شاركها
أولا- انفتاح النص والتحريك التخييلي لأحجار التاريخ.
رواية كافي ريش لمحمد فتيلينه، نص من النمط التاريخي الخاص بذاكرة المدن، لكنها ليست ذاكرة الأنا الساردة، بل ذاكرة الآخر، وبالتحديد ذاكرة الأقدام السوداء التي هي أيضاً من أبناء مدينة وهران، وحكاية جرحها تنطلق من كون هذه المدينة هي أم لهم، تربوا بين أحيائها، وعاشروا أناسها، ولم يتصورروا يوماً أنهم يسنفصلون عن صدرها، لكنهم انفصلوا في منعرج تاريخي دام، كرسته فرنسا الاستعمار، ودفعه ثمنه كل من ولد على هذه الأرض المستعمرة، وكان لا بد للحظة اجتثاث الورم الاستيطاني، من أن تترك جرحاً غائراً في ذاكرة مدينة وهران، جرج كان أعمق فصل فيه هو ذلك المسمى مقهى كافي ريش واجهة بولفارر سوغان. الذي كان شاهداً على أعنف قصة اجثتاث مميت لورم لما تشفى ذاكرته بعد، لدى أبناء المدينه من جزائريين وأقدتم سوداء.
يقدم لنا محمد فتيلينه نصاً مفتوحاً، تنطق نصوصه الغائبة، وبياضه، وفراغاته، وأنساقه المضمرة، بأكثر مما تنطق به كلماته المخطوطة. وهذا الانفتاح للبياض على السواد، وللغائب على الحاضر، هو ما جعل الاختلاف الدلالي الحاصل في نص رواية كافي ريش لمحمد فتيلينة، يهيمن على مدلولاته، وربما المعاني المضادة لكل كلمة كانت أغزر من تلك الكلمة التي رسمها الكاتب أمام قارئه لتقول المعنى وخلافه. وهذه الحركة هي التي سميناها في العنوان بتقويض المركزيات، مركزية المعنى القاموسي المباشر للكملة، والدلالة الحرفية الأولى لها، كي تصبح شعرية الخطاب هنا تحوز كل ما لم يقله النص في كلماته الخطية، التي يواجه بها القارئ، ويتكفل أسلوب السرد، في ذلك الخطاب بتعديد زوايا النظر، ومراكز التخاطب، تمهيداً لتقويض ومحو كلي لمركزيات السرد وبنياته المألوفة. التي لم يبنها الكاتب-حسب هذه القراءة المتواضعة- إلا ليرينا كيف تنهدم ذاتياً، حين يقوم بأنسنتها فلا ينجو من جراحات النص المميتة لا الشخصيات التمثيلية، ولا التاريخ المتخيل، ولا بنيات السرد نفسها التي لا تصمد بدورها، لأن فضاءات الزمن والمكان والأحداث، قد تأنسنت، ومن هنا صار من المستحيل عليها أن تنجو من عدوى تداعيات استئصال الورم الاستيطاني المميت. أو ان تقاوم الهزات الارتدادية لزلزال 1962، الذي يعتبر أكثر من عام للاستقال، كان عاماً لأشد جراحات التاريخ نزفاً كما لم يذكره التاريخ الرسمي. وفي هذه الرواية تشهد وهران ومقهاها التاريخي كافي ريش على فصل من أهم فصول عنف التاريخ وذاكرته الاستئصالية الدامية.
ثانياً– النص المتعدد البدايات.
لعل أول تشتيت لمركزية الخطاب، يواجهه القارئ، هو عدم إيجاد بداية واحدة للرواية، بل سيدرك للوهلة الأولى أنه أمام نص متعدد البدايات، وكأن الكاتب يعلن عن استراتيجية التعدد واللامركزية النصية منذ افتتاحية الفصل الأول الذي عنوانه بـ: (كافي ريش).
كافي ريش رواية مكان بامتياز، لكنه مكان في الذاكرة والإحساس والروح أكثر منه معلماً حضارياً وتاريخياً من معالم مدينة وهران.
– أولى بدايات هذا النص هي البداية سيرية، التي تجعل من الرواية حكاية لمذكرات بطلتها: “غزلان ريفيرا”، عجوز يهودية ستينية، من الأقدام السوداء التي سكنت الحي الأوربي من مدينة وهران، وتخرجت من ثانويتها، في سنوات مراهقتها، وعشقت رجلين سلمتهما جسدها بالتداول، أولهما العربي الشريف (أول زبون افتتح مقهى كافي ريش عند تدشينه)، جمع بينه وبين البطلة غزلان موعد عشقي واحد على شاطئ الواجهة البحرية، أما عشيقها الثاني، فهو: طيار من سلاح الجو الفرنسي يدعى (جون طاسو)، خطيبها الذي داوم صحبتها في الأسبوعين الأخيرين قبل رحيل الأقدام السوداء من وهرن، وهو ابن غريغوريس طاسو (يوناني الأصل، وهو أول مالك لمقهى كافي ريش- الذي تحول إلى بعد الاستقلال إلى مقهى تيمقاد) في الحي الأوربي، وتحديداً في واجهة الشارع الشهير بـ: بولفار سوغان.
تتراوح الرواية ذات الـ 237، صفحة، بين لحظتي تسلم العجوز اليهودية الستينية: غزلان قلما من نادل مقهى كافي ريش، ولحطة إرجاعها القلم للنادل، ولم تكن الرواية -بشقيها المتواترين بين لحظتي استذكارها لماضي مراهقة غزلان، قبل رحيلها إلى مرسيليا، ولحظة عودتها لتصف حاضرها الذي عادت فيه إلى وهران ومقهاها بعد خمسين سنة، لتحتفل مع زواره الأوائل من الأقدام السوداء بعيد ميلاده الخمسين، (في جوان 2018)، إلا لحظتين زمنيتين ستجاذبان فصول الرواية في مذكرة غزلان ريفيرا التي كتبتها بكل حنين عند عودتها في لحظة السرد (2018) إلى مقهى الطفولة والذاكرة والحرب والحب والجراح والأفراح التي ملأت بها هذا النص.
– أما البداية الثانية فهي صورة مزلزلة لهاجس اللاتسامح بين الفرنسيين والجزائريين، ممثلة في جنون الارتباك الكابوسي وإحساس اللاأمان الذي عاشه أهالي مدينة وهران بأسرها بما فيهم الأقدام السوداء في أسبوعيها الأخيرين قبل خروجهم المأساوي من وهران، وصورة اللاأمان التي سكنت المنظمة السرية الإرهابية (oas)، التي راحت تدافع عن الفرنسيين المروعين من الانتقام الجزائري، الذي قابلته هذه المنظمة الإرهابية بانتقام مضاد، بروح الثأر، والتطرف الهستيري والقتل العشوائي الذي لم تنج منه حتى الفئات المستضعفة من النساء والأطفال، ومن بينهم، “شيماء”، تلك الطالبة الشاعرة، والصديقة الوحيدة للبطلة غزلان التي قتلتها المنظمة السرية الإرهابية أمام أعين غزلان، وخطيبها جون طاسو. وبقي هذا الإحساس وهاجس اللاأمان يسكن غزلان وبقية المدعوين للاحتفال بعيد الميلاد ال50 للمقهى من الأقدام السوداء في جوان 2018.
وفي لحظة الاختفال هذه تجمع حشد من شباب المدينة أمام المقهى في تلك اللحظة وراحوا يصيحون: “مازالهم الكولون هنا؟ يخي خرجتوا؟ واش جابكم؟ … تجمع الناس سريعاً بالخارج، وبدأت الحركة وعج الشارع بالشباب، تغير جو المقهى خارجاً وراقب الكل ما الذي يجري، من جديد لم يتوقف صوت الشاب عن الصياح: هذه تيمقاد أرض الأحرار الأمازيغ، ماشي ريش بلاد النصارى” (الرواية ص36). وكانت بداية مثل هذه كفيلة باستمرار هاجر اللاتسامح واللاأمان بين الجزائري والفرنسي حتى في الألفينيات، بعد نهاية جيل وولادة جيل آخر، إلا أن الثابت الوحيد هو الشقاق والتنابذ، واللاتسامح الذي زرع التوتر في كل أرجاء الرواية/ المدينة، سواء في الفصول التي تروي الماضي الاستعماري مدينة وهران، أو تلك التي تروي فيها غزلان عودتها في العصر الحالي (2018).
– أما البداية الثالثة: فهي بداية فضائية بامتياز، مسح فيها الروائي معالم وهران كما فعل الطاهر وطار في رواية “اللاز”، حين قدم مسحاً شاملاً لمدينة قسنطينة، التي كانت الرواية الأبرز بين روايات المكان، إلى أن كتبت هذه الرواية (كافي ريش) لتنافس رواية الزلزال في نمط سردي يعنى بالمسح الفني للمدن يدعى (رواية تاريخ المدائن)، لكن بمدينة أخرى هي: وهران التي حاورها الروائي كإنسان قبل أن يحاورها كمكان ومعالم وحضارة وذاكرة، وتاريخ ماض وحاضر. وذهنيات متعددة تعدد الجنسيات التي مرت بوهران. إنها رواية متعددة فعلاً، شبيهة في تعدد زواياها ورؤاها بمقام سنتا كروز التي يمكن رؤيتها بأكثر من شكل في أكثر من زاوية وعبر الاتجاهات الأربعة للمدينة.
هذا هو التعدد والتنوع الذي قوض مركزية الخطاب، حين أدخل الروائي جميع الخطابات والذهنيات من أشدها تسامحاً إلى أشدها عنصرية وتطرفاً في حوارية شاملة وتعددية للأصوات (une polyphonie)، ساهمت في صنع بعدها الدرامي لصراع تياراتها وذهنياتها، وعنف خطاباتها، بصنع جو من اللاأمان، وزرع هاجس الزلزال والتردد والتوتر الذي خاطبتنا به بطلة الراوية غزلان ريفيرا، وهي تخط على دفتر مذكراتها أعمق اللحظات عن تاريخها الذي رفضها قبل خمسين سنة كابنة للأقدام السوداء والكولون، والذي عادت إليه ليرفضها من جديد. كمدعوة للاحتفال بخمسينية مقهى حياتها، الذي لم يتسامح معها لا في طفولتها ولا في شبابها ولا في شيخوختها. وهي عائدة إليه بحنين العاشق المتسامح المنبوذ.
ثالثاً- البنية التوترية للشخصيات.
تأثراً بمناخ اللاتسامح، وفقدان الأمان، الذي سبق رحيل الأقدام السوداء من وهران في أواخر 1962، تلونت الرواية بلون التوتر الذي صبغ فضاءاتها وعبرت عنه شخصياتها: “الحقيقة أن وهران تعيش أتعس أيامها، لا مارّة، لا أمان، ولا مقاهي مفتوحة، الشرطة والجيش في كل الأحياء، الحي الأوربي أكثر الأحياء، حماية وعدداً، من الجنود الفرنسيي.” (ص52)، ولعل أفضل طريقة ابتكرها الروائي للتعريف بشخصياته، كان عن طريق تعرية شعورها، حين أدخلنا إلى بواطن شخصياته من بوابة عاجس التوتر قبيل صدمة ترحيل الأقدام السوداء.
*- الشخصية الرئيسية: غزلان ريبيراً (بطلة الرواية والساردة الأولى لأحداثها).
وهي شخصية ثلاثية الارتباط: جعلتها هذه العلاقة؛ تعيش وعياً شقياً، يربط مصيرها -كإحدى بنات الأقدام السوداء- بمصير الاستعمار وجرائمه، ومن هنا جاء هاجس اللااستقرار الأول في حياتها، الذي هو:
– علاقتها بهوية وطن أصلي (هو فرنسا) لم تعرفه، ولم تنسجم معه كجزائرية المولد وهرانية الهوى والهواء.
– والعلاقة الثانية التي تعذبها هي ارتباطها بأرض مولدها، باعتبارها إحدى بنات الجزائر وعاشقة لمدينة وهران التي تربت فيها، لكن لسوء حظها ولدت في الحي الأوربي وليس في الأحياء العربية التي عشقتها وكونت فيها أهم صداقاتها (صديقة الروح شيماء التي قتلت أمام عينيها برصاص المنظمة الخاصة)، فأضحت بطلة الرواية (غزلان ريبيرا) ممزقة بين وطن ولدت فيه وعشقت أرضة وهواءه، وبين أصول فرنسية تلزمها بمصير الاقتلاع الوشيك من هذه الأرض والالتحاق بوطن أجدادها (فرنسا) الذي لم تعرفه يوماً، فبقيت معلقة بين مصيرين مأساويين لا يرحمان، ضعفها تجاه من تحب من وطن وأناس وطبيعة.
– بينما علاقتها الثالثة الأكثر مأساوية، هي تلك التي تجمعها بخطيبها جون طاسو، ابن غريغوريس طاسو، صاحب مقهى كافي ريش. هذا الطيار، اليميني المتطرف الحقود على كل ما هو جزائري، والذي تعد أزهى لحظات عمره هي تلك التي يصب فيها ذخيرته الحربية على رؤوس القرويين في المناطق الوعرة، لكنه وهو يحلق لا يفكر إلا في غزلان ومواعيده معها التي يحكي لها فيها عن سماء وهران من الأعلى التي تؤجج نيران عشقها للمدينة، ويجعلها ترى من خلال عينيه سماء وهران وفضاءاتها العليا. فضلاً عن أنه يشعرها بالأمان كأحد حماتها الذين تستأنس بهم من هواجس القتل التي باتت تطارد كل قدم سوداء في ليالي وهران الكابوسية.
*- الشخصية الثانوية الأولى: غريغوريس طاسو:
وهو المالك الأول لمقهى كافي ريش، ينحدر من أصول يونانية، أحد قادة المنظمة السرية (oas)، وهو قائد كتيبة سابق في الجيش الفرنسي، يعمل تحت جناح الجمهورية الخامسة المعادية لسياسة ديغول، والمناهضة لخروج فرنسا من الجزائر، يشتهر غريغوريس طاسو بتطرفه وعدائه لكل ما هو جزائري، وقد زرع هذا التطرف العرقي ضد الجزائريين في ابنه المزعوم (الطيار جون طاسو).
يشتهر غريغوريس بشبقه الكبير وتهتكه وملازمته لبيت الذئبة (حانة وبيت دعارة تمتكها أخته). وبتنفيذه لعدة اغتيالات باسم المنظمة السرية.
وغريغوريس طاسو هو الأب الحقيقي لنادل مقهى كافي ريش (عبد الحي، الذي أنجبه من فتاة جزائرية قاصر(16 سنة) تدعى “نجمة”، التي تخلص منها بإرسالها إلى فرنسا بوثائق مزيفة، واحتفظ بالولد عبد الحي الذي نشأ وبقي نادلاً في مقهى كافي ريش)، كما أن غريغوريس هو أيضاً الوالد المزيف لجون طاسو (خطيب بطلة الرواية: “غزلان”)، والحقيقة أن جون طاسو هذا، هو ابن غير شرعي لأخت غريغوريس طاسو التي تدعى “إيزابيل” “صاحبة دار الدعارة المسماة: “بيت الذئبة” أنجبته في نزوة عابرة من رجل عربي قتله غريغوريس وتبنى الطفل جون ومنحه لقب العائلة، باعتباره ابناً له.
وغريغوريس طاسو شخصية كثيرة العلاقات ومتناقضة الطباع. وهي ثلاثية العلاقات أيضاً.
– العلاقة الأولى هي ارتباطه التاريخي بالجيش الفرنسي، كقائد كتيبة في جيش نابليون، في الحرب العالمية الثانية، وعلاقته بالمنظمة السرية (oas) باعتباره أحد أهم متزعميها، ما يعني من جهة ثانية، أن له علاقة معادية لسياسة بنابليون، باعتبار طاسو أحد أتباع الجمهورية الخامسة، وعلاقة ثالثة تربطه بالمخابرات الفرنسية التي يأخذ منها راتبه الشهري باعتباره أحد عملائها الميدانيين. أما ملكيته لمقهى كافي ريش فهي مجرد واجهة مدنية يخفي بها تاريخ الأسود الذي لا ينتهي من الجرائم الانتقامية التي راح ضحيتها جزائريون وفرنسيون، تمت على يديه، بحقد شوفيني.
*- الشخصية الثانوية الثانية: جون طاسو
وهو الشخصية الأكثر إشكالية وزرعاً للتوتر والبلبلة من بين جميع الشخصيات، رغم كونه شخصية ثانوية، فهو الطيار الحربي خطيب البطلة غزلان، والابن المزعوم لأحد قادة المنظمة السرية (oas) (غريغوريس طاسو ذو الأصول اليونانية، والمالك الأول لمقهى كافي ريش).(الشخصية السابقة).
من حيث الأصول: (وكما أسلفنا) جون طاسو ليس ابن غريغوريس صاحب مقهى كافي ريش كما يروج له هذا الأخير، وكما يعتقد كل الناس في المجتمع الروائي، بل في حقيقة الأمر لا يعرف أصوله الحقيقية إلا ثلاثة شخصيات (غريغوريس طاسو الذي زور له شهادات على أنه ابنه، بينما هو خاله لأن الطفل جون ابن إيزابيل طاسو، وهي شقيقة غريغوريس صاحب المقهى، وهي صاحبة حانة ودار الدعارة التي تسمى “بيت الذئبة”. وثالثة الشخصيات التي تعرف هذه الحقيقة هي: وفاطة العاملة في بيت الذئبة). حيث حبلت إيزابيل طاسو من رجل عربي، في شبابها، سرعان ما قتله أخوها غريغوريس طاسو، ولما أنجبت هذا الولد “جون طاسو”، تبناه خاله غريغوريس طاسو وأخبره أن أمه قد ماتت، وهكذا كبر في أعين الجميع على أنه ابن صاحب مقهى كافي ريش وحمل لقب العائلة.
من حيث درجة الوعي: يمكننا وصف شخصية الطيار “جون طاسو” بأنه صاحب الوعي المستحيل، والذي ورث إيديويوجية فرنسا العظمى التي لا تقهر، وتطرف شوفيني من أبيه المزعوم السفاح غريغوريس طاسو، وقد عوقب الفتى جون طاسو عدة مرات من طرف قيادة الجيش، وتم تهديده بطرده من الخدمة العسكرية، بسبب تطرفه في الحقد على الأهالي، وكذا عملياته الانتقامية ضد كل ما هو جزائري من سكان المداشر الذين كان يزهق أرواحهم بشحنات قنابل لم يؤمر بإطلاقها، بل كان يفعل ذلك خفية عن قيادته، حتى في تحليقاته التدريبية والاستطلاعية التي، يمنع فيها شحن الطائرات بالقنابل، كون مهمته استطلاعية بحته، لكنه كان يملأ خزان القنابل ويستمتع بمشاهدتها تحرق كل ما على الأرض من شجر وحيوانات وبشر: “سمع وقع قنابله وهي تسقط على كل تلة، ومعها يشفى غليله، تراءت له بالونات أرضية من غبار، تتشكل من أسفله، كأنها حبات فطر، تنبت في كل مكان من الجهة الغربية، تتبدى البيوت بعضها قرميدية بخرج منها أفراد لا يكاد يعرف جنسهم، غير بعيد عن تلك الكائنات، التي تمشي… تخيلها لفلاح يسوق دابتين، كأنهما تجران محراثاً يشق بصعوبة أرض الحقل” (الرواية، ص40)، وهو بدوره شخصية ثلاثية العلاقات.
– علاقته الأولى، كانت جوية يعلو تربطه بسماء وهران، التي عاش في أجوائها روح الكبرياء والتجبر الذي تمنحه إيها قوة وسرعة الطائرة الحربية، التي تجعله كعنصر في الجيش الفرنسي الجبار فوق كل ما يدب على الأرض، وألهمته طلعاته الجوية معنويات عالية وصلت به حد عدم الإيمان بقرب رحيل فرنسا وجيوشها وأبنائها عن هذا البلد، حتى قبيل أسبوع من الرحيل الوشيك، كان يهاجم كل من يذكر في حضرته أن فكرة الجزائر فرنسية قد انتهت صلاحيتها. إنه ببساطة آخر حاملي وهم البقاء من أبناء الأقدام السوداء المهدد بالجنون الوشيك جراء شقاء وعيه المتزايد أكثر من شقاء خطيبته غزلان ريبيرا التي كان يعرف في عيونها بأن جرعات الأمل ببقاء الأقدام السوداء وملكياتهم في الجزائر ووهران التي كان يحقنها بها في جلسات مواعيدهما بمقهى كافي ريش، قد أضحت عقارا فاقداً للفعالية.
– أما علاقته الثانية؛ فكانت بالبطلة غزلان ريبيرا، التي لم تعد ترى وجودها في الجزائر إلا من خلال جلساتها معه وتأملها لحكاياته عن الخلود في وهران، وزواجهما فيها، (وهو الوعي المستحيل الذي يغزو مخيته التي يغذيها حبه الجنوني لنابليون والجيش الفرنسي، وحقده الجنوني على كل ما هو جزائري يهدد فكرة خلود الأقدام السوداء على هذه الأرض).
لكن مع كل يوم ينقضي من الأسبوعين الأخيرين المتبقيين لفرنسا وأينائها في الجزائر، كانت نظرة خطيبته غزلان تحول إلى العكس، فبعدما كان مصدر أمان يؤنسها بإمكانية البقاء الأبدي في وهران، باتت ترى في عينيه من يوم لآخر، سرحاناً وسحباً وضبابية الخوف والرعب واللااستقرار، فصار خطيبها عاملاً إضافياً لبث الذعر في نفسها الهشة، فحين تغشى سحب المصير المجهول عيني الرجل العسكري، فهذا لا يعني لهى سوى شيئاً واحداً أن طوق الأمان الذي كان يحميها قد انفلت، وأن العالم الآمن لهم (كأقدام سوداء) في وهران والجزائر، قد استحال إلى كابوس رعب، وأن أيامهم فيها باتت معدودة. فأضحت الشخصيتان تغذيان بعضهما بالطاقة سالبة لكل أمل في البقاء، وتزرع بينهما التوتر وفقدان الأمل، وتبث في مواعيدهما رائحة الرحيل الكريهة.
– وعلاقته الثالثة، كانت بفضاء مقهى كافي ريش، مقهى أبيه المزعوم غريغوريس، أول مالك لهذا المقهى الذي سيتحول بعد الاستقلال إلى مقهى تيمقاد.
إنها علاقة طفل وهراني/ عسكري فرنسي/ طيار مراهق/ وابن للأقدام السوداء، صورة طبق الأصل لأبيه في التطرف والعنصرية وحب الوطن وكره الجزائر وأهل وهران الأصليين، لكنها في النهاية علاقة حزينة ومأساوية بهذا المقهى (مقهى العائلة والأسرة والأب) أو بالأحرى فردوسه المفقود، الذي يتمسك به تمسك الطفل بصدر أمه، لكنه للأسف فردوس مهدد بالزوال، وصدر سيفقد بعد أيام إلى الأبد، حيث كان يزوره كل مرة، ويعقد فيه جميع مواعيده مع خطيبته غزلان، ويمرر يديه على حواف الكراسي والطاولات، في كل مرة كأنها آخر زيارة له، قبل أن يستولي عليه الجزائريون، وهذا سبب آخر للحقد عليهم: “أخذ كرسيه في الساحة الكبيرة، مستظلا بسقف من الزنك، بينما آنسه مذاق القهوة، عندما فتح ترموساً صغيرة، قام بتحضيرها أحد نادلي [كافي ريش] لا يتملكه أي شعور غريب، سوى التفكير في أمر طلعات الأصدقاء، أو محاولة التفكير في مصير هذه القاعدة بعد الخروج من الجزائر” (الرواية ص 57). إن علاقة جون طاسو بمقهى كافي ريش على الرغم من حميميتها وقداستها لديه، إلا أنها أضحت بعد تنامي هاجس فقدان هذا الفردوس، علاقة مدمرة لكيانه ومزلزلة لنفسيته ومصدر بث رئيسي للتوتر في نفسه، شبيه إلى حد كبير بهاجس البطل الشكسبيري “هاملت”، الذي فقد الأب والمملكة ويحيا على هاجس فقدان الأم الذي حوله توتره المرضي إلى مجنون، وقاتل وطالب الثأر. وكلها صفات متسلطة على شخصية “جون طاسو”. صاحب الوعي المستحيل، كما وصفناه من قبل.
*-الشخصية الثانوية الثالثة: “جيرار دوسوار”
صحفي جريدة لوموند الفرنسية، صديق لعائلة طاسو، وللبطلة غزلان ريبيرا، محقق صحفي في الأزمات والحروب في عدة بلدان، منذ الحرب العالمية الثانية وكانت آخر تلك البلدان التي اشتغل بها مدينة وهران، صديق سلاح في الحرب العالمية الثانية لغريغوريس طاسو، له علاقات عنكبوتية ووثيقة بالمخابرات الفرنسية وبقادة المنظمة السرية (oas)، تمنحه الريادة في السبق الصحفي الذي جعل منه نجماً للصحافة المكتوبة. كما يعتبر علبة سوداء لتاريخ فرنسا في مستعمراتها.
*-الشخصية الثانوية الرابعة: عبد الحي طاسو (نادل مقهى كافي ريش قبل وبعد الاستقلال).
ويعتبر إحدى الشخصيات المفتاحية في الرواية كونه الكائن الهجين بين الأقدام السوداء والعرب، وهو نطفة قذفها غريغوريس طاسو صاحب مقهى كافي ريش في رحم صديقته المفضلة نجمة صاحبة ال 16 سنة، وهي إحدى نزيلات بيت الذئبة التي استخلصتها له اخته إيزابيل. وحين أنجبت ولدها (عبد الحي) من غريغوريس طاسو، قام هذا الخير بترحيلها لفرنسا لتشتغل عند أهله، كي يغيب خبرها وخبر إنجابها لابنه عبد الحي الدي لم يكن يشرفه أن يكون من سله ولدا عربياً، وبعد ترحيل الأم العازبة الشابة (نجمة)، أرسل ابنه الرضيع عبد الحي للكنيسة ليتعهده الأب فيليب في كنيسة سنتا كروز. وينشأ الطفل تحت أنظار غريغوريس ليلحقه به في المقهى دون أن يعترف له بأبوته.
ليصبح عبد الحي ذاكرة متنقلة لوهران ويرث المقهى بعد رحيل الأقدام السوداء، ويكتشف أن أباه هو صاحب المقهى، ويكتب مذكراته بعد الاستقلال، ويسلمها للبطلة غزلان ريبيرا، التي جاءت رفقة قائمة من المدعوين إقامة حفلة عيد الميلاد الخمسين لمقهى كافي ريش في 2018. التي تسلمت المذكرات بدورها، لصديقها الصحفي جيرار مراسل جريدة لوموند الفرنسية ليستكمل بها كتابته لسيرة صديقه ورفيقه في السلم والحرب غريغوريس طاسو.
وبين هذه الشخصيات الأربع (غزلان/ جون طاسو/ غريغوريس طاسو/ جون)، التي تنتمي جميعها لفئة الأقدام السوداء، ينسج أهم التفاصيل التاريخية عن طريق الاستذكار، أي إن الرواية تروى من داخل ذاكرة هذه الشخصيات، وليس من أحداث خارجية بشكل مباشر، وهو ما جعلها رواية تاريخية من نمط، (روايات الشخصيات، لا روايات الأحداث).
رابعاً – نموذج عن العبارات المفتاحية لمداخل النص.
يفترض في أي باحث أن يتلمس مفاتيح النص، التي يلج بها بوابات التأويل التي تمكنه من تجاوز المستوى السطحي المباشر للخطاب في مستواه المعجمي والتركيبي. وأثناء بحثنا عن أحد هذه المفاتيح وجدنا بأن استراتيجية السرد في هذه الرواية، تقوم على تقنية البؤر الخطابية، التي سميناها المفاتيح، أو بكلمة واحدة البؤر المفاتيح. حيث يتم التركيز في خطابات الشخصيات، على كلمات بعينها، فيجعل منها هذا التبئير، كلمات مفاتيح تتخذ صفة المدخل أو المجاز إلى ماورائيات الدال الخطابي، وقد نعثر على أطرافها ومؤشراتها بين ثنايا هذا النص المعتمد على مالا يقال أكثر من اعتماده على المقول.
ولعل الكلمة الأبرز في سائر الخطاب هي العودة من حيث أتيت/أو المكان الذي أتيت منه).
هي كلمة تحمل من الهواجس بالنسبة للأقدام السوداء (الطبقة التي تنتمي إليها سائر الشخصيات الرئيسية والثانوية في النص)، إذ يكفي التفوه بها أو سماعها على زرع بركان التوتر الذي لا ينقشع أبدا على كافة فضاءات النص وشخصياته وأحداثه. وشيئاً فشيئاً تأخذ هذه الكلمة المنبوذة، أو الكلمة الهاجس تحولات عدة في نفوس الشخصيات وفي الدلالة النصية، وفي نفس الكاتب أيضاً كما سنكتشف لاحقاً.
– فأول تحول تضفيه هذه العبارة على أجواء الرواية هو حين تدب في نفوس الشخصيات (الأقدام السوداء)، وهم يلاحظون انهيار معنوياتهم، وازدياد الاعتداءات عليهم وعلى ممتلكاتهم، من طرف الجزائريين، الذين تأكدوا من عودة البلد إلى أهلها، بعد خطاب ديغول الذي يقول لهم فيها (فهمتكم) مانحاً أول إشارة للرحيل من الجزائر، وبعد ازدياد شراسة انتقام المنظمة السرية من الأهالي بعد يأسها تأكد يأسها من البقاء. فصارت كلمة العودة من حيث أتينا كابوساً يطارد جميع الشخصيات، تخفيه تارة وتبديه تارة أخرى حين يشتد بينها النقاش.
– والتحول الثاني لهذا العبارة المفتاحية، هو تحولها من كابوس إلى شتيمة بذئية تشتم بها الشخصيات (الأقدام السوداء بعضها)، وهذا ما نقف عليه بوضوح في هذا الحوار بين غريغوريس طاسو (مالك كافي ريش) والسيد جيرار، المحقق الصحفي بجريدة لوموند، في هذا المشهد:
[فاجأ سائق سيارة 403 طاسو بإطلاق بوقه المزعج، بينما يعبر شارع سوغان رفقة جيرار، لكنه لم يتمالك نفسه وهو يرد على السائق الشاب، وقد غادر بسرعة فائقة:
-يا ابن العاهرة، لو أمسك سوف أعيدك من حيث أتيت.
– من حيث أتى؟ (سأل جيرار طاسو).
– هو المكان الذي أتيت منه أنت وأنا وكل إنسان، الرحم الأزلية التي من أجلها نتعارك أيها الصحفي الأحمق.
لم يجب جيرار صديقه.. لأنه يعرف وقاحته، الوقاحة التي شجعته على سؤاله وقد مرت بالقرب منهما نادية بالميني جيب.
-ما سر ترددك على الدائم على “بيت الذئبة” أيها الشبق؟ ألا تشبع من المكان الأزلي الذي جئت منه؟
– أشبع؟؟ أتعرف لو رأيتك هناك، لكنت مقبرة لنزواتي أيها الصحفي البائس.
– أنا متأكد (التفت جيرار) أن بعض هؤلاء من حصاد نزواتك.
– (قهقه طاسو مجيباً) تقصد نادية مثلاً؟
– (رد جيرار) أنا على يقين أن تفكر في الخلاص من كافي ريش، بل من وهران. لن تنفعك المنظمة الخاصة، سنعود كما قلت (من حيث أتينا) لكن نقطة بدايتنا ليست إلا باريس ياصديقي] (الرواية: ص113-114).
وبعد تلاقي دلالتي عبارة (العودة من حيث أتيت) بين (الكابوس/ والشتيمة البذيئة المشيرة إلى فرج المرأة). يولد معنى ثالث للعبارة هو أن عودة الكابوس والعودة إلى الفرج الذي ولد منه الإنسان، ليسا سوى إشارة ذكية لفرنسا التي جاءت منها كل المآسي المرتبطة بأولئك الذين حان موعد عودتهم، من حيث أتوا.
وإن كانت الدلالتان الأولتان للعبارة (الكابوس/الفرج) خاصتين بالخطاب السردي المتداول بين الشخصيات، فإن الدلالة الثالثة (العودة إلى فرنسا)، هي دلالة استنتاجية خاصة بالكاتب نفسه، الذي فضل أن يضعها في آخر الكلام كنتيجة حتمية لمصير جميع شخصياته التي جعلها محورية في السرد. كي يعيدها من حيث أتت بذكاء سردي، لا نفهمه من الخطاب المعلن بل من خطاب نبهنا إليه ترتيب العبارات في المتن. حيث كانت الإشارة إلى فرنسا هي منتهى العودة إلى الأصل وتحقق الدلالتين الكابوس والرحم معاً. وهي الحقيقة التي تنتهي إليها أحداث الرواية حرفياً.
خامساً- انفتاح النص من التصوير السردي إلى التصوير المشهدي.
تنتهي رواية كافي ريش بنهاية تخرج من فن الرواية، إلى فن السينما، إذ بعد 2018، وعودة البطلة غزلان من رحلتها القصية إلى وهران وكافي ريش، وبعد أن يموت جون طاسو، ويموت جيرار الصحفي في جريدة لوموند، وترث عنه صديقته الوحيدة البطلة غزلان ريبيرا خزانة توثيقية هائلة تتحدث عن أسرار جميع الشخصيات الروائية وتاريخهم غير المعلن في وهران المستعمرة، تقترح غزلان أن تحول تلك الشخصيات وأدوارها إلى سيناريو فيلم يحكي عن تاريخ وهران، وطوائف الأمم التي مرت بها، ثم تشرع البطلة غزلان في تقديم الشخصيات للمخرج، ولم يكن هذا السيناريو الجاهز، سوى رواية كافي ريش نفسها، والتي أرى فيها رواية قابلة للأفلمة، بل هي أقرب للسيناريو منها إلى رواية، (مكتوبة برؤية سييناريستية بنسبة تفوق ال70%)، كونها مقسمة إلى مشاهد، قصيرة، وحوارات تكثر فيها المشاهد الحسية والحركة أكثر من اللوحات والصور الخطابية السردية. ولو انتبه أهل ميدان السمعي البصري لهذا النص، لتحول في وقت وجيز جداً لفيلم سينمائي تاريخي يلامس روح وهران وذاكرة تاريخها المنفتح حضارياً على العالم والعالمية. باعتبارها ملتقى ومفترق طرق حضارات عدة تركت آثارها الأدبدية على المكان والثقافة والإنسان في هذه المدينة العالمية التي لم يكن مسحها الفني من طرف الروائي محمد فتيلينه أقل صنعة ممن صنوعا تاريخ هذه المدينة من فنانين. في جميع المجالات. فهل يلقى خطاب البطلة غزلان رييبرا في أفلمة هذه الرواية، صدى لدى أهل الدراما والسينما ليلحقوا هذا النص بنظرائه من نصوص ذاكرة المدائن والحضارات التي استمرت حية فنياً بفضل تحويلها من النص إلى شتى فنون المشاهدة، خاصة وانه نص يملك كل المؤهلات الفنية نحو هذا التجسيد المنتظر. باعتباره نصاً منفتحاً أيضاً على عدة فنون آخرى، كما يشيرر عنوان هذا المقال