بين شاب مراهق في الرابعة عشرة من عمره ينشد قصيدة أمام رئيس بلده، لا يطلب جزاء عليها سوى أن يمنح فرصة ليتعلم، وشيخ في الرابعة والتسعين من عمره ينال قبل أيام مضت «جائزة جوان مارغريت العالمية للشعر» إحدى أرفع جوائز الشعر الإسبانية، بين هذين المشهدين ثمانون سنة كاملة لم يتوقف فيه الشاعر المتعدد الجنسيات (السوري اللبناني الفرنسي) أدونيس عن رمي الحجارة في بحيرة التفكير العربي الراكدة، يقول كلمته ويمشي، غير مبال بما تحدثه من زوابع وردود واعتراضات وشتى أصناف الاتهامات أحيانا، في هذا الجزء من العالم الذي يرتاح إلى الموروث ويقدّسه، ويخشى ويحارب أي صوت مفرد يرفض صيغة الجمع.
قبل أن أستضيف أدونيس في برنامجي «نلتقي» كان ملء السمع والبصر وهو المشارك الفاعل في الحراك الثقافي العربي، بل صانعه في محطات كثيرة، منذ أن ساهم مع يوسف الخال ونذير العظمة ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا في إطلاق مجلة «شعر» أيقونة الحداثة الشعرية العربية أواخر الخمسينيات. وكان طبيعيا وأنا أدرس الأدب العربي في جامعة البحرين، أن يكون الجزءان الثالث والرابع من كتابه «الثابت والمتحول»: «صدمة الحداثة» و«صدمة الحداثة وسلطة الموروث الشعري» مدخلنا لفهم هذا المصطلح البراق الذي كنا مسحورين به وحريصين كل الحرص على الانتماء إليه. فقد كنا في كلية الآداب – كما كتبت مرة – منقسمين إلى معسكرين أحدهما ينتصر لقصيدة النثر والحداثة، وينحاز لأشعار قاسم حداد وتنظيرات أدونيس، وثانيهما ينتصر لعمود الشعر والقصيدة المنكّهة بالنفس التراثي. ولعلنا كنا محظوظين يومها بأساتذة درسونا مثل صلاح فضل وعبد السلام المسدي من الذين تمرسوا بالمناهج النقدية الحديثة، فكانوا يفككون لنا ما يستعصي علينا من تنظيرات حداثية، وعلى رأسها كتابات أدونيس.
وكان من أحلامنا أن نلتقي بهذا الرجل القصير ذي الشعر الطويل الأبيض، الذي كنا نعده أحد آباء الحداثة وللمفارقة، أنني حين أجريت معه حوارا تلفزيونيا لم أكن متوافقة تماما مع فكرة الأبوة هذه، بل كنت معتقدة بمفهوم قتل الأب للخروج من معطف المؤسسين، فقلت في تقديمي له «بينما كانت هناك محاولات تبذل من جانب أنصار أدونيس، في هذه الساحة العربية الثقافية أو تلك، لتكريسه أبا للحداثة الشعرية، كان هناك من يرى أن الحداثة لا تؤمن أصلا بالآباء وإنما بالصداقة والأصدقاء، وبالتالي فإن من الغريب بمكان أن يستدرج الشاعر الحداثي من قبل محبيه إلى هذا الفخ». ولم يعترض أدونيس على هذه الفكرة، بل بدا موافقا لها فهي تنسجم مع رؤيته في الحركية الدائمة وعدم استبدال صنم بآخر. وهذا ما يجعل منه شخصا شديد الإيمان بالاختلاف، تجلى ذلك في تقبّل أحد أسئلتي الجريئة بثقة ورحابة صدر كبيرين، فحين سألته: «ماذا تجيب من يقول عنك بأنك شاعر محدود، لكنك منظر كبير في مفهوم الحداثة» أجاب بتواضع، ودون أدنى انزعاج «أنا أحترم جميع الآراء وأومن أن لكل شخص الحق في أن يقول ما يشاء، لكنني لا أناقش هذا الرأي، بل أصغي إليه، وأحاول أن أتفهمه، وأحاول أن أتلافى أخطائي».
