يعد عبد الإله بن عرفة أحد أهم الروائيين المغاربة الذين حققوا تراكما مهما منذ بداية الألفية الجديدة، فقد ألَّف اثنتي عشرة رواية، وسيصدر الرواية الثالثة عشرة قريبا. عُرف بتأسيسه لتوجه يراه جديدا في الرواية العربية يُسميه بالرواية العرفانية، وذلك باستحضار سيرة مجموعة من العارفين والصوفيين أمثال ابن العربي الحاتمي والششتري والجنيد وابن الخطيب، من خلال توظيف تخييل عرفاني بلغة جزلة تمتح مرجعيتها من الخطاب الصوفي ومن الشعر والمقامات، انطلاقا من اشتغاله على الحروف القرآنية المقطعة التي تبتدئ بها بعض سور القرآن سواء في صيغتها الأحادية أو الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية أو الخماسية.
يرى ابن عرفة أن كتابة الرواية مشروع حضاري ينبّه إلى أن التاريخ ليس مجرد أحداث مضت، ولا مجرد زمن ولى، بل إن ما نعيشه الآن لا ينفصل أبدا عما عاشه أسلافنا، وهنا يستفيد من الزمن العرفاني المستمر في الحال، أو ما يسمى عن أهل الصوفية ب “الوقت”.
سوف نحاول في هذا الحوار الاقتراب من منجز الروائي ابن عرفة بطرح أسئلة نقدية هدفها خلق حوار معرفي مع تجربته الروائية الغنية والمكرّسة في الوطن العربي.
- دعنا نتحدث عن ما قبل الكتابة، كيف تنجز رواياتك؟ هل تعدّ جذاذة وخططا مسبقة أم تعتبر الكتابة سرد أنيّ خاضع لنسق داخلي متحكم في سيرورة الأحداث والتفاصيل؟
شكرًا على إتاحة الفرصة للتداول في اهتمامات وآفاق المشروع الروائي السردي المعروف بالرواية العرفانية، وآفاق الدرس النقدي في هذا المجال الخصب، ومن وراء كل ذلك التهمم بمشروع النهضة الحضاري.
أول ما أقوم به حينما أستعد لكتابة رواية جديدة هو التشبع الروحي بالفاتحة النورانية التي عليها مدار العمل. أعيش معها أياما أَسْتَدِرُّ دلالاتها ومعانيها وتجلياتها في الأنفس والآفاق، ثم أقرأ السورة التي وردت فيها أعيش معها، وأحيانا أفتح تفسيرًا. هذا التحضير الروحي والمعرفي ضروري قبل كتابة الرواية. عادة ما أكون في حالة رصد ويقظة تامة لما يَرِدُ عليَّ من موارد لطيفة ومواجيد أُدوِّنها في دفتر صغير وأتركها هناك حتى أستوعب سياقاتها ومساقطها المختلفة وأسباب تنزلها، وأعود إليها حينما أشرع في كتابة الرواية فتنجلي لي حقائق تفصيلية كانت قد أتتني مجملة في البداية. خلال هذه الفترة تراودني كثيرا الفاتحة النورانية التي سأكتب حولها الرواية، وأبدأ أبني الحكاية انطلاقا من موارد الخيال الخلاق لا الخيال المجاني.
من أين أبدأ؟ أقرأ كثيرا عن المرحلة التي أكتب عنها. أحاول أن أحيط بها من مختلف المناحي. عادة ما أحسم اختيار الشخصية في ارتباطها بالفاتحة النورانية خلال بعض الأوقات التي أكون فيها في أقصى درجات اليقظة الروحية. مثلا حينما أكون ساجدا في الصلاة، أو عند الذكر، أو خلال المشاهد البرزخية، أو في المرائي، أو لدى مطالعة كتاب فارق، وهكذا، بحيث أربط بين عوالمي المختلفة وإدراكاتي المتعددة، ولا أَقْصُرُ عملية الإبداع على إدراك بعينه لأني أنطلق من الوحدة المتكاملة للإنسان بما هو نفخة روحية.
وحين يستقر رأيي على شخصية معينة بعدد من المسوِّغات الجوانية، فإني أقرأ ما تركته من مؤلفات إن كانت من ذوي التأليف، أو أقرأ ما كُتِبَ حولها حتى أستوفي ما ينبغي أن أعرفه من جميع الجوانب. بعد هذا الاستعداد أشرع في كتابة الرواية. عادة ما يكون منطلقي هو الفاتحة النورانية التي هي الشخصية الحقيقية لمجمل العمل. منها أبدأ، ثم أضع الإطار العام الذي تجري فيه الأحداث. هذه بعض الاستعدادات والإرهاصات المصاحبة لي قبل الشروع في كتابة أعمالي.
- كيف تنظر إلى الرواية التاريخية العرفانية اليوم في العالم العربي؟ وهل تتابع مشاريع أخرى من هذا القبيل؟
“الرواية التاريخية العرفانية” كما ذكرت مسمى جديد، ولا أعرف كثيرا ممن يكتب رواية تاريخية عرفانية. هناك من يكتب الرواية التاريخية، وهناك من يكتب الرواية الصوفية، وهي شيء مختلف عن الرواية العرفانية مع أن بينهما نقاط مشتركة. كثير من المبدعين اليوم يتبنون الكتابة العرفانية في عدد من الأنماط الإبداعية في الشعر والسرد والتشكيل والموسيقى والدراسات اللغوية والإنسانية، وهذا أمر جيد ومفيد. حينما شرعت في كتابة هذا النوع من الرواية كنت أوظف المادة التاريخية ثم العرفان معا. فالتاريخ يمدني بالإطار العام الذي أكتب فيه الرواية، والعرفان يجعلني أطرح القضايا التي أراها مرتبطة بالفاتحة النورانية موضوع الرواية من خلال تجربتي الروحية. كتابة المشاريع ليست رائجة ولا شائعة بل نادرة وقليلة جدا، لأنه من الصعب على المبدع أن يلتزم بإطار دقيق يستمر عليه مدة طويلة، بل كل رواية هي نسق خاص، ثم ينتقل إلى نسق آخر مع رواية أخرى. هناك بعض المشاريع التي تلتزم قضية معينة مثل القضية الفلسطينية، أو تلتزم بسلسلة من الروايات تجري أحداثها في أمكنة معينة متجانسة مثل ثلاثية نجيب محفوظ، أو “مدن الملح” لعبد الرحمن المنيف، أو ما كتبه جمال الغيطاني في ثلاثية التجليات، أو رضوى عاشور في ثلاثية غرناطة.
أما في المشروع الفواتحي العرفاني، فإن مدار الأعمال على هذه الفواتح النورانية المقطعة التي هي الشخصيات الحقيقية في أعمالي، بينما الأعلام الذين أشتغل بهم هم تجليات ومظاهر لهذه الفواتح النورانية، وهو مشروع ضخم مقارنة بالمشاريع الثلاثية التي ذكرت أعلاه، لأنه يتضمن أربع عشرة رواية تشغل مجمل التاريخ العربي الإسلامي منذ ظهور الإسلام إلى عصرنا الحالي، كتبتها في فترة زمنية تصل إلى ربع قرن. هذه خصوصية لا مثيل لها، وينبغي تَبيُّن هذه الفروق وعدم تذويبها.
- تجمع الرواية التاريخية العرفانية بين سلطة المرجع ومنطق التخييل. ما هي طريقة تفاعلك مع الوقائع التاريخية داخل الرواية؟ وكيف يمكن ملء البياضات في الرواية دون السقوط في التوجيه الإيديولوجي للتاريخ؟
تعاملي مع المادة التاريخية كشفت عنه غير ما مرة، ولا سيما في البيان المرفق برواية “الحواميم”، حيث أوضحت أن المؤرخ يبني سردية الماضي بناء على النصوص والمادة التاريخية المتوفرة له، لكنه يؤكد أنه غير مسؤول عن هذا الماضي، ولا عن التفسيرات التي يدلي بها عنه لأنه مسكون بقضية الموضوعية التاريخية. إنه يتبرأ من مسؤوليته عما وقع لأنه لم يكون حاضرا في ذلك الماضي حين حدث ما حدث من وقائع. كل ما يكتبه أصبح بالنسبة إليه من الماضي، وهذه الأحداث قد مضت وانقضت، وهو لم يكن حاضرا أثناء وقوعها. بينما في المشروع الذي أكتبه، فقد جعلت من مفهوم “الشهادة بالحضور” مفهوما مركزيا يجعل الأديب العرفاني حاضرا في هذا الماضي لأنه بكل بساطة لا وجود لشيء مضى، بل الأشياء مستمرة في ديمومة الوقوع، ونتائجها ملزمة له ولمجايليه من حوله. إن الأديب يتصور الوقائع والأحداث فيما أسميه “الآن الدائم”. إن ملاحم الماضي وانتكاساته ما زالت تصنع هوية الشعوب وذاكرتها الحية، فتحتفل بالإنجازات، وتطمح أن تثأر للإخفاقات أو تتناساها. هذا موجود ومشاهد من حولنا، ويمكن التحقق منه بشكل مباشر ويومي.
إن الأديب العرفاني بهذا المعنى يدلي بشهادة حضور حول ما جرى لأن نتائج ما جرى مستمرة. بهذا المعنى تختلف الرواية العرفانية عن الرواية التاريخية أيضًا. لا يعني هذا أن التعامل مع التاريخ يجوِّزُ للعرفاني أن يكذب عليه، بل على العكس إن الاشتغال في الرواية العرفانية يوضِّح مدى الاطلاع على ما حدث بكل التفاصيل الحضارية التي يعاد بناء المرحلة التي تدور فيها أحداث الرواية من جديد. وهذا عمل مكلف جدا لأنه يتطلب اطلاعا واسعا ومعرفة دقيقة بالتاريخ الثقافي والحضاري، وبتفاصيل الحياة وقتئذ، والمصادر لا تفي بهذا الغرض لأن التاريخ المتوفر هو غالبا التاريخ السياسي، بينما التاريخ الذي يعاد بناؤه في الرواية هو التاريخ الحضاري بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. فمثلا حينما نقرأ رواية الجنيد، فأول ما يدهش هو شكل مدينة بغداد وحاراتها وأزقتها وأسواقها ومحلاتها وأسوارها التي تم توصيفها بدقة متناهية كما كانت في ذلك الزمان. هذا النوع من التاريخ لا تجده في المصادر بل هو بناء جديد تم الاشتغال به بصرامة علمية كبيرة.
لا يمكننا أن نستدعي التخييل المجاني للقفز على ضرورة هذا التوثيق الحضاري الذي يضع الإطار العام لأحداث الرواية ونوع التخييل المطلوب. في روايات المشروع العرفاني يتم ملء البياضات لا على أساس اعتباطي باستسهال التخييل، بل بمطالعة مخطوطات ونصوص مختلفة أدبية وتاريخية وعلمية والتقاط كل الإشارات وتجميعها، ثم مقابلتها لإعادة بناء الإطار العام لمدينة بغداد أو قرطبة أو غيرها من المدن التي هي مسرح لأحداث الروايات العرفانية. أرجو أن يتم تقدير هذا الجهد الكبير الذي يبذل في عدم الكذب على التاريخ بمجانية.
أما عن قضية التوجيه الإيديولوجي الذي ذكرت، فهذا لا وجود له، لأننا نتصور خطأ أن التاريخ موجود في مكان ما وما علينا إلا أن نذهب ونأخذه من ذلك المكان، بَيْدَ أن الأمر أعقد من هذا بكثير إذ كما ذكرت، فالأديب العرفاني يعيد بناء المرحلة التاريخية باستثمار مختلف الموارد والشوارد التي يلتقطها ويجمعها من مطالعاته المتنوعة والغزيرة، من شطر بيت أو جملة معترضة أو إشارة خفية هنا وهناك، ثم يقابل بينها وبين غيرها من الإشارات فتتكون لديه الصورة العامة شيئًا فشيئًا عن تلك المرحلة، ويظن القارئ حينما يصله هذا المنتوج في الأخير أن الكاتب لم يفعل سوى أن فتح كتب التاريخ ونقل منها المعلومات والوقائع والتوصيفات التي يذكرها. للأسف الشديد هذا ما يحصل في العادة، لكن صورة التاريخ التي عند هذا القارئ هي صورة نمطية وأحيانًا أسطورية، ونحن جميعا نعرف أن التاريخ الذي وصلنا في الغالب هو التاريخ السياسي للملوك والسلاطين. أما التاريخ العام لمجالات الحياة الحضارية بمختلف أصنافها، فهذا تاريخ غير مكتوب أو أنه مبدَّد وموزَّع في أماكن عديدة ينبغي التقاط وجمع أجزائه وإعادة بنائه بعَنت شديد ومصابرة مستمرة واطلاع دائم.
- ألا يمكن اعتبار الرواية العرفانية التي ترى أن مشروعك مؤسِّس لها هي في نهاية المطاف رواية تاريخية ما دام أنها تُبنى على المرجع التاريخي؟
لقد أجبت عن هذا السؤال أعلاه وبينت الفرق بين الرواية التاريخية والرواية العرفانية التي تستثمر التاريخ وتنفصل عنه في الوقت نفسه لأنها لا تنطلق من الرؤية نفسها التي ينطلق منها المؤرخ للوقائع التاريخية وللشخصيات التاريخية، ولا حتى كاتب الرواية التاريخية. “الشهادة بالحضور” تميز الرواية العرفانية عن كليهما. إن الأحداث تقع “هنا الآن: الدَّازَايْن” بلغة هايدغر والفلسفة الوجودية. أنا أعلم أن الأمر ليس معتادًا بالنسبة لبعض القراء النقاد، لكن يجب أن نعلم أن الأدب الجديد لا تصنعه النظريات النقدية، بل هو الذي يدفع النقد لتجديد أدواته لقراءة نصوص مختلفة. لا شيء يَضُرُّ بالأدب والنقد معًا من تأبيد نظر قديم على إبداع متجدد وجديد.
إن التاريخ هو رواية ما كان، بينما الرواية هي تاريخ ما يمكن أن يكون. ولهذا أؤكد على مفهومَيْ “الممكن المحتمل” والتراكيب المتضايفة بينهما، لأن ذلك يمنح الناقد قدرة على تبين الفروق الكثيرة، ويمده بشبكة تحليلية فائقة الدقة. في إحدى الروايات العربية يذكر الكاتب وجود شجر “الأوكاليبتوس” على جنبات طريق مؤد إلى مدينة فاس رغم أن الحكاية تقع في القرن السادس الهجري، حيث لم يكن هناك هذا النوع من الشجر الذي موطنه الأصلي في أستراليا، ولم يتم إدخاله إلى شمال إفريقيا إلا خلال الفترة الاستعمارية في القرن العشرين. يبدو أن هذا الكاتب لاحظ وجود هذا الشجر الذي يوجد على جنبات الطرق في المغرب خلال إحدى زياراته لمدينة فاس، فظن أن هذا الشجر أصيل في تربة شمال إفريقيا منذ القديم. هنا يمكن أن يوظف النقد الأدبي مثلا تركيبا مفيدا هو “الممكن غير المحتمل” لإزاحة مثل هذا النوع في السرد الأدبي، لتفادي التساهل المجاني مع التاريخ الذي لا يحترم ذكاء القراء، ولا ينبغي أن نتمحَّل في تبرير مثل هذه الاستعمالات القادحة في الأدب على أنها من التخييل.
