تستجمع القصيدة قواها وكأنّها عائدة من ملحمة فك الارتباط مع العالم، قصد الغناء قرب شاطئ يتميّز بخصوصية اللعب على رماله، ومناكفة الموج المفتعل للبحر حين يملّ الأجساد، أو حين: «تصرّ الموجة على الانتحار/ فوق شفاه الشواطئ/متمرّدة على روتين العناق» (دهشة لعبور البياض).
هكذا تأتي القصيدة محمّلة بعبء المصادر المثقلة بالرّوتين، المتمرّدة على أحوالها، لتسكب روحها في شساعات بديلة، لا تنكفئ أغطيتها إلا لتفرج عن عزف مدهش للغة، من هذه الصّراعات تولد القصيدة عند أحمد الدّمناتي، في بيانه الشّعري المعنون «طفل مكفّن بالقصيدة»، إذ تلغى المقاييس والأبعاد، ولا تسطع القصيدة إلا مفعمة بتشظي المعنى وبعثرته في فضاء اللاتحديد، عكس ما «جاء على لسان باتاي: أنا لا أقترب من جوهر الشّعر إلا بالقدر الذي أنأى عنه».
الغموض.. في الميلاد وما تبوح به القصيدة:
يمنحنا الشّعر برهة لتأمّل معنى القصيدة النّافرة من التحديد، هل يدرك الشّاعر مقولاته في القصيدة؟ «فالنص سرداب مظلم يفتح على منافذ من ناحية، وهو غامض ومعتم من ناحية أخرى»، حسب جاك دريدا.
«يضع دمعه فوق وجه القصيدة صباحا» (أسفار القصائد) لا يمكن إهمال الزّمن في معنى هذا السطر، لأنّ الصّباح يؤول بالفهم إلى ما قبله، أي إلى الليل، فكل ما يؤرّق الشّاعر في ليل الأسئلة، يصبح دمعة، شهقة حنينية على خدّ الكلمة التي توالدت في عثرات المرقد، لتمنح النّوم معنى مختلفا، يَقْلب أنظمة الفهم، ويرسم الصّباح كإعلان لولادة مرتقبة أكيدة، فالمواعيد الحافلة بالذّات تنجز في القصيدة المعلنة في أفق العزلة: «هي التي تقتات من كمائن العزلة» (تهمة الجنون)، تلك هي مهمّة الصّباح في غضون الكلام الشّعري، إذ لا يكشف الشاعر ألق المحبة في ليل الغربة، لأنّ الشّعر تجربة فردية، كما هي تجربة الحال الصّوفي، فالخلوة لا تكشف عن طبيعتها إلا لمن اصطفى ذاته لتختلي مع المحبوب، والعزلة اصطفاء، والدال عليها «كمائنـ» ــها، الذي لا يمكن أن يتكهّنه الشّاعر أو يعرف بحقيقة وجوده (الدال)، وإلا ما توهّج في بؤرة الوجع المضيئة، فالقصيدة: «تخبّئها النساء تحت وسادة الليل»/ذكريات رجل ملون» (بطاقة).
وعلاقة الشّاعر بالمرأة وجع مضيء، إذ لا يحتمل مفهوم النّساء المعنى القريب في الجنس، ولكنّه يجتاز بجوهره إلى الحبّيبة المكثّفة في فضاء الحلم، فما «تحت وسادة الليل» مساحة شاسعة بقدر عشق امرأة يشتغل عليها حلم شاعر، يرسم المقول بين فضاء المرقد وعالم ما «تحت الوسادة»، ولأنّ الحلم غموض، لا باعتبار تفسير مضمونه، ولكن بغرابة طبيعته، أي الحركة في اللاحركة، فالقصيدة يركبها غموض لحظتها، باعتبارها تكشف عن مسافة الحركة في اللاحركة، أو الفهم العسير لميلاد القصيدة وما تبوح به: «غراب تزوّج امرأة في السر/فأنجب قصيدة»/دهشة لعبور البياض (دهشة).
تنفتح الصّورة الغرائبية على علاقة الشّاعر بالمنظومات الوجودية الظاهرة والباطنة لإنتاج قصيدته، فالغراب ظاهرا كينونة حيوية، لكنّه باطنا دلالة في غموