تاريخ القلم هو تاريخ الوجود الإنساني على كوكب الأرض، فمنذ عرف الإنسانُ الكتابةَ ابتدأ التاريخ وابتدأت معه رحلة العقل البشري في مجرّات المعرفة ومداراتها. ربّما لم يكن يُسمّى قلمًا، قبل آلاف السنين، عندما كان يُصنع من أغصان الأشجار وعيدان القصب.. ولكنه كان الوسيط في تحويل الشّفاهي إلى كِتابي، والأفكار الشاردة في سماوات الفكر إلى كتابات مأسورة على “مُسطّحات”: ألواح الطين، أوراق البردي.. الورق. والفضل كل الفضل لما وصلت إليه البشرية من تطوّر تكنولوجي مُذهل يعود إلى القلم الذي علَّم به الله الإنسانَ ما لم يعلم. وله كل الفضل أيضًا في حفظ التراث اللغوي والفكري والعلمي.. منذ آلاف السنين إلى يومنا هذا.
هل سيبقى الإنسان وفيًّا لرفيقه التاريخي: القلم، أم أنّه سيخونه ويتخلّى عنه، ويتبع رفيقا آخر فرضته ضرورات العصر وثورة التكنولوجيا، نُسمّيه الآن: لوحة المفاتيح، فقد يكون له تسميات أخرى في المستقبل المنظور عندما تتطوّر أدوات الكتابة وتصير صوتيّة مثلاً حيث الإنسان يتكلّم والآلة تكتب؟
إنّ جيلاً يتشكّل الآن هو جيل “بَنان الأصبع”، سيكون القلم مجرّد شيء من تراثه! جيلٌ يكتب بالبنان على لوحٍ ذكيٍّ.. ولعلّه سيفقد القدرة على الإمساك بالقلم والكتابة به على الورقة. وربّما أن هذه القدرة يفتقدها اليوم كثيرٌ مِمَّن تربّوا مع قلم القصب والدّواة، وقلم الحِبر والمحبرة، والقلم السيّال، وقلم الرّصاص.. فالتكنولوجيا قد فرضَت أنماط حياة جديدة وعادات وتقاليد في النشر والكتابة ووسائلهما..
صار الحديث عن القلم نوعًا من الحنين إلى زمن يكاد أن ينقضي بكل أشيائه التي لا تتوافق مع روح العصر السريع والمتسارع، وقد كان الحديث عن القلم هو الحديث عن الحكمة والعلم والأدب، بل إنّ أدباء وكُتّابا كثيرين دوّنوا مناظرات بين القلم والسيف، حيث الأول هو المرادف الموضوعي للعقل والأخلاق والضمير، بينما الثاني هو المرادف الموضوعي للقوّة والجبروت والتّسلّط.. وقد انقضى زمن السّيف، وبقي القلم وحيدا في معركة وجوده!
إلى وقت قريب، كان القلم من أثمن الهدايا التي يتبادلها المثقفون عموما، لما ينطوي عليه من معاني سامية نبيلة.. ولعله سيحتفظ برمزيّته ودلالاته الجميلة، ولكنه سيفقد وظيفته الوجودية في صناعة الحضارة الإنسانيّة! وإلى وقت قريب أيضا، كان لكل كاتب قصّته مع القلم، فهناك من يفضِّل قلم الرصاص. وهناك من يختار أنواعا معيّنة من الأقلام للكتابة، من حيث الشكل أو قدرتها على مسايرة تدفّق الأفكار.. وهناك من يختار الكتابة بالألوان فالأخضر للعناوين والأزرق للكتابة والأحمر للتَّسطير مثلا. وحتى في شراء واقتناء الأقلام، فقد كان لكل كاتبٍ “تقاليده” في اختيار أنواعها وأشكالها، وربّما أن هناك من يحتفظ بها لارتباطها بحوادث معه في حياته ومسيرته مع الكتابة..
من باب الوفاء للقلم، والاعتراف والعرفان بفضله على الإنسانية جمعاء، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الأدباء والباحثين العرب، بهذه التساؤلات: ما هي قصّتك مع القلم، وهل ما زال هو صديقك في زمن “بنان الأصبع” والكتابة على الحاسوب والأجهزة الكفيّة؟ وكيف تتوقَّع مستقبل القلم؟ وهل كتبت نصوصا حول هذه الأداة التي غيّرت مجرى البشرية ودخلت بالإنسان إلى التاريخ والحضارة؟
وأنت أيضا عزيزي القارئ معنيٌّ بالإجابة عن هذا التساؤل: منذ متى لم تُمسك بالقلم وتكتب على ورقة بيضاء؟ قد يبدو لك التساؤل ساذجًا ولكنه بالغ الأهميّة إذا اقتنعت بأنّ القلم هو أساس الرّسم أو الخطّ، والخطّ هو أحد أسرار جماليات اللغة العربيّة.. والابتعاد عن القلم هو انتهاكٌ لحرمة الجمال.. جمال اللغة العربيّة “المُقدّسة”!