أبدا، التخييل يجب أن يؤسس انطلاقا من دقة المعلومة التاريخية لا أن يكون مثل الزائدة الدودية التي لا مبرر لها، ولا ينفع معها سوى البتر بالجراحة النقدية. إن ملء البياضات التي سكت عنها التاريخ يجب أن يتم وفق “الممكن المحتمل”، و”الممكن شديد الاحتمال”، وإلى حد ما “الممكن قليل الاحتمال”. أما “الممكن غير المحتمل” من نحو مثال “الأوكاليبتوس” أعلاه فلا مبرر له إطلاقًا، وهو يدل على استسهال مجاني لا فائدة منه يُنَفِّرُ من القراءة، ويقدح في العمل بشكل كبير. إن الأعمال الخالدة هي التي تفجأ القارئ إلى الحد الذي يظن أن شخصَ طبيبٍ في رواية معينة يعلم عن خواص العلاج بالنباتات بشكل يدعو للدهشة. وهذا موجود في كثير من الأعمال الأدبية العالمية. أما الاختباء خلف التخييل البارد فلا مجال له في الأدب الذي يحترم نفسه والقراء. هذا مثال واضح على أهمية المفاهيم التي أقدمها في بياناتي لأنها تساعد على فهم هذه الأعمال بأدوات ومفاهيم جديدة لها قابلية كبيرة على تحليل النص تحليلا دقيقًا ومجددا ومفيدًا، وليست مجرد انطباعات.
- تُصدّر رواياتك ببيانات أدبية تتحدث عن بعض المفاهيم العرفانية، وعن أسباب اختيار شخصيات الروايات والسياق الحضاري المصاحب. ما دلالة هذا الاستعمال؟ وكيف تردّ على من يرفض هذه البيانات باعتباره مهمة الناقد لا المؤّلف؟
هذا نقاش يدل على مشكلة نفسية بالأساس. هناك من يرفض البيانات، فليتركها ولا يهتم بها، وَلْيُعْرِضْ عن قراءتها إن كان يخشى على نفسه من التأثر بها، فلا أحد يفرض عليه ذلك، لكن هناك الكثير من الباحثين والنقاد يهتمون بهذه البيانات، وهي أضحت مادة خصبة لا غنى عنها لكثير من الأبحاث الجامعية في شهادات الماستر والدكتوراه بلغات مختلفة في عدد من الجامعات حول العالم. ولم أعد أملك الحق في التخلي عنها، لأن هؤلاء الباحثين في كل مكان من العالم الإسلامي وغيره من الهند، مرورا بتركيا وإيران وانتهاء بعدد من الجامعات المرموقة في العالم العربي تنتظر بفارغ الصبر هذه البيانات، وتستند إليها في تعزيز فهمها لمشروع الرواية العرفانية، وتقديم دراسات نقدية مهمة للغاية.
دعني أقول بأن أي أدب يقدم نفسه “أدبًا جديدًا”، ويندرج ضمن مشروع متكامل مثل مشروع “الرواية العرفانية” لا يمكن اليوم تصوره دون هذه البيانات لأهميتها التي وضَّحْتُ بعضها فيما قدَّمْتُ من مفاهيم تساعد على فهمها. إن أصحاب المشاريع بشكل خاص، والمبدعين بشكل عام لابد أن يَصْدُرُوا عن رؤية نقدية لما يكتبون، والعكس قليل جدا، فلا تكاد تجد مبدعا ليست له رؤى نقدية حول أعماله على الأقل. ولك أن تستقرئ تاريخ الأدب والشعر والرواية لترى أن هذا التاريخ مليء بمثل هذه البيانات التي أسست لمدارس وحركات أدبية كبيرة في الشعر والرواية والمسرح والقصة والتشكيل والموسيقى وما سوى ذلك. أحد أساتذتي الذين درست عليهم هو السيميائي العالمي أمبرتو إيكو كتب روايات عالمة عالمية، ولم يكتف بكتابة بيانات حولها، بل أصدر كتبا نقدية عن تجربته الإبداعية الكبيرة التي حققت نجاحا عالميا. لهذا، ينبغي التوقف عن مثل هذا اللغط الذي يثيره البعض في الكواليس مِـمَّن يعتقد أن المبدع يزاحم النقاد في عملهم. المبدع هو المسؤول الأول عمَّا يبدع لأنه يكتب ذلك بمداد روحه، فكيف يريد البعض تجريده من ذلك؟ ومن حق كل مبدع أن يدلي برؤاه النقدية حول ما يكتب.
ولك أن تدرك الخصاص الحاصل في متابعة ما ينشر ويكتب من إبداعات لتعلم بأن هذا الأمر أضحى ضرورة قصوى حين تتأمَّل كَمَّ الأعمال الإبداعية التي تصدر اليوم دون مواكبة نقدية موازية ومسايرة لها، فهذا النقص والهوة بين الإبداع والنقد يدفع أحيانًا بالكثير من المبدعين إلى ملء هذا الفراغ. إن النقد عادة يكون حذِرًا في تناول الأعمال الإبداعية الجديدة، وترى كثيرا من الدراسات النقدية التي تتكرر عن أسماء وأعمال مضت منذ زمن غير يسير، وهذا ينبغي أن نقوله بكل صراحة، بأن اختيار هذه الوضعية المريحة لاستنساخ الآراء والنتائج التي انتهى إليها النقاد الأوائل وتكرارها أسهل بكثير من الاشتغال بنصوص إبداعية جديدة تتطلب جهدا نقديا مضاعفا واجتهادا متواصلا لاستنطاق جِدَّتها. البيانات التي أُقَدِّمُها مع رواياتي هي جزء من هذا المشروع الذي قدم رؤية جديدة، ولكنها لا تلغي أبدًا عمل النقاد ولا تزاحمه، بل على العكس هي مكملة له، وهي مفيدة لأنها تقلِّصُ مسافة الوقت والجهد في فهم بعض الأشياء في هذا المشروع.
