لم يزل الصراع محتدما حول مقبولية قصيدة النثر، كونها لا تقترب من القصيدة ولا من الشعر، وأنها أقرب إلى السرد والنثر السردي، وأن منتجيها لا يفهمون كيفية إنتاجها، ولا يفرّقون بين النثر والشعر، ولهذا فاق عدد كتّابها عدد الشعراء منذ المربد وعكاظ وحتى المعلّقات السبع، وربما حتى من زمن أوّل شاعرة في التاريخ كما تقول المصادر، (نهيدوانا) ابنة الملك سركون الأكدي، ورحنا نؤيّدها ونعارضها كما هو شأن الأمور الأخرى، سواء كانت ثقافية أم سياسية وحتى دينية واقتصادية، وهو أمر طبيعي أن يحصل الخلاف، بل حتى الاختلاف في شتّى الأمور، فلا شعب ولا فئة تستقر على رأي واحد، إلا في حالة جمود العقل الذي يعني موت المجتمع.
هذه الصراعات والنقاشات الحادّة التي أخذت في القطيعة بين الرأيين، لا تعدو عن كونها أمرا خاضعا للمزاج والتعصّب، بين طرفين يذهبان إلى أقصى اليسار أو أقصى اليمين، كما يطلق عليه في علم السياسة والمصطلحات بين طرفين متنافرين، ولا تعدو هذه الصراعات عن كونها خاضعة لمبدأ التعصّب الذي يعيشه الإنسان، والذي يريد مواجهة الآخر على أنه يريد الانقضاض عليه لتمرير أفكاره أو حتى للقضاء عليه، خاصة في الفترة التي شهدت ظهور حركات دينية أو فلسفية أو نقدية أو أيّ حراك لمناقشة الأفكار المطروحة، بعد أن عدّت جامدة ولم تعد تنفع المجتمعات الراهنة في حينها، بل تصاعدت حدّة التعصّب في الآراء إلى حدّ الاتهامات.
لكن في الشعر لم يزل التعصّب في الآراء هو السائد، ووصول اتهامات بين طرفين متباعدين عن منطقة القبول بالآخر، كما ينادي أصحاب مبدأ السلام والتعايش في الأمور الحياتية الأخرى. إن هذه الآراء المتناقضة والمتباعدة والمتخاصمة والمتعصّبة، سببها طغيان قصيدة النثر وكثرة عدد كتابها، كما يرى الطرف الرافض، باعتبار أن القصيدة العمودية هي الأساس في الشعر، لأن فيها وزنا وقافيةً، على العكس من قصيدة النثر، التي يعتبرها البعض مجرد هذيان لغوي لا يتعدّى كونها مادّة نثرية تشبه الخطابات اليومية، وما كان يكتبه الطلبة في المدارس من قطعٍ نثرية على شكل نشرات مدرسية. ويؤيّدون وجود قصيدة التفعيلة على أنها القصيدة التي حافظت على الموسيقى والوزن، وإن تعدّدت الأوزان، متناسين أن قصيدة التفعيلة حين انوجدت على يد السياب والملائكة والبياتي والحيدري، تعرّضت أيضا إلى انتقاداتٍ لاذعةٍ وأنها خروجٌ عاقّ على القصيدة وخيانة للشعر، حتى حضرت قصيدة النثر، ليتم الانتباه لها على أنها الخطر الأكبر على مستقبل الشعر، وكأن الأمر يشبه نصوصٍ يمكن المساس بها. وزاد الاعتراض مع ظهور وتنامي كتابة قصيدة الومضة والقصيدة الشعرية وقصيدة الهايكو وغيرها من النصوص التي ترتبط بالقصيدة كمآل إنتاجي.
ولهذا فإن الأمر يحتاج إلى التفريق بين القصيدة كنوعٍ إنتاجي، يختلف عن الشعر كنوعٍ أدبي.. فاليافطة الكبرى هي الشعر. بمعنى أن الجسد هو القصيدة، والروح التي ينفخ فيها المنتج هي الشعر. بمعنى أن الشعر هو الأساس في المنطق، وهو الدرس الأكبر لكتابٍ كبيرٍ، فيه فصولٌ عديدة تسمى قصائد.. لذا نطلق مصطلحات مثل القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. وهو ما تؤكّد عليه التعريفات التي نقرأها في الكتب والمواقع، من أن الشعر هو أعمّ من القصيدة، من حيث الموضوعات التي يتناولها، لكن هذه الآراء تصف القصيدة بالتعريف القديم وكأنه التعريف الأوحد، الذي لا يمكن مغادرته، وإن تغيّرت وتسارعت الحياة وتغير حتى الوعي.. من أنها (عبارة عن عدد من الأبيات التي تحمل عنواناً مُعيّناً؛ حيث تتحدث هذه الأبيات عن موضوع موحد وتقتصر عليه، ولا تتشعب في الأفكار).
