ليست الكتابة عندنا فِعلَ إذعان وخنوع، أو أداة تذلُّلٍ وتملُّق، وإنما هي حركة الروح الثائرة، وفعل تمرُّدها؛ التمرُّد على خور الشق الحيواني في تركيبتنا البشرية. وإذا كان الإنسان هو “الحيوان” الوحيد، الذي يرفُض أن يكون حيواناً – كما يرى ألبير كامو – فإن الكتابة عندنا هي أحد أدواته في هذا “الرفض القمعي” لهيمنة شقه الحيواني، إخلاداً إلى الأرض. هذا الإخلاد المستَهين بقداسة التكليف، والمُستَخِفُّ بكرامة الإنسان على ربه. إن حركة الروح بهذا التمرُّد الإنساني القاسي – على ضعفنا – هو سبب تكريمنا فوق العجماوات، التي لا تتمرَّد على “مصيرها الحيواني”، وإنما تستسلم لثِقَلِ إخلادها “البريء” استسلاماً خنزيريّاً لا يعرفُ أنَفَة ولا سموّاً.
وشتَّان بين هذا التمرُّد الإنساني الفطري على حيوانيتنا المجبولة، استشرافاً لما هو أسمى في هذه الجبِلَّة، ولو أخفق هذا التمرُّد/ البحث في بلوغ حقيقة الوجود وغايته العُليا، كما يتجلَّى في تشاؤم الفلسفة العدميَّة والعبثيَّة؛ أقولُ: شتَّان بين هذا التمرد المأساوي – ذي الطابع الديني العميق – وبين تمرُّد العقلانيَّة المادية الطفولي الساذج على الألوهيَّة. إن تمرُّد العدمي (واللاعقلاني المادي) احتجاجٌ على احتجاب عالمه عن الألوهيَّة، بحجاب نفسه ومجتمعه الثقيل، ومن ثم؛ فهو تمرُّدٌ على اغتراب الإنسان الرباني، وعدم تحقُّقه داخل التاريخ. إن هذا التمرُّد المأساوي “الشريف” – على زيف الواقع المادي، وتشظيه، ولا إنسانيته – كان بداية الإيمان في كُلِّ شِرعَة.
أمَّا تمرُّدُ العقلانية الطفولي على الألوهية فينطوي على إنكارٍ للإنسان ذاته، نتيجةً لإنكار الإله. ذلك أن غياب الإله المهيمن يعني غياب الإنسان الرباني المركَّب؛ الإنسان الواعي المُكلَّف المستخلَف، الإنسان القادر على التسامي فوق حتميات المادة، وتجاوز ثِقَل التاريخ والواقع. إن ارتباط إنكار الإنسان الرباني بأزمة إنكار الألوهية أمر بدهي؛ إذ أن هذا الإنسان/ الإنسان – كما يُسميه أستاذنا المسيري – كائن رباني الوجه والوِجهة جُملةً وتفصيلاً، على عكس “الإنسان” المتأله بإخلاده، سواء تسلَّط فوق غيره بقوَّة عارِضة، أو استُعبِدَ للعبيد بافتقاد هذه “القوة”؛ إنه “إنسانٌ” افتقد للصفة الربانيَّة/ الإنسانيَّة، بافتقاده للصلة مع إلهٍ يُدبِّرُ عالمه الغارق في الفوضى؛ ليرتدَّ إلى مرتبة خنزيريَّة مؤلمة. إنه “إنسانٌ” وحيدٌ في “كون موحش”، لا يستطيع تجاوز آلام وحدته سوى بمحاولته تخيُّل عالم فردوسي “جديد” يتوهَّم إمكان وجوده؛ عالم أملس، بلا صراعات ولا تاريخ ولا تكليف، ولا نتوءات ولا بروز، عالم الخنازير الراضية بولوغها “المريح” في الطين!
وقد كانت صرخات نيتشه الوحشيَّة، وأنَّات كامو التي تُمزِّق نياط القلب، وتقزُّز سارتر اللاعقلاني العجيب من تفاهة الوجود المادي، وتَوق فوكو إلى روحانية ميتافيزيقية، تؤَنْسِن عالم السياسة الوحشي؛ مُجرَّد أمثلة “حديثة” على هذا الاحتجاج ذي الطبيعة الدينيَّة، الاحتجاج الذي لا يُنكر الألوهية في جوهره، وإنَّما يستنكِرُ “ضمناً” تعطُّلها في عالمه الطوباوي النظري المختَلَق، ومن قبل في واقعه الذي أنكر الإنسان الربَّاني وقمع أشواقه. لهذا، كان تمرُّداً حقيقيّاً صادقاً على الأصنام، التي شغلت موقع الألوهية في عقل ووجدان هذا “الإنسان” المنكود.
لقد توهَّم هذا “الإنسان” عالماً مُظلماً، وراح يَئِنُّ راغباً في استنارة هذا العالم بنور الألوهيَّة، لكنَّهُ مُشرِكٌ عنيد، يُريد إلهاً مصنوعاً على مقاسه ومقاس عالمه المصطنَع، إلهاً يُريحه وتسكُن به نفسه القَلِقَة؛ إذ يوافقه على ما يتوهَّم. وكلَّما انهالت عليه الشواهد باستحالة ذلك الإله الزائف المطوَّع لأهوائه وأوهامه، وطالعته “وجوه” الأصنام التي اتخذها – عبثاً – لسد الفراغ، بسُخريتها الخرساء، كأصنام قوم إبراهيم عليه السلام؛ جن جنونه، واضطرمت نفسه بالألم، وراح يصرخ مُتوجِّعاً طالباً الرحمة، لكن أنَّى للرحمة من وجود في عالم مادي بارد رشيد، عالم مُسطَّح مثل هذا “الوجود الميِّت”، الذي يتوهَّمه الإنسان المعاصِر؟!
لقد كان اختزال العقلانية الطفولي والطوباوي للإنسان في وجوده المادي البرَّاني إنكارا كُليا للإنسان الرباني، ولإمكانات تحقُّقه مُركَّباً كما خُلق. ذلك أن العقلانيَّة الماديَّة (التي آلت لاحقاً إلى اللا عقلانية الماديَّة) تنظر للإنسان بوصفه “شيئاً كميّاً” ذا بُعد واحد، “بريئا أخلاقيّاً” كالحيوان، وذلك بعد أن تخفَّف من أثقال الميتافيزيقا وأعباء التاريخ، واستقرَّ في الطوبيا الملساء المتوهَّمة، التي انتفى فيها الخير والشر! ولأن هذه العقلانية ابنة سفاحٍ لوهم “الخطيئة الأصلية”، لذا؛ فهي تسعى بكل ما وَسعها لنفي تلك الخطيئة المنهِكَة، لكنَّها ليست واعية بأنها – لجهلها بالفطرة – تنفي معها الإنسان، وبالتالي؛ تُفضي محاولاتها العبثيَّة دوماً إلى عكس المراد!
تُفضي إلى توجُّع بقايا الإنسان الرباني؛ فينتَفِضُ وجوده مزدوج التركيب، ينتفِضُ كاشفاً عن قُدرته على الخير والشر، وأنه رغم مقدرته على الإثم والسقوط؛ قادرٌ على تجاوز ذلك كله عروجاً إلى إتيان المعروف والذود عنه، وصولاً إلى الأمر به باسم الله!
وفي كل مرَّة تزداد قسوة محاولات نفي الإنسان، يزداد عُنف رد فعله؛ مؤكداً اختلافه عن الدواجن الطوباويَّة وحيوانات “السيرك” المستأنَسة. وبعبارةٍ أخرى، ففي كل مرَّة تنفي الفلسفات الماديَّة عنه الكرامة، وتجتهد في التنظير لتقويض إنسانيته الربانية؛ يطفر منه “ميثاق الذر”، وتُطل الفطرة المقموعة بوجهها المنْهَك، لا باحثة عن الراحة الخنزيريَّة، وإنما تائقة إلى مشقة خلافة الله في الأرض، التي خُلِق الإنسان للاضطلاع بها؛ فتراه يسعى إلى التفرُّد والتأثير، وإلى التعبير الدراماتيكي عن موقف خاص تجاه مُحيطه، وإلى إضفاء المعنى على مُعاناته، ويعتبر ذلك كله تجلياً لـ”التزامات أخلاقيَّة” ميتافيزيقيَّة الطابع. فكأن فطرته المطموسة تسعى – رغماً عنها! – إلى إبلاغ الرسالة الربانيَّة من وراء حجاب، استجابة لميثاق الذر؛ ليُقيم المشرك حُجَّة الله الداحضة على نفسه وقومه، وهو لا يدري أن روحه مُسخَّرة مأمورة، ولو باع نفسه واعياً للشيطان مثل المسكين فاوست.
ويتجلَّى هذا الصراع الوجودي بتنويعاته – أشد ما يتجلَّى – ناضحاً في ألوانٍ من الكتابة الوجدانية، وذلك بوصفه ذروة دوافع الكتابة المسؤولة، وإن اختلَفت صورته عند الكاتب المؤمن عنها في نتاج الكاتِب المشرِك. فهو عند الأخير تناقُضٌ مؤلم منهك، صراع بين بقايا باهتة لفطرته الجوانية – التي يُحاول الدفاع عنها واستحيائها – وبين الرغبة الجارِفة في الاستسلام للانحراف الاجتماعي البراني “المريح”. لكنَّ طبيعة ألم الكتابة تختلف عند الكاتب المؤمن؛ إذ لا يُسببه تناقُض البراني والجواني في روعه، وإنما صراع دائم بين الجواني الذي استكانَ إلى الله سالكاً، والبراني إذ يُكابِد به وفيه ثِقَل التاريخ وما أُحِلَّ من الشهوة، وهو ألم كاف لأي كاتب حتى تزهق روحه.
وبعبارة أخرى، فإن الكاتب المشرِك يُعاني صراعاً بين بقايا إيمان فطرته، المطمور تحت كفره وكفر واقعه، وبين ثِقَل ذلك الواقع. أما الكاتب المؤمن فيُعاني صراعاً بين روحه وطينه، بين إيمانه وثِقَل بعض ما أحلَّه هذا الإيمان، بوصفه إبهاظا في تكاليف الترقي وسلوك الإحسان. إن صراع المشرك صراع إيجاد لنفسه الإنسانية الزاهِقة، أما المؤمن فصراعه صراع تحرُّر وتحقُّق لهذه النفس الربانية. والأول أشد إنهاكاً بطبيعة الحال لأنه صراع صفري في سبيل “معدوم”، أما الثاني فهو أقل وطأة لأنه صراع في سبيل تحسُّن التراكُم.
ومما يزيد وطأة الأمر على الكاتب المشرك، أنه قد استبطَن وهْم “التطور الرأسي” الصاعد للوجود، وأن كل يوم خير من سابقه في كل شيء؛ فراح هذا الوهم يجذبه إلى أسفل، ويزيد ثقله، ويجعله غير قادر حتى على تحقيق خلاصه الفردي. أما الكاتب المؤمن فمُدرِكٌ لحجم الخسر، ويعرف أن كل زمن شر من سابقه، وأن تحقيق الخلاص الفردي والاجتماعي ممكنٌ جوانيّاً فحسب – بتزكية النفوس زرافات ووحداناً – أما برانيّاً، فإن العالم يسير إلى البرودة والاضمحلال في كل شيء. لهذا، يُعذَر الكاتب المشرك ويستحق بؤسه الشفقة؛ فقد أشرَك بلسانه وبعض قلبه، بيد أن البقية الباقية من نفسه ترفض ذلك وتتمرَّد عليه؛ لتزيده ألماً على ألم.
هذا الألم الممض – الذي تتسبَّب به ألوانٌ شتَّى من الكتابة – مرجعه كون الكتابة المسؤولة مُكابدة حقيقية في ذاتها، ومعايشة تامة تستهلك الإنسان روحه وبدنه. وقد كان “المصلح” البروتستانتي مارتن لوثر يرى أن السذّج فقط هم الذين يعتقدون بأن الكتابة عمل الأصابع وحدها، في حين أنها عمل الجسم والروح.. كل الجسم وجماع الروح!