- هناك من يرى أن المفاهيم التي تقدّمها في البيانات لا تعدو أن تكون مفاهيم ترتبط بالإبداع بشكل عام، فالحديث عن الكتابة بالحال هو شعور يمكن أن يصيب أيّ كاتب منهمك مع شخصية ما، وأن القراءة بالحال يمكن أن تلحق أي قارئ أُغرم بعمل معين. ما رأيك في هذا الطرح؟
لعلي قد أجبت عن هذا السؤال أعلاه، وبيَّنت بعض الأمثلة التي تدحض مثل هذا الاستنتاج الانطباعي المتسرع، حين تحدثت عن مفهومي “الإمكان والاحتمال” والتراكيب بينهما، فهذا يعطينا شبكة تحليلية مفيدة جدا للنقد الأدبي. أنا لا أزعم أني قدمت تحليلا كاملا لما كتبته، بل ما أفعله هو أني أحيل على بعض المفاهيم الجديدة التي نستطيع من خلالها فهم هذا المشروع برمته. الهدف عندي والأمل الكبير هو أن تنشأ مدرسة للنقد العرفاني متكاملة البنيان، مثلما فعل الغربيون حينما أسسوا لمدارس واتجاهات أدبية مختلفة. ولعل الجيل الجديد من النقاد يتحرر قليلا من النقد المدرسي التقليدي الغربي الذي يمارس تنميطًا في دراسته للأعمال الأدبية على الرغم من اختلافها الكبير.
“الكتابة بالحال” من ضمن هذه المفاهيم التي يمكن أن تكون مفتاحية في بلورة نظرية جديدة للنقد العرفاني. إنه مفهوم قوي جدا في تحليل هذه الأعمال، ويبدو لي أن هناك خلطا لدى البعض بين “الحال” بمفهومه العام المعتاد، و”الحال” في التجربة الروحية. هو مفهوم مرتبط بقوة بمجمل السرد في هذه الأعمال. كما أنه مرتبط بما أسميه “الزمن العرفاني”، و”الحبكة العرفانية” و”الشخصية العرفانية” التي هي الفاتحة النورانية، وهذا لا تجده في أي مكان آخر إلا في هذه البيانات التي فتحت هذا الأفق الجديد لتصور الشخصية الروائية بشكل مختلف. إذا لم نربط هذه المفاهيم فيما بينها، سنبقى نخلط في هذا الموضوع، رغم أني قدمت أمثلة توضح معنى “الكتابة بالحال”.
أقول مرة أخرى لتقريب الصورة وللتمثيل على أهمية هذا المفهوم. لنتصور حالا روحيا حصل لأحد شخوص الرواية في زمن مضى في القرن الثالث مثلا خلال رحلة الحج التي قام بها الجنيد في طريقه من بغداد إلى بلاد الحرمين، كيف يمكن لقارئ هذا العمل اليوم أن يستوعب تلك الأحوال الروحية التي مضت عليها كل هذه المدة الزمنية؟ علمًا بأن أي حال مهما كان لا يستمر زمانين، لأنه وارد قلبي، زمانُ نشأته هو عينُ زمانِ انتهائه. إذن كيف لقارئ في القرن الحادي والعشرين أن يفهم حال التجربة الروحية التي حصلت للجنيد في رحلة الحج رغم أنها مرَّتْ في زمن مضى بمدة طويلة؟
سؤال منطقي ووجيه. كيف للنظرية النقدية الغربية أن تفسر هذا الأمر على مستوى المفاهيم النقدية التي تشتغل بها؟
أقصى ما يمكن أن تقوله هو أن تعتبر هذا الحال شعورا نفسيا لا يتكرر وخاص بصاحبه، بينما نحن نتحدث عن حالة وجودية ناتجة عن تجربة روحية وليس عن تجربة نفسية محدودة.
أجيب عن ذلك بالقول بأن القارئ بالحال وليكن مثلا إنسانًا قام برحلة حج في زماننا هذا، فإنه يعيد بناء الحال الأول في ذاته فيتحقق بتجربة روحية مماثلة على ضوئها يفهم معنى التجربة الروحية الأولى في عمقها، ومؤشر الفهم نأخذه من استشعاره لتحول روحي لا يمكن أن يخطئ في إدراكه لأنه يأخذ بمجامعه فيشعر بلذة روحية لا تَعْدِلُـهَا لذة، وقد حصل مثل هذا التحول العجيب لكثير من القراء الذين أخبروني بهذا الأمر في قصص طريفة. عملية بناء الحال لدى القارئ في الزمان الثاني تتم في بؤرة زمنية أُسـمِّيها “الزمن العرفاني” أو “الآن الدائم” الذي لا علاقة له بالزمن الكرونولوجي الخطي، لأن الزمان العرفاني زمان معرفي يختزل المسافات ويتوحَّد فيه العارف والمعروف، لهذا أعرِّفُ دومًا “العرفان” بأنه اتحاد بين العارف والمعروف. بهذا المثال التوضيحي يتبيَّن أن “الكتابة بالحال” التي تطلب “القراءة بالحال” وتستدعيها ليست شعورًا نفسيًّا كما قلت أعلاه، بل هي تجربة روحية وجودية كاملة، وهي أيضا مفهوم يساعد على التحليل النقدي الرصين للعمل الروائي. وما دام لم ندرك مختلف مدارك الإنسان والفرق بينها، ونفرِّقْ بين المشاعر النفسية التي هي من مساقط النفوس، التي لا ترقى إلى مثل هذه التجارب الروحية، فسنبقى نُكَرِّرُ نفسَ الكلام عن كون الحال مسألة شعورية ونفسية. أقول مرة أخرى، الكتابة بالحال ليست شعورا نفسيا بل هو حال وجودي وتجربة روحية مؤشِّرها الدَّالُّ عليها، الإدراكُ الذاتي لهذا التحول الذي يأخذ بالقارئ نحو هذه التُّخُوم الشفيفة.
- تطمح لكتابة أربع عشرة رواية عن أربعة عشر قرنا، ما هي المعايير التي تستند إليها لاختيار شخصية عرفانية تمثل قرنا بأكمله؟ أليس في هذا “ظُلما” لبعض النماذج العرفانية المشرقة التي تنتمي إلى حقبة واحدة؟
لا أفهم معنى “الظلم” إلا إذا كنتَ تقصدُ أن بعض الأسماء والأعلام في تاريخنا تستحق أن تُفْرَدَ لها أعمال إبداعية مخصوصة، وهذا طبعًا أمر مطلوب ومرغوب أوافقك عليه وأدعو بحرارة إليه، ولا يعتبر عدم تخصيصي رواية حول أعلام وأسماء بعينها ظلمًا لها، بل هذا اختيار شخصي ينبني على معايير دقيقة غير مكتوبة هي من عمق تجربتي الإبداعية.
فمن بين تلك المعايير التي أشتغل بها معيار “التمثيلية”، حيث أسأل نفسي قبل الشروع في التحضير للعمل الروائي: هل يعتبر العَلَم الذي وقع عليه اختياري ممثلا للحقبة الزمنية التي هي الإطار الذي تدور فيه أحداث الرواية؟
الجواب يكون بناء على اختيار العَيِّنَةَ الشَّاهدة التي تحقِّقُ أكبر درجات التمثيلية، وهذا صنيع نجده في مجالات عديدة. حتى يتبيَّن المقصود من كلامي، أضرب لك مثالا من صناعة المعاجم حينما يقوم المعجمي بوضع التعريفات الدلالية الدقيقة للألفاظ والمفاهيم، فهو عادة ما يختار في الأمثلة الموضحة، العينة الممثلة والشاهدة للمجموعة التي ينتمي إليها اللفظ. ولنأخذ مثلا لفظة “الفاكهة”، فلا شك أن المعجمي حين سيعرِّف هذه الكلمة سيأتي بمثال ليوضحها، فماذا سيختار؟
هل في نظرك، سيكون المثال المختار: زيتون، طماطم (وهي بالمناسبة تعتبر “فواكه” في التصنيفات العلمية)، أم سيختار عينة تمثيلية؟ قطعًا سيكون اختياره للعينة التمثيلية أوفى بالمقصود، وإلا فشل عمله المعجمي. وغالبا ما سيكون اختياره دقيقًا نظرًا لخبرته في صناعة المعاجم، لذا سيختار لفظة “برتقال”، أو “تفاح” بدل “زيتون” أو “طماطم”، وللتحقق من هذا الأمر، يمكن لك أن تجري اختبارًا بسيطا مع الطلبة والتلاميذ في الفصول الدراسية حول هذه القضية للتأكد مما أقول، وذلك بأن تطلب منهم أن يكتبوا على البديهة في ورقة اختيارهم لفاكهة دونما تفكير. ستجد في النهاية أن نسبة كبيرة من أجوبة الطلبة قد اختارت الفواكه الممثلة لمجموعة الفواكه مثل التفاح والبرتقال واستبعدت الطماطم والزيتون. وهذا يدل على أن العقل البشري يشتغل بطريقة معينة تمكنه من اختيار العينة الشاهدة على كل مجموعة دلالية. وهذا نجده مثلا في العلوم المعرفية، ولدى باحثة أمريكية هي إليونور روش في روائزها التي كانت تستدل بها على مقولات التفكير لدى الإنسان. ونجده أيضًا في علم دلالة الشاهد، أو العيِّنة الممثلة: SEMANTIQUE DU PROROTYPE. نفس المنطق أوظِّفه في اختيار أبطال رواياتي، حيث أقوم به في تحرير معيار “التمثيلية” الذي ذكرت لكم بِأَنْ أختار العينة الشاهدة التي تمثل القرن الذي تجري فيه أحداث الرواية. لكن هذا لا يعتبر ظلمًا لأحد ولا إقصاء لأعلام آخرين، بل يمكن لمبدع آخر أن يختار اسما آخر يجعله هو العينة الشاهدة، فالمشروع العرفاني مشروع مفتوح، ولا يمكن إغلاقه مع انتهاء المشروع الفواتحي. بل حتى هذا المشروع الفواتحي المخصوص ضمن المشروع العرفاني ليس حصريا ولا مغلقًا، بل يمكن جدا أن يأتي مبدع آخر، ويكتب مشروعا فواتحيا جديدا بأربع عشرة رواية يختار له أعلامًا آخرين، شريطة أن يكون ذلك الاختيار مبررا وفق معايير مضبوطة.
ثم هناك أيضا معيار ثان أستعمله هو معيار “الشمولية”؛ ومعيار ثالث هو “الاستمرارية”، ومعايير أخرى ثانوية. الجنيد مثلا نموذج شامل في اتصال مختلف الأسانيد الروحية في العالم الإسلامي بطريقته، وأيضًا هو نموذج مستمر في حياتنا الثقافية، ومذهبه السلوكي من ثوابتنا الدينية، على عكس “الحلاج” مثلا الذي عاش في نفس الفترة التي عاش فيها الجنيد، لكن الجنيد يمثل تلك المرحلة، وقد تتلمذ عليه الحلاج وغيره. كما أنه وطَّأ القواعد العامة لعلم التصوف بما لم يكن معهودًا من قبل، ولهذا تبنَّته الجماعات العلمية عبر التاريخ، وصار من المرجعيات والثوابت، في حين أن أسماء أخرى لم تحظ بهذا الأمر.
هناك توضيح أريد أن أختم به الجواب عن هذا السؤال، ويتعلق بمسألة الأعلام الذين أختارهم في رواياتي. في الواقع ليست كل روايات المشروع الفواتحي روايات أعلام، بل هي أيضًا روايات عن مرحلة كاملة بأبرز مَنْ فيها من الأعلام. ثم هناك روايات اشتغلت فيها بقضايا معينة أكثر من الاشتغال بأعلام. هناك قضية طرد الموريسكيين من الأندلس، وهناك قضية الدولة في رواية “يس قلب الخلافة”، وهناك، قضية آل البيت ووظائفهم في تاريخ الأمة مع رواية إدريس، وهناك قضية الخلافة الراشدة في الرواية المقبلة، وهناك قضية تعتبر أسطورة كما في رواية “بحر نون حول الجزيرة الأطلسية”، وهكذا. فلا يمكن أن نزعم بأنني اشتغلت فقط على الأعلام بل الاختيارات كانت متعددة والمداخل متنوعة، مثل قضية الأندلس أيضًا.
- تحضر الأندلس في أعمالك بشكل بارز سواء من خلال اتخاذها مركزا للأحداث كما في رواية “الحواميم”، أو عبر تناول شخصيات أندلسية من قبيل الششتري وابن العربي، وابن الخطيب. ما دلالة هذا الاستحضار القوي؟ هل بصفته حنينا إلى فردوس مفقود أم يصدر عن وعي خاص؟
اهتمامي بالأندلس في عدد من الروايات ليس مجرد حنين للفردوس المفقود كما قد يتوهم البعض ممن يركن للتفسيرات الجاهزة، بل يصدر عن رؤية أعمق مَردُّها إلى أني لا أعتبر الأندلس مجرد بقعة جغرافية عرفت تاريخا متميزا، بل هي نقطة ارتكاز حضارية ما زالت مستمرة. وينبغي أن نكون على وعي تام بهذا الأمر لأن النهضة التي تدوم وتنجح هي النهضة التي ترتكز على نقطة ارتكاز حضارية قوية. انظر إلى النهضة الأوروبية، ما هي نقطة ارتكازها؟
إنها نقطة الارتكاز اليونانية القديمة التي استلهمت منها أوروبا التراث اليوناني في مختلف المجالات ولا سيما في الفلسفة وعلوم التعاليم والفنون في بناء نهضتها. إن ذروة النموذج اليوناني كان مع الفلسفة اليونانية التي يمثلها أرسطو وأفلاطون؛ وعلى المستوى السياسي الإسكندر المقدوني. أما فيما يخص الأندلس باعتبارها نقطة ارتكاز حضارية واسعة بما فيها عُدْوَةُ الأندلس وعُدوة شمال إفريقيا الجغرافيتين، بمراكش عاصمة لهذه الإمبراطورية، فإن ذروة هذا النموذج كان مع الفلسفة التي يمثلها ابن طفيل وابن رشد، والحكمة الموهوبة التي يمثلها ابن العربي الحاتمي. أما على المستوى السياسي فذروة الأمر كانت مع الخليفة الفيلسوف أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي الذي عاش هؤلاء الأعلام في زمنه وتحت سلطانه. من هنا ينبغي أن ننطلق في نهضتنا، لجعل الوصل يكون في أرفع نقطة وصلتها الحضارة العربية الإسلامية. أما الارتكاز على مراحل الإخفاق فلن يؤدي إلا إلى استمرار الإخفاق.
انظر إلى النماذج التي اشتغلت بها، فعلى المستوى السياسي اشتغلت على الخلافة الأموية وملوك الطوائف، ثم اشتغلت على دولة المرابطين وخلافة الموحدين، وبعد ذلك اشتغلت بما سمي مرحلة “الاسترداد” في الأدبيات الغربية، ثم بسقوط الأندلس ومحنة الموريسكيين. واخترت في كل هذا المراحل منذ بداية الأندلس إلى سقوطها شخصيات وعينات تمثيلية في الفلسفة والعرفان والأدب والسياسة والتاريخ والفقه وغير ذلك. اخترت ابن حزم والششتري وابن العربي وابن الخطيب وعدد آخر من الشخصيات ضمن اشتغالي بهؤلاء مـمَّن جَايَلُوهُم. هذه منارات مضيئة أجدر أن نستلهمها لأنها محطات تفسِّر ما قبلها وما بعدها.
ولعل هذا يجيب عن سؤالك حول الأندلس التي أشتغل بها. إن الأندلس بالنسبة لي تطرح علينا سؤال النهضة في عمقه. الأندلس بالنسبة لي ليست ماضينا بل هي كذلك مستقبلنا.
- ألا ترى أن تصنيف أعمالك ضمن الرواية العرفانية قد سيّج مشروعك، وحدّ من إقبال القراء والنقاد عليه خاصة في الوسط الجامعي كما يرى البعض؟
إن هذا المشروع مستمر منذ ربع قرن تقريبا، ونحن نعرف شهادة ميلاده ومحطاته ومساره العام. ولا شك أن الذي أعطى له قوته وانتشاره هو ما طرحه من رؤى وأفكار وتجديد في السرد العربي، ولا أدري من أين يمكن استنتاج أن تسمية هذا المشروع بالعرفاني قد كان سببًا في الحد من انتشاره بين القراء والنقاد في الوسط الجامعي.
العكس هو الحاصل تماما، فهذا المشروع قد نجح بشكل كبير وانتشر في كل مكان اليوم، وعدد الدراسات الجامعية التي أنجزت حوله كبير. ويمكن للمرء أن يبحث على الشابكة ليرى عدد الأبحاث المسجلة في السجلات الوطنية للأطاريح وشهادات الماستر ليعرف عما نتحدث عنه بدل التعميمات المنفصلة والمفارقة للواقع. فأحيانا نتوهَّم أشياء لا حقيقة لها على أرض الواقع. أغلب ما نشرته من أعمال كان مع “دار الآداب”، وهي من أبرز دور النشر في العالم العربي، والنشر فيها مرتبط كما لا يخفى على أحد بمعيار ما يسمى “التكريس الأدبي”، بل إن المشروع العرفاني هو أحد أوجه سياسة النشر البارزة في هذه الدار. هذا فقط مؤشر على نجاح هذا المشروع.
طبعًا كل كاتب ومبدع يطمح للمزيد من النجاح والانتشار والمقروئية، وأرى أننا في العالم العربي لا نقرأ كفايةً بالمقارنة مع ما تمثله السوق العربية من اتساع وموارد حيث تصل إلى نحو أربعمائة مليون ناطق ومتحدث بالعربية. فهناك أسواق صغيرة في العالم تطبع أكثر مما تطبع وتنشر كل هذه الكتلة الحضارية. لهذا نحتاج إلى تعزيز سوق النشر العربية بالتشريعات الملائمة عبر احترام الملكية الفكرية وحقوق المؤلف وتجنب الثغراث التشريعية وتضاربها من دولة عربية إلى أخرى بما يفسح المجال أمام قرصنة الكتب والاعتداء على حقوق المؤلف وباقي سلسلة صناعة الكتاب، ويجعلها في مهب الريح، وذلك عبر سنِّ تدابير قانونية صارمة تكفل حقوق جميع المتدخلين في صناعة ونشر الكتاب. الكتاب العربي هو كتاب لمجمل السوق العربية وليس لبلد بعينه، مثله في ذلك مثل الأغنية والفيلم وما سوى ذلك من المنتجات الثقافية. أما الكتاب الذي يوجَّه للأسواق الوطنية المحدودة فهو كتاب وظيفي أو موجه لفئة خاصة، ولا يعنينا هنا.
- حدثنا عن مشاريعك المستقبلية؟
صدر لي عمل جديد هي الرواية الثالثة عشرة في هذا المشروع، وهي رواية تتناول شخصية مفصلية من القرن الأول الهجري ما زال حضورها قويا ومؤثرا. إنها شخصية الإمام علي بن أبي طالب.
كما تقدَّمت كثيرًا في كتابة الرواية الرابعة عشرة التي تختم المشروع الفواتحي، وهي حول الأزمنة الحديثة، وأشتغل فيها على صدمة الحداثة. وبهذا يكتمل المشروع الفواتحي الذي هو جزء من المشروع العرفاني العام. اليوم كثير من المبدعين يكتبون ما يسمى بالشعر العرفاني، أو يرسمون لوحات وفق “التشكيل العرفاني”، أو “الموسيقى العرفانية”، أو دراسات فكرية في إطار ما يسمى “الجمالية العرفانية”. إذن نحن أمام مشروع ثقافي كبير عابر للأجناس، يتجاوز الرواية إلى أنواع أخرى، وحري بالمثقفين والمفكرين أن ينخرطوا في مثل هذه المشاريع الخصبة التي تعبر عن لحظة تاريخية، وليست مرتبطة بشخص لوحده. هكذا هي المشاريع المنتجة، وأملي أن تبرز مدرسة متكاملة في النقد الأدبي العرفاني تفتح آفاقا لا تخطر على بال المناهج والنظريات النقدية الغربية التي تولدت من رحم نصوص أدبية غربية مخصوصة، فأي فائدة في إسقاطها على خصوصياتنا الحضارية، وَرَهْنِ مستقبلنا للمركزية الثقافية الغربية التي اصطفَّ[1] عدد من رموزها ضد قضايانا العادلة.
إن هذه الأعمال الأدبية تنتظر من يدرسها بعمق، سيما وأنها تستوعب تاريخ الحضارة العربية الإسلامية بكل مكتسباتها منذ نشأتها إلى عصرنا الحاضر.
………………………………………………………………………………..
[1]. صدر بيان مساندة وتضامن مع إسرائيل في عدوانها على غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، حرره الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من مدرسة فرنكفورت النقدية في الفلسفة الاجتماعية التي تأسست عام 1923، مُوَقَّع من عدد كبير من المفكرين والفلاسفة ممن نحتفل بهم ونفرد لهم مساحات كبيرة في جامعاتنا، أدانوا فيه ما أسموه “المجزرة… ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عام”، في حين تجاهلوا الإبادة الحقيقية التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون في غزة. ما أحوجنا اليوم إلى الاستقلالية الثقافية بديلا عن استراتيجية الإلحاق الثقافي التي مارستها المركزية الغربية على ثقافتنا ومقدراتنا.