لكن السؤال.. هل يمكن الركون إلى القول إن القصيدة في تعريفها هو ما يعني القصيدة العمودية فقط؟ هذه التعريفات وغيرها وضعت أيام هيمنة هذا النوع من الشعر. فالقصيدة الآن هي ما دخلت فيها كميّة الشعر، وأنتجت كمية من شاعريةٍ ملموسةٍ ومحسوسةٍ، لها إمكانية التفاعل مع المتلقّي، لكي يستنتج منها الشعر، الذي يريده، حتى لو كانت القصيدة نثرية. فهو اسم أطلق للتمييز، كما هو مع الأسماء الأخرى للقصيدة العمودية التي تسمّى أيضا قصيدة الشطرين، وكذلك مع قصيدة التفعيلة التي تسمّى القصيدة الحرّة. فهي أسماء تجري لمصب الشعر، ولكي يتم التعرّف عليها، ودلالة وجودها كفروعٍ من الشعر.
إن الكثير من الآراء لم تزل تنطق برأي ابن خلدون عن الشعر من أنه (عبارة عن كلامٍ مفصّلٍ لقطعٍ متساوية من حيث الوزن، تتّحد في الحرف الأخير من كل قطعة، فتتمّ تسمية كل قطعة باسم بيت، وهو كلام موزون من حيث القافية، يدل على معنىً معين). مع الأخذ بنظر الاعتبار أقوال الكثير من النقاد، من أن الشعر (هو الكلام الذي يقال بشكل متعمد وليس عفوياً، فإن كان كذلك فهذا لا يُسمّى شعراً حتى إن كان موزوناً) لكن رأي الشاعر والناقد الأدبي المصري صالح شرف الدين، في حوارٍ معه نشر على أحد المواقع، ربما يكون أكثر توصيفا من الآراء الأخرى، التي تقرّب المسافة، وترجع الأقوال إلى طبيعة الكتاب الكبير، المحمّل بفصولٍ عديدة: (القصيدة بناء فني ارتبط بقصد كتابة الشعر، فعندما يقصد الشاعر الانتقال من النثر إلى الشعر يأتي ببناء مختلف عن النص النثري يسمى قصيدة وله تعريف في معاجم اللغة). ويضيف في الحوار ذاته أن (القصيدة هي قطعة من العمل الأدبي.
والشعر هو شكل من أشكال الفن، على أن كلَ شعرٍ قصيدةٍ لكن ليس كل قصيدةٍ شعراً؛ فقد تخلو بعض القصائد من الخيال والعاطفة) وهنا يقع التفريق بين الإنتاج اليومي للنصوص الأدبية، التي تقع تحت يافطة القصيدة، أو التي تنسل من كتاب الشعر الكبير. لذا فإن الأمر ليس مجرّد الخروج عن قوالب الشعر التي يعدّها البعض قد أصبحت جامدةً، وأن العصر بحاجةٍ إلى نوعٍ أدبي جديد، وإن كان تمرّدا ليولد متمرّدا، بل لأن حركة المجتمعات تتطلّب التطوّر معها، والتطوّر المجتمعي لا يعني الانغلاق على الماضي، بل بما تنتجه الآلة التقنية من تفاعلاتٍ سريعةٍ، جعلت العقل بحاجةٍ إلى تمرّدٍ على الواقع ذاته، ولأن الواقع لا يعني فقط الجانب العلمي أو التكنولوجي/ الآلي وتسارعاته العملاقة الآخذة بالصراع مع نفسها أيضا، بل الحاجة إلى مواجهة ضعف الإنسان أمام التسارع، وحاجة الإنسان إلى المواجهة بطرقٍ أخرى، لذا نجد الخطابات التي كانت سائدةً، بما فيها الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي، وحتى الاجتماعي، قد اختلف أيضا من أجل حاجة الجميع إلى ردم الهوّة بين السرعة العلمية والبطء الحياتي، بكلّ أنواعه وفروعه، التي تبدأ بالاقتصاد، ولا تنتهي بالثقافة أو الوعي الذي يبقى عاجزا، لذا نراه ينظر إلى الوراء، على أنه الماضي الذي كان مستقرّا، في حين هو نفسه من يطلق هذه الكلمات، ويحاول الاستفادة من التقدّم العلمي، لكنه لا يستطيع معرفة كنه الأشياء من دواخلها، وهذا ما ينطبق أيضا على الأدب، حيث تتسارع أوجهه في الكثير من المفاصل. فما كان ينتج في القرن العشرين، غيره في نهايته، وهو غيره في مطلع الألفية الثالثة، وعن الزمن الراهن، لذا يكون الحنين إلى الماضي حاضرا، لأنه واقع هادئٌ يرونه بلا ضجيجٍ، بل وزاد تمرّدا مع تمرّد الحياة واختناقاته، كما كان في بداياته.