وأقرّ بأنني معجبة بأفكار أدونيس أكثر من أشعاره، ولا تزال أضلاع المثلت الشعري الثلاثة عندي تقوم على نزار قباني بسهله الممتنع، الذي يدخل القلب دون استئذان، ومحمود درويش بغنائيته المجبولة بحس إنساني عالٍ، وقاسم حداد بحزنه الشفيف المنساب في نسغ قصيدته، ورغم تأثري بقاسم حداد شعريا، وقد ذكرت ذلك في مقالي «قاسم حداد دليل جهة الشعر» إلا أنه لم يستطع أن يجعلني مُريدة شعرية في حضرة قطب الحداثة العربية أدونيس، وآراء قاسم حداد في شعر صديقه منذ أكثر من نصف قرن معروفة مشتهرة، فهو يراه دَرْسَ الشعر الدائم، وكتب عنه مرة مقالا أثار ردودا كثيرة جاء فيه: «عندي، كل من يكتب الشعر لا بد له أن يقرأ شعر أدونيس، فليس ثمة اكتمال فنيّ لأي شاعر عربي كان، إذا هو لم يقرأ أدونيس». لا أدري هل هو تأثير الاسم الأسطوري «أدونيس» أو هذا التاريخ الشعري الذي تحمله تلك البنية النحيلة ما يجعلني أنظر إليه دائما كشخصية هاربة من الميثولوجيا القديمة، وقد تماهى مع الاسم الذي حمله منذ شبابه الباكر موقعا به قصائده الأولى، إلى حد أن قال لي مرة ساخرا «الآن حين أريد أن أتنكر أوقّع باسمي الحقيقي علي أحمد سعيد» وتشارك مع هذا الإله الكنعاني الفينيقي في خاصية الإخصاب وتحوّل دمه إلى زهرة شقائق النعمان فكان أدونيس الشاعر المتحول الدائم، في حين آثر كثير من مجايليه الذين رافقوا بداياته أن يستكينوا إلى الثبات.
وأعتقد وهذا رأي شخصي أن نجومية محمود درويش، ألقت ظلالها على موقع أدونيس الشعري، فدرويش بكاريزماه وحضوره الطاغي غول شعري يلتهم ما عداه، وأي مقارنة بينهما ظالمة لكليهما، وإن كنت للإنصاف أعتقد كذلك أن مريدي أدونيس وأتباع مدرسته الشعرية، ركزوا على تنظيراته، وأغفلوا تفكيك تجربته الشعرية، ولعل ما يقوم من جدل حول مقالاته وتصريحاته يجرّ القارئ إلى أفكاره لا أشعاره، فما زال حيثما حل يطرح مواضيع إشكالية – زيارته للسعودية والمغرب السنة الماضية نموذجا ـ ينقسم إثرها القراء إلى متعصبين له مدافعين عن آرائه بحق أو دونه، في ظاهرة تقديس لشخصه يأباها، وإلى متربصين به يؤولون كل حرف يكتبه أو كلمة ينطق بها لبناء عريضة اتهام عليها. فمن أين للقارئ المحايد أن يلتفت إلى تجربة شعرية امتدت على عقود وسط هذا الضجيج القائم خارج المتن الشعري. لا يمكنني الكتابة عن أدونيس دون تناوله إنسانيا، وأزعم أنني تلمست بعض ملامح شخصيته من معرفة شخصية به تجاوزت العقدين من الزمن، فقد استضفته في برنامجي سنة 2006 وتكررت لقاءاتنا بعدها في مدن كثيرة وفعاليات مختلفة، وأذكر أنني شاكسته مرة حين أخذنا صورة جماعية مع الشيخ محمد بن راشد والمشاركين في مؤتمر النقد فذكّرته بقوله: المال العربي مال جاهل، فابتسم الشيخ محمد والتفت مسائلا أدونيس: والآن ما رأيك؟ كما أذكر بكثير من الحنين والامتنان استضافته لنا في بيته أثناء انعقاد مهرجان جبلة الثقافي في محافظة اللاذقية، وكان عرفا سنويا أن يستضيف أدونيس المشاركين في المهرجان في بيته، وفي جلسة دافئة تزينها الأكلات المشهورة في منطقته، يرجع أدونيس ذلك الطفل القروي ابن الفلاحين الذي يقطع مسافة طويلة مشيا على الأقدام ليطلب من رئيس بلده أن ييسر له سبل التعلم.
وهذه العلاقة الشخصية حفّزتني لعرض ما أكتبُ عليه أحيانا لتطوير تجربتي الشعرية، وما أحسبه له أنه لم يكن مجاملا، فالشعر كان ولا يزال قضية وجودية بالنسبة إليه، صرف سنوات عمره الطويل للاحتفاء به تنظيرا وممارسة.
بعيدا عن مزايدات المحبين ومناكفات المنتقدين تبقى التجربة الأدونيسية علامة فارقة في مسيرة الشعر العربي، سواء من حيث التنظير وفتح آفاق جديدة ساعد عليها احتكاكه المباشر بالعالم الغربي، وانفتاحه على ما أفرزته الحداثة الأوروبية بطبعتها الفرنسية تحديدا من متغيرات، أو من حيث ممارسته العملية في كتابة الشعر التي طابقت أحيانا تنظيراته وخالفتها أحيانا أخرى، أو بلغة أدق لم تستطع تمثّلها بالمطلق. ولا يملك أي قارئ منصف إلا أن يعجب بقدرة أدونيس على البقاء في صلب الحراك الثقافي في العالم العربي مدة سبعين سنة كاملة، مؤثرا وفاعلا ومثيرا لجدل مستمر حوله، وحاصدا للتكريمات والجوائز، وإن كانت جائزة نوبل أخطأته مرارا وهو المرشح الطبيعي لها منذ 1988، لكنّ نوبله الحقيقية تتجسد في أجيال متعاقبة قرأت له واختلفت واتفقت معه، وكثير من المنصفين منهم سيقول يوما: «عشنا في زمن أدونيس».