“إن مشروع الشِّعر، على نحو ما، هو رفع اللغة إلى مستوى يمكن أن ينقل الطبيعة الدقيقة للتجربة الشخصية… عندما يكون الناس حقيقيين بالنسبة إليك، لا يمكنك أن ترسل طائرة إلى المبنى الذي يعملون فيه، لا يمكنك تجريف مخيم اللاجئين حيث يعيشون، ولا يمكنك قصف منازلهم أو شوارعهم بالقنابل العنقودية”.
(الشاعر مارك دوتي)
تسحرنا الموسيقى، وتأسر قلوبنا في تجربة إنسانية مثيرة، وهو الشعور الذي ظلَّ عصيًّا على الوصف الدقيق حتى سنوات قريبة، وذلك حين توصّل علماء الأعصاب لتصوير الدماغ بدقّة لمعرفة سر تلك النشوة التي نشعر بها، حيث إن دماغنا يُطلق الدوبامين -هرمون السعادة- عند سماع الموسيقى، وقد أمكن للعلماء معرفة الفرق بين تأثير مقطوعة لبيتهوفن وأخرى لتشايكوفسكي على دماغنا. (1) وبالدقة نفسها، وبحثا عن مزيد من أسرار الدماغ، بحث العلماء في كيفية تفاعلنا مع الشِّعر، وكيف يميز الدماغ بين القوافي والإيقاعات التي يستخدمها الشعراء، بين النثر أو الكلام العادي، فماذا يحدث داخل عقولنا عند قراءة الشِّعر، وكيف يُفسِّره لنا علم الأعصاب؟ (2)
باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي وغيرها من الأدوات المتطورة استطاع الباحثون تفسير ما يحدث حين نفكر في الصور الشِّعرية والمعاني المتعددة في القصائد، إذ تعمل على تنشيط مناطق معينة من الدماغ، وتنقلنا إلى فضاء وعوالم أخرى، وتثير عواطفنا وتمنحنا شعورا بالحكمة والفهم، وتدفعنا للتغيير أحيانا. (3) وقد كتب بيل ماكيبين صاحب أول كتاب عن تغير المناخ بعنوان “The End of Nature” الذي نُشر عام 1989 في مقال نشرته صحيفة “الغارديان” (The Guardian) عن هذا التأثير يقول: “لقد أمضيت 30 عاما أفكر في تغير المناخ وأتحدث مع العلماء والاقتصاديين والسياسيين حول معدلات الانبعاثات وضرائب الكربون والمعاهدات. لكن أصعب فكرة كان يمكن التعبير عنها هي أبسط فكرة: نحن نعيش على كوكب، وهذا الكوكب ينهار. واتضح أن الشعراء يستطيعون توصيل هذه الرسالة.. العلم غير مثير للجدل. لكن العلم وحده لا يمكن أن يُحدث التغيير”. (4)
طريق نحو المعرفة
كانت الكاتبة الأميركية أودري لورد تقول في مقال لها بعنوان “الشِّعر ليس ترفا” إن الشِّعر يعتبر أكثر طرقنا الحقيقية نحو المعرفة، والطريقة التي تساعدنا في منح اسم لما لا يمكن تسميته، وهكذا نعرف آمالنا ومخاوفنا، وحين تصبح مقبولة تجد مشاعرنا ملاذا يمكن أن يقودنا لأكثر الأفكار جموحا وجرأة.(5)
تكون قراءة الشِّعر معقدة أحيانا، فعليك أن تعرف كيفية قراءة ما بين السطور، وفك رموز الكلمات، عليك قراءة الرسالة الخفية، وهي قراءة ثانية، يقول عنها بورخيس إنه من الخطأ الاعتقاد بأن النثر أقرب إلى الواقع من الشِّعر.(6) للقصائد عدة معانٍ أحيانا، ويمكن إعادة قراءة القصائد بمعانٍ مختلفة، ويمكنك فهم القصائد بشكل مختلف وفقا لحالتك المزاجية، وسيمكنك رؤية جمال الكلمات والصوت وفهم المشاعر. وبشكل عام تفيدنا قراءة الشِّعر فيما يلي:(7)
ـ تكشف لك طرقا أخرى لتحديد المشاعر، فتًمكّنك من تحديد مشاعر لم يكن بوسعك وصفها من قبل فضلا عن أنها تُمكّنك من اكتشاف زوايا جديدة في الخريطة العاطفية لدماغك.
– تساعدك على اكتشاف نفسك، فشغفك ومخاوفك وشكوكك قد تكون هي ما عبّر عنه شاعر معاصر أو شاعر عاش قبل عدة قرون مضت، فدائما ما كانت الطبيعة البشرية متشابهة في الشواغل والاهتمامات.
– يُحفِّز الشِّعر دماغنا أكثر مما تفعل الصور، لأنها تجعل الدماغ يواجه مفاهيم لم يعتدها، لذا تعمل قراءة الشِّعر على تنشيط الجزء الأمامي من الدماغ ومنطقة الحصين لمعالجة المعنى.(8)
– تساعدنا في الشعور بالتعاطف مع الآخرين باستكشاف مشاعرنا ومشاعرهم أيضا، إنه وسيلة للتأمل والنظر إلى العالم، ونقطة التقاء بين العقلاني والحدسي، بين الميتافيزيقا واللا يقين والغموض.
– تنمّي القدرات الإبداعية، والقدرة على إيجاد حلول مبتكرة للمشكلات، والربط بين الأفكار.(9)
ما يحدث في دماغنا
نشرت مجلة العلوم الاجتماعية المعرفية والعاطفية دراسة أجراها يوجين فاسيليويزكي، الباحث في معهد ماكس بلانك لعلم الجمال التجريبي، وفريق من العلماء في جامعات ألمانية ونرويجية أخرى طلبوا فيها من مجموعات من النساء الناطقات بالألمانية في منتصف العشرينيات من العمر الاستماع إلى الشِّعر بصوت عالٍ، كانت بعض المشاركات من قارئات الشِّعر، وبعضهن الآخر ممن يمكن وصفهن بالمبتدئات. واختار الباحثون مجموعة من القصائد للشعراء الألمان المعروفين فريدريش هولدرلين وفريدريش شيلر وثيودور فونتان وأوتو آرنست، وسُمح للمشاركات باختيار بعض القصائد، وأثناء استماع المتطوعات، سجل الباحثون معدل دقات القلب وتعبيرات الوجه، وما يُسمى “goosecam” ويعني حركة الجلد وشعر الذراعين، وكانوا يضغطون على زر لدى شعورهم بقشعريرة داخلية.
أظهرت النتائج شعور المشاركين بالقشعريرة أثناء استماعهم للشعر، وإن اختلفت الاستجابات وتوقيت حدوثها بين المشاركات، وأظهرت أيضا حدوث انكماش مرئي بالجلد لدى نحو 40% منهن، وهي نسبة تقارب ردود أفعال معظم الناس عند الاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة مشاهد عاطفية في الأفلام. ومع ذلك، يبدو أن استجاباتهم العصبية كانت فريدة بالنسبة إلى الشِّعر، فقد أظهرت عمليات المسح التي أُجريت أثناء الدراسة أن الاستماع إلى القصائد نشّط أجزاء من الدماغ لدى المشاركات لا يتم تنشيطها عند الاستماع إلى الموسيقى أو مشاهدة الأفلام.
وجد المؤلفون دليلا يدعم فكرة تحقيق قراءة الشِّعر للسرور كتجربة بطيئة أو ما يُسمى “ما قبل القشعريرة”، فأثناء الاستماع إلى القصائد التي وجدوها مفعمة بالحيوية، توقعت المستمعات دون وعي الإثارة العاطفية القادمة، بطريقة تشبه ما يحدث في الدماغ لدى توقع المكافأة، أو ما يحدث لنا عند فكّ شريط الشوكولاتة مثلا. فقبل أن تسجل المشاركات شعورهن بالقشعريرة بالضغط على الزر، كانت البيانات التي يتابعها الباحثون تكشف عن أن عواطفهن قد تحركت بالفعل قبلها بنحو 5 ثوانٍ، حتى لدى استماعهن لقصيدة لم يسمعنها من قبل.(10)
يؤثر الشِّعر على مناطق معينة من الدماغ، وهذا يتوقف على درجة الانفعال وتعقيد اللغة والأفكار. في دراسة نُشرت عام 2013 في مجلة دراسات الوعي، أجرى الباحثون في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة مسحا بالرنين المغناطيسي على أدمغة المشاركين أثناء قراءة النصوص المختلفة على الشاشة، وتراوحت النصوص بين النثر الجامد -مثل قسم من دليل تركيب معدات التدفئة- ومقاطع من الروايات وبعض القصائد، لتقييم النصوص وقدر المشاعر التي أثارتها. ووجد الباحثون أنه كلما ارتفعت درجة الانفعال بالنص، زاد النشاط الذي أظهرته عمليات المسح في الجانب الأيمن من الدماغ، وهي المناطق نفسها التي تنشط أثناء الاستماع إلى الموسيقى، فضلا عن نشاط الجانب الأيسر من الدماغ الذي يشارك في تنظيم الحركة ومعالجة الجمل الصعبة. (11)
العلاج بالشِّعر
يعتبر العلاج بالشِّعر أحد علاجات الفنون الإبداعية التي اعتمدتها الرابطة الوطنية للجمعيات العلاجية للفنون الإبداعية، ويُستخدم العلاج بالشِّعر مع الأطفال والمراهقين، ويكون فعالا مع كبار السن أيضا، إذ يجدونه وسيلة لمراجعة الحياة، كان الشاعر إيلي جريفير قد بدأ في عشرينيات القرن الماضي بعمل مجموعة “العلاج بالشِّعر” كمتطوع في مستشفى كريدمور الحكومي. وفي عام 1959 قام بتيسير مجموعة علاج الشِّعر في مستشفى كمبرلاند مع اثنين من الأطباء النفسيين، وبعدها قام كلٌّ من الدكتور جاك ليدي والدكتور سام سبيكتور بإنشاء جمعية للعلاج بالشِّعر.
تقوم ألما رولفز، وهي أخصائية اجتماعية، بعمل جلسات للعلاج النفسي للمرضى النفسيين، والمدمنين، والنساء بعد الولادة، وتصف العلاج بالشِّعر بأنه “أسلوب علاج رائع للغاية”، إذ يجمع بين نقاط القوة الموجودة في جميع العلاجات بالفنون الإبداعية الأخرى، وتؤكد أن استجابة المرضى تبلغ مستوى عميقا حين لا يضطرون للتعبير بأنفسهم، وتقول: “بالنسبة للكثير من الناس، فالكلمات جزء محرج للغاية من العلاج”. لكن الشِّعر يتيح استخدام الأدب والكتابة الإبداعية مما يتيح للعملاء التعبير بلغة لا يعتقدون أن لديهم القدرة على التعبير بها. (12)
في الأعمال التنفيذية
يُطوِّر قرّاء الشِّعر إستراتيجيات أكثر “للمراقبة الذاتية” تُعزِّز فعالية التفكير لديهم، وهذه القدرات الإبداعية تساعد المديرين التنفيذيين في الحفاظ على ريادة الأعمال في مؤسساتهم، وتُظهِر سلسلة من الأبحاث الجديدة أن قراءة القصص الشِّعرية والشعبية تُطوِّر القدرة على التعاطف مع الآخرين. وأظهرت بعض الدراسات أن قراءة القصص الخيالية ضرورية لتنمية القدرة على التعاطف لدى الأطفال الصغار، وأن تضمين الشِّعر في المناهج الدراسية وسيلة لتعزيز التعاطف لدى الأطباء، والذي يعتبر مهارة أساسية لمَن يشغلون وظائف تنفيذية ويحتاجون إلى فهم مشاعر ودوافع الزملاء وغيرهم. (13)
ويقول البروفيسور فيليب ديفيس، مدير مدرسة معهد علم النفس والصحة والمجتمع، إن الدعوة إلى تفعيل الوعي الأدبي قد يكون لها تأثير كبير في تحدي عقولنا، ويرى أنه إذا قرأ المزيد من الناس الشِّعر واعتادوا على التفكير في المعنى فسيُحدِث ذلك فرقا في قدرتهم على التفكير بمزيد من اليقظة.(14)
المصادر:
- This Is Your Brain On Music: How Our Brains Process Melodies That Pull On Our
- Poetry as therapy
- How Reading Poetry Helps Us Ask for a Better World
- High ice and hard truth: the poets taking on climate change
- How Reading Poetry Helps Us Ask for a Better World
- ¿Por qué es bueno leer poesía?
- El arte salva vidas – Beneficios de leer poesía
- ¿Por qué es bueno leer poesía?
- John Coleman: “Los beneficios de la poesía para Profesionales”. Harvard Business Review Blogs
- This Is What Happens to Your Brain When You Read Poetry
- Poetry as therapy
- Poetry Therapy: Using Words to Heal
- The Benefits of Poetry for Professionals
- Poetry as therapy