هذا الأمر لا بد أن ينعكس على الشعر كشيءٍ أعلى، والقصيدة كشيءٍ فرعي، وهو أيضا خاضع لمبدأ التطوّر والتغيّر والمغايرة والتجريب والتجريد والتداخل والرغبة في المواجهة والانعتاق من كلّ ما هو ماض حتى لو كان جميلا، بمعنى أن الشعر هو الذي يحاكم في إبداعية هذه القصيدة عن تلكم، سواء كانت عمودية أم تفعيلة أم نثرا، رغم أن أغلب الدراسات التي تتحدّث عن الشعر باعتباره قصيدة عمودية، ويسعون إلى التفريق بين فروعها من الملحمة والأرجوزة والنقيضة وغيرها من التي تعد فرعا من فروع الشعر، وهو ما يؤكّد قولنا إن الشعر هو الأساس، أما الأجناس التي تنبت من شجرتها فهي الفروع. إن الأمر يحتاج إلى قبول الإنتاج الإبداعي، وليس إلى دفعها بالمنكر والنهي والنفي/ بوجود الآخر من القصائد، لأن الارتباط بالشعر هو الأساس، وما يكتب وليس فيه شعرٌ، فإنه لا يعد شعرا ولا ينتمي إلى أيّ فرعٍ أو قسمٍ أو أيّ تسميةٍ أخرى. فالقاسم المشترك الأعظم هو الشعر، لذا نقول إن النص/ القصيدة التي لا توجد فيها شاعرية لا تعد شعرا.
ولا يؤخذ على أن عدد منتجيها كبيرٌ وواسعٌ لأنها سهلة، لأن كثرة الكتاب دلالة على التعافي المجتمعي، كون الحياة في تطّورٍ مستمر وهو أي التطور، الأساس في ذلك، فما كان في القرن الماضي مثلا في العراق، أو الوطن العربي، من أن عددا من الشعراء الذين يذاع صيتهم بسرعةٍ يأتي لقلّتهم وسط مجتمع فقير أمّي وجاهل، وليس فيه صراع ديني واقتصادي وسياسي كبير، بل كان في زمن الاستعمار والاحتلالات وصراع الأقطاب التي تريد لمجتمعاتنا أن تبقى خاملةً بلا تفكيرٍ جديدٍ إلا بما هو قائمٌ وحاضرٌ ومتداول، ليس كما هو الحال الآن من تطوّرٍ في التقنيات التي ساهمت في تنوّع القراءة، وبالتالي تنوّع الفهم والمعنى الذي يحتاج إلى اللجوء إلى الكتابة كنوعٍ من المواجهة والتمرّد على الحياة التي باتت صعبة.
إن الشعر هو اليافطة الكبرى، ولا ذميمة بوجود الأنواع الأخرى من القصائد، شرط أن ينتمي إلى الكتاب ذاته، وإن تعدّدت صفحات أو أوجه الإنتاج. ومن الطبيعي أمام التعدّد والتنوّع أن يحصل اختلاف في التقبّل والقبول، لكن الأمر لا يعدو كونه تراكم اللغة وترتيبها، وهو ليس في النثر فحسب، بل في كلّ أنواع القصائد، حتى قيل إن هذا الشاعر (نظّام) ومرتّب للأبيات، وحافظ للأوزان أكثر منه شاعرا، لأن قصيدته لا تحمل الشاعرية التي تجعل المتلقّي يفكّر معها.
الشعر هو الميزان الذي يضع الجميع قصائدهم بين كفتيّه، فمن ارتفعت كفّته غاب عنه الشعر، ومن توازنت كفّته، كانت في قصيدته الشاعرية التي تجعل المتلقّي يدرك أنه يقرأ شعرا، فتتخلّص القصيدة من تسميتها لتدخل إلى كتاب الشعر الواسع.