وربما سأل سائل: إذا كانت الحياة كلها مكابدة؛ فما الذي يجعل المكابدة بالكتابة أشق أحياناً من الحياة نفسها، أو يجعلها أشق صور الحياة المعروفة؟ أليس في هذا شيء من المبالغة؟!
وهو سؤال متوقَّع، وسائله لم يسبق له كتابة شيء حار في الغالب، وإلا لعَرَف أن الكتابة مُكابدة مزدوجة، أو مكابدة مُضاعَفة؛ فأنت تكابد التجربة في وقتها أولاً، ثم تكابد في استحضارها ومعايشتها ثانية عند الكتابة، وقد تتفاقَم آلام المكابدة أكثر في استحضار التجربة وصياغتها، وإعادة قراءتها. لهذا، كانت الكتابة الوجدانية المسؤولة عملاً مؤلماً بكل ما يحمله الوصف من معانٍ؛ فكأنها نزيف حقيقي. وإذا هيمَن هذا اللون من الكتابة على كاتبٍ؛ صارَت كل الكتابة عنده إنهاكاً كإنهاك الحياة نفسها، أو أشد قسوة؛ حتى إن كتابة عدَّة سطور تعبيراً عن فكرة استحوذَت على نفسه فمنعته النوم، أو عاطفة اضطرم بها صدره فحالت لُطف الشهيق والزفير إلى لهيب؛ تصير أشبه شيء بخروج الروح من الجسد. إذ يمنح الكاتب قارئه بعض نفسه في هذا اللون الحركي الفعَّال من الكتابة، وهذا ما يجعل عمله استنزافاً حقيقيّاً.
وربما سأل سائل عمَّا قد يدفع كُتَّاب هذا النوع إلى الاستمرار في تلك المعاناة رغم حجم الألم، والإجابة جد بسيطة، وهي: الرغبة في إقامة الحجَّة على نفوسهم وعلى من يقرأ، دفاعاً عن ضميرهم، كما عبَّر الشاعر العراقي الملهِم أحمد مطر، متَّعه الله بالعافية. إن هذا اللون من الكتابة ليس حركة في المكان مثل رقص الدراويش، ليس حركة متوهَّمة، لأن الطاقة الروحيَّة التي تُنفَثُ في العبارات؛ تجعلها حركة حقيقيَّة تُكمِلُ نقص الحركة الإنسانيَّة في الوجود، ولهذا تفصيلٌ نتناوله لاحقاً(1). أضف إلى ذلك أن الكتابة بانتظام أداة ترتيب للذهن، وبلورة للنسق الفكري، ودعم للحُجَّة وجدل لضفيرتها؛ إنها مكمن قوَّة المفكر والأديب، وأعمق أدواته أثراً في نفسه وفي الوجود. إنها ليست محض اكتشاف دائري للذات، وإنما هي اكتشاف لأعماق الوجود ينطلِق من معرفة غائرة بالذات، لهذا؛ كان ألمها في أكثر الأحيان استمراراً لحرارة الخبرات “الشخصيَّة/ الذاتية”، وليس مُجرَّد انعكاس بارِدٍ للمقولات النظريَّة “الموضوعيَّة”.
وإن المفكر ليتعلَّم التفكير بالكتابة، كما قد يقبص الأديب عاطفته بالكتابة. إنها أداتنا في صياغة نفوسنا، وصياغة الوجود. بها نجدُل الحُجَّة، ونرفع قواعد النفس ونُحصِّنها. وإن الكاتب المؤثر أعظم قوَّة بكثير من السياسي المتسلِّط؛ فهو سُلطة أخلاقيَّة ومعرفيَّة حقيقيَّة، سلطة لا تُهزَم اجتماعيّاً أبداً ما أخلَص وجهه، وإنما يتجلى أثره بقدر التغلغُل النوعي الذي تخلفه عباراته، والتأثير الحركي الذي تدفع إليه العبارات الحارَّة النفاذة، التي اقتاتت قلب صاحبها وتغذَّت على روحه، لتبلغ ذروة ذلك بموت الكاتب في سبيل ما يَعتقِد، حتى إذا تغذَّت كلماته بالدماء – دماؤه هو – انتفضت حيَّة وعاشت بين الأحياء، كما قرَّر سيد قطب بدمه الطهور.
ولأن الكتابة عندنا استمرار لآلام المكابدة الحياتيَّة وخبراتها، وتوثيق لهذه الرحلة؛ فإن الكاتِب المبتدئ في هذا اللون ستكون كتابته أول أمره مُتقطِّعة، وسيُعاني غالباً من الاحتباس؛ إذ ينتظر الإلهام أو الانفعال الحقيقي ليكتُب بوحي منه، فقد اعتاد ألا يخط حرفاً إلا بعد أن يضطرم صدره بنيران الانفعال، ويلفح لهيبه وجهه. ستكون كتابته غير منتظمة، لأن الانفعال البشري لا يُمكن أن ينتظم أبداً في روع الإنسان؛ فهو نتاج مُركَّب رباني غاية التعقيد، مركب لا يُمكن التحكم فيه، وإن أمكن اصطلاء الحياة في أواره أبداً، كما سنُبين.
وإذا كان كاتِب هذا اللون قد يُصيب شيئاً من الانتظام، إن داوم على الكتابة – كما يُداوم على التنفُّس – واستمر ممسكاً بتلابيبها كلما واتته فرصة، فإن رغبته في الاستمرار – مع ضعف الانفعال – قد تجرفه إلى مهاوي الصنعة البارِدة؛ فيتسطَّح انفعاله ويُستسخف مقاله. وما من مخرج يستنقذ به نفسه إلا أن يُلقي بها في غمار الحياة؛ يخوضها بوجهه وصدره، ويتلقى كل ما تقذفه به – بروحه وجسده – مع احتفاظه بسعة اطلاعه؛ فيتضخَّم همه، ويزداد قلبه رهافة وإنهاكاً إلى الدرجة التي يصير قادراً معها على استحضار انفعاله في أيَّة لحظة، بعد إذ صار يحيا مُنفعلاً أبداً، وصارت آلام الحياة وهموم مسؤوليته حاضرة أبداً؛ فيصيرُ ببذل نفسه على مذبح الهم قادراً على استحضار الشعور اللازم للكتابة متى شاء.
وهذا لعمري شاق شديد المشقة؛ فهذه ليست بمرتبة يتيسر تناولها لكل أحد، ولا يتأتى للقلَّة ذلك إلا على حساب الصحة النفسية والبدنية. وهذا أقسى كثيراً من الكتابة بأثر الشعور الجارف العابر، الذي يكتسحك بغير انتظار ولا ترتيب ولا استدعاء. بيد أن مقدرتك على استحضار الشعور الذي تُريد الكتابة بوحيه لا تجعل كتابتك تنتظم فحسب، بل تجعلك تمتلك أداة الكتابة؛ فتظل تكتب بوحي من ضميرك وبأثر من قلبك، لكنك تكتب وقتما تشاء أنت، لا وقتما تشاء الحوادث؛ فقد صرت شريكاً للماجريات البرانية في إنفاذ المشيئة الإلهية في نفسك وفي الوجود، ولهذا ثمن جد باهظ. ولن يكون استفزاز روحك لتنطِق بما أراد الله لها أن تنطق مثل النُطق يأتيك أرسالاً بغير جهد. وهذا هو الفارق بين الموهبة والاحتراف؛ فإن الموهوب يكتُب جيداً بوحي عابِر، أما المحترِف فيعرِف كيف يصقل الموهبة، ويتحكم فيها، ويسوقها طائعة إلى مراده. وإذا كان الأول يكتُب لأسباب شتى، فإن الثاني مكلوم يكتُب لينفث أولاً، وأكثر قرائه مُتفرجون على هذا المونولوج الطويل، مُشفقون من آلامه. وحدهم من تطعنهم العبارات، فتُزحزحهم عن ركود أذهانهم وخمود قلوبهم؛ هم الفائزون.
——————-
(1) قد بيَّنا بعض ألوان الكتابة، وما نعتقده فيها ونذهب إليه في كيفياتها وآثارها، وذلك في مقدمتي كتابينا: “أفكار خارج القفص”، و”تأملات مسلم”، الصادرة عن تنوير للنشر والإعلام، بالقاهرة.