لم يكن يحس بأن كل شيء قد تغير، رغم أن كل الأشياء حوله لم تعد تحمل طبيعتها الأولى، قد يفهم أن ما يجري كان مجرد صدفة ليس إلا، ثقل جسدي غريب، وضع نفسي مترهل، نسيان مفرط يلاحقه طوال أيامه التي يظنها الأخيرة فيه، وكان طوال عمره كذلك.. كان جسدا مختلفا، الجسم منه ملأته المغامرة والتحدي وصلابة المواقف.. لا يعرف الرجل أين رحلت عنه تلك القوة التي اكتست جسده وخياله، وهو الذي يخبر المرآة كل صباح، يسألها عن ماضيه ولحظته تلك، وأحيانا أخرى يسألها عن مستقبله، سؤال يثير ضحكته كل حين، يعرف أن المرآة لن تجيبه عن كل هذه التساؤلات، لأنها آنية المواقف، تنقل منه ما يعكسه لها من ملامح، ترتدي ملابسه، وتعدل نفسها وفق أوشاج قلبه، وتعطيه صورة نفسه كأمانة، لا تعرف طرق التصنع فيه، ولا تقوى على التعبير عن لواعج أحاسيسه الداخلية.
المرآة تلك، قديمة بإطار خشبي ذهبي اللون، لم يكن الرجل يعرف من علقها هناك في البهو، يتذكرها تحمل صورة وجهه الصغير، وتتحول معه كلما ازداد سنه، من طفل إلى شاب يافع، ثم منه إلى رجل يفهم الكثير من اللعب الحياتية، وتتلون حسب كسوته، وتنزعج من ردة فعله كما هو، تحس بأنها مرغمة على التقليد، تنتظر التغيير الذي لن يتحقق إلا بتغيير الذات، جسد الرجل يحاكي آلام الترهل والنسيان به، يحاول أن لا يبدي حالة أشلائه الممزقة قبالة المرآة، إنها ظله وعبثه الأبدي، حبه لها علمه أن لا يقلقها، مهما بلغ به الاحتراق والسواد الساكن أعماقه، لذلك قرر أن يشتري مرآة أخرى، لتكون السند، يقص عليها من أحلامه ويستشيرها في قراراته.. أحس بأن القديمة منه أعياها طول الزمن، أو ربما صارت تفهم فلسفته وكبرياءه، لم تكن مخادعة له، كان بإمكانها تشويه صورته وتلميع تجاعيده، وجعلها صورة لطفل صغير، لكي يعيش الأحلام المتناقضة، ويخلق لنفسه تمارين تكون مطابقة لخدعة المرآة.. هي تعلم بأن ذلك سيرهق أنفاسه ويحطم جدول حياته. كان بإمكانها فعل كل ذلك، إلا أنها تعي أنها تأكل كما يأكل، وستموت بها صورته ذات يوم.
قررت أن تحيا معه ما تبقى له من عمر، إنها أناه الأخرى، لكن لماذا قرر أن يشتري الأخرى؟ ولماذا وضعها في البهو نفسه؟ ألم يكن يدري أن ذلك التقابل المعيب، سيخلق منه اثنين غريبين..؟
إن أظهرت إحداهما ظهره، رأت الأخرى وجهه، والمرآة الأولى بخلاف الثانية، فالأولى تعرف الأسرار الجامعة لكل سلوكيات الرجل، وأصبحت تنهج من خياله ضمائر أخرى، محاولة أن تعطيه حقيقة وجهه، لكي لا يتهمه البشر خارجا بالانفصام، أو الاتهام بجريمة الخروج عن الإطار…
لم يكن الرجل يعرف بأن للمرايا أسراراً وأخباراً تتناقلها في غياب الآخر الغريب، والذي هو الإنسان، الذي غالبا ما يظن أنه الوحيد المسيطر على كل المجسمات والمجسدات.. لم يكن يدري أنها بدورها تتواصل، وتتفق على أفعال غريبة، لا تخطر على بال هذا الكائن الذي يظن أنه وحده المخادع.. قد يسقط الإنسان أحيانا ضحية خطط الأشياء، وهي المتقنة لأدوار عجائبية وغرائبية، لا يقوى العقل البشري على استيعاب ذلك المستحيل المختلق بينها، وكأنها تحمل قوة تدبيرية ومناهج تخالف نمطية الإنسان، خاصة إذا رأت منه ما يخالف العادة فيه، وإن صار يشكل الخطورة على نفسه وعليها، بذلك يصبح كل خيال غريب حقيقة سهلة الاستيعاب…
تفاجأت المرآة بتصرف هذا الأحمق الذي جلب مرآة أخرى للبهو، ألم يكن يدري أن أصل الزجاج تربة واحدة، ألم يكن يعي بأن تواجد الأشياء المتشابهة لوحدها يشكل خطرا تفاعليا نفسيا رهيبا..
كلها أسئلة سيفهمها حالما يستيقظ ذات صباح صيفي، إذا أراد أن يعدل ربطة عنقه قبالة المرآة القديمة، فلم يجد بها أي انعكاس، لم يخطر ذلك على باله بأنها متمردة صعبة المزاج، بل زاد استغرابه ذلك، لما نظر إلى المرآة الأخرى، فرأى وجهه يبتسم، رغم أنه كان خائفا بقوة، أحس حينها أنه فقد ظله، وفتح على نفسه بابا من أبواب التمرد الذي لن يقوى على تحمله…