر وتختفي، لأنّ الأشباح لا تنام واقفة في مدن الغُبار. كان لصهيب أن يفتتح روايته مع شمسة وزوجها حمد، الذي أحبّها منذ رآها وهي تلعب قرب النهر، عارفا أنها ستكون له، هي التي خرجت من زمنٍ آخر، متمرّدة على بدويتها؛ لكنه آثر أن يبدأ الرواية مع حسن السبع، حفيد شمسة بعد زواجها من حمد، وتركها له، مرتحلة إلى طرابلس، ضاربة بعرض الحائط الخيمةَ الضيّقة على أحلامها؛ هي التي ولدت قرب النّهر، رفيقها في الارتحال والتغّرب. لا تفعل الأمهات شيئا سوى الاختفاء في هذه الرواية؛ فكما تختفي شمسة، تختفي سعديّة المحمد أم حسن السّبع، الذي كان زهرتها الوحيدة بين إخوته، هو الأخرس الذي لا ينطق إلا بعيونه، يمررّهما على سكّان بناية العلبي، وارثا حشرية جدّته وحبّها للبحر، والفلوكات، التي صار يقصدها ليُذهب عن جسده رائحة الضجر، ويتلصّص على أجساد الصّيادين الذين كانوا يطعمونه ويرفّهون عنه، ينشلونه من قصص عائلته ومشاغلهم، هو العارف بكلّ شيء.
نوَرٌ، ريّاسةٌ وبدو، قتلةٌ وعابرو طريق، غرباء في بيوتهم وفي مدنهم، تعيش شخصيّات الرواية في لغتها. هم سكّان البناية الذين يستعيضون عن أذان المسجد بقصصهم، يمرّرونها على بعضهم بعضا، وإن ملّوا فيحدّثون هررهم كما تفعل وداد النابلسي، جارتهم في البناية، هي التي أحبّت أمّها نازك، وماتت مع موتها، رافضة أن تعيش في الزّمن الحاضر. في شقتها، تحلم بزوجها عزيز دقناش الذي لم تتقبّل موته، وما زال حاضرا في جسدها، تحمله معها بين حنايا البيت، تزرعه كورودها، تحضّر له حمّامه، تدرز له بناطيله. هي المقيمة في طفولتها، في رقّة الأقمشة التي تخيطها وهي جالسة على ماكينتها، كأنها لا تحكي إلا لتشير إليه، تترك جسدها مرتخيا على الكنبة، ينام فوق البلاط الذي لم تبعد الحربُ أشباح من رحلوا منه، تطرّز لها قمصانا وأقمشة، تفرش لها البيت الذي يأويها وحدها، هي التي تحلم في يقظتها، تربّي غاباتها بوجه الآخرين وإسمنتهم.
يعرف صُهيب كيف يخاطب الصمت الذي يربو في الأماكن التي لا تصل إليها يدُ أحد، يترك الهواء كثيرا أمام شخصياته المبتورة، شخصيات غارقة بالقذارة والسوائل والرذائل، بالطّمع والحيرة، بالشّعر والحبّ؛ ضماناتها الوحيدة بين أناسٍ يشيرون إليهم بطرف أصابعهم، يلوكونُ أفواههم بامتعاضٍ كلّما لمحوهم بينهم، هم النّوَر الذين جاؤوا من بلادٍ غريبةٍ يحملون صررهُم على ظهورهم، يفرشون سحناتهم على طول الساحل الذين قطعوه بأقدامٍ حافية، وأيادٍ محنّاة، يخيفون «المتحضّرين» في المدن الغارقة في عفنها. لهم أحلامهم، ساعاتهم الطويلة حين يتركون بيوتهم ويخرجون إلى طرابلس، يتوهون في شوارعها، ينظرون نحوها ببراءة من يعرف الفقد والخيبة، يحتضونها في عيونهم، المدينة الخارجة من تاريخ بلدها، المدينة التي استقبلت شمسة السبع، فرشت لها البيت الذي كان خيما منصوبة بوجه الرّيح في ماضي عائلاتها، أعطتها وجها وملامح، وأسكنتها في خانكةٍ تتهافت عليها صحون المهلبيّة، والشيخ محشي والرّز بحليب، هي التي فقدت أمها باكرا، وعلّقتها في سماءٍ لا يعرف أن يصل إليها أحد.
طرابلس علّمت أولادها، حين حملتهم في بطنها خارجة من خيمة زوجها، لتصل بهم إلى المدينة وتبدأ العمل في بيت سلّوم الحلو، المعروف بأنّه أوّل من فتح فرنا في حارة الدّكرمنجي، هو مثلها، الخارجة من عباءة عشيرتها وأهلها. سلوم الحلو الذي كان حلوا في تعامله مع شمسة وولديها، فاستخرج لهما إخراجي قيد وسجّلهما كي يصبحا رسميّين، أسقط عنهما شبحية رافقتهما طويلا. هكذا يصبح الأطفال شرعيين في مدن العالم، يدخلون سجلاّته وأرقامه، يشاركون في صنعه، يصبحون جزءا منه، امتدادا لعائلاته الكبيرة والمتفرّعة. زياد وجلنار اللذان كان لهما أن يُعرفا بألقابهما لو عاشا في زمنٍ آخر، لو بقيا في الخيمة مع أبوهما حمد الخضر، أن يعيشا في الاستعارات والتورية. صار للأولاد جميعهم، جيلا بعد جيل أن يُحبّوا في غرف طرابلس، وصارت لهم ساحات وأدراجٌ يلعبونَ فيها، يطلقون الضحكات العالية بين أهلهم، يقتلون فيها الوقت وأجسادهم، والحيواتَ الكثيرة التي عاشوها قبل أن تأتي بهم شمسة إليها، سامحة لجيل كاملٍ أن يزرع أطرافه في تربةٍ جديدة، بعيدا من مشاتل الخيم وشمّاعاته. هكذا يعطي كل واحدٍ من آل السّبع حياته لغيره، كأنهم يتناوبون على الاختفاء.
تختفي شمسة ولا يعثر إلا على رأسها مقطوعة عن الجسد الذي حملها أميالا طويلة قاطعة طرقا غريبة لم تمش فيها يوما، ولم تكن لتعرف أنها موجودة لو لم يكن النّهر رفيقها، يدلّها إلى الأماكن الذي يقيل فيها كلّما مرّ بين معبرٍ وآخر، يقلّص انعكاس الحياة فيه، يمررّها إلى غيره مثلما تختفي سعديّة المحمد، وتسقطُ وداد، وتذهب دولشي فيتا مرّة واحدة وإلى الأبد. حياهٌ أشبه بنزهة في بناية العلبي بطوابقها المختلفة، كلّ طابقٍ يفيض بأسرار العائلة التي تقيم فيه؛ بنايةٌ أكبر من المدينة، تجتمع فيها الأصوات وتحتشد، حياةٌ معلّقة بين ماضٍ تسكنه كائناتٌ لا يُعرف مصيرها، ونساءٌ يتناوبن على الموت، يجلسن خلف ماكينات الخياطة يرسمن على الكانفاه ورودا وسماوات واسعة كنّ يحلمنَ بها في طفولتهنّ، ورودا يحرصن على الاعتناء بها، مثلَ من يصون ودّه في «روض الحياة المحزون». يدخل صُهيب في نوم طرابلس وأحلامها، في أزقتها وحاراتها، حيث تنتقل أخبار المجازر والقذائف إلى شمسة وجاراتها وهنّ جالساتٍ يستمعن إلى الراديو الذي تتركهنّ واحدةٌ لأخرى، مثل مسلسلٍ تلفزيوني طويلٍ يُقسّم فيه موت البطلة على دفعات. بين أصوات القذائف التي تنزل منهمرة مثل مطرٍ خاطف ومروره بينهم، هو الذي يقتل بيدٍ لا يطالها أحد ولا يعرف من أين تخرج، يطلقُ أصابعه النحيلة نحوهنّ، يمسك على أعناقهنّ، ويقبض على الرّوح ويخرج، كلّ مرة يأتي متنكّرا، يعيش بينهنّ ومعهنّ، يداعبهنّ بحراشفه الطويلة، يمسّد على جفونهنّ ويبعد عنهن وحدتهنّ ورتابة أيامهنّ.
لا «ملائكة ولا قدّيسون» في رواية صهيب أيوب، ولا بطل واحد فيها، كلّ الشخصيات تنطق بما تراه وبما تعيشه. في صمتها الطويل، في انكفائها على نفسها، في بوْحها الجارف والمتقطع تهندسُ عمارة المدينة القديمة، تبني سقوفا تعششُ فيها الرّقة ويحنو عليها الموت. الموت الذي يصير جسرا لحياة الشّعر، للحياة المتخيّلة، لموسيقى الكاسيتات التي تخرج من غرفة دولشي فيتا، تاركة لأمّ كلثوم أن تفيض بصوتها فوق العتمة التي يخترقها من وقتٍ لآخر وميض رصاصاتٍ بعيدة تتهافت على التّبانة.
في بيت سلوى في الزّاهرية، ليس بعيدا من مدافع الزغرتاويّة وزعيقهم، هناك في البانسيون حيث تختلط أنفاس الرجال بزجاجات العرق البلدي، يكبرُ قلب زياد السّبع ابن شمسة، حين يلتقي بدولشي فيتا، تفتح له أبواب الرّغبة والنّعومة، «حياة حلوة» بعيدا من عوالم الرّجال والمخبرين وزعماء الأحزاب والمسلّحين، يرخي رأسه في حضنها، تلاعب خصلاتَ شعره، توقظ فيه الحياة التي ظنّ طويلا أنها ليست على مقاسه ومقاس أهله، تهمس في أذنه كلمات الحب العذبة التي حلم والده حمد الخضر بأن تجد بيتا لها في جسد شمسة، هي التي تركته دون رجعة، كرهته دونَ مبرّر، أقفلت على قلبه الصّامت في الخيمة التي لم يخرج منها. حمد الذي بقي في طفولته، في بساتين عشائره وأهله، النّاجي الوحيدُ بينهم، كان يرغب لو أحبّته شمسة، لو أعطته القليل من النور الذي حملته في اسمها، لو عطفت على الكلب الشّارد، هو الذي لم يقل كلمة واحدة عنها، وكان عزيزا في حداده، يزورها في أحلامها فتقرف منه، تحسّ بدبق جسمه وحرارة أنفاسه، فينبش في روحها كما لو كان ينظر إليها بعينين جاحظتين. تركها ترحل وحيدة، لم يسأل عنها في القرى المجاورة ولم يخرج ليبحث عنها، احترم رغبتها في الرحيل، أغلق الباب على فمه، بنى بوجه كلماته سدّا هو الذي «ولد تحت الشّجر، بريّا، متوحّشا، صامتا، ولم يبك». لا حزنَ يقتل القلب في رواية صهيب أيوب، كلّ نفسٍ ثانويٍ تشهقه شخصيات روايته يجعل الحياة أكثر نعومة، يعيد إليها بريّة الوحوش البيضاء التي تنام في نصف الغابة، حتى القتل يصبح مذاقه أليفا وهو يعبر بطيفه بين شقق النّسوة، في عالمٍ يوشك أن يمّحي.
بين خطوات هرغول المتأنّية، ونوم شمسة، وجلوس وداد على الكنبة وحيدة، وكاسيتات دولشي فيتا وحمرتها، وأحلام حسن السبع، وعواء حمد الخضر حياةٌ أليفةٌ تمرّ دون أن تترك أثرا، حياةٌ تجبرك أن تعود إلى جسدك، أن تحتضن إفرازاته، أن تحبّه بحنانٍ لا رجعةَ فيه، وكل الأيادي بيضاءُ ومفتوحة ولا قاتل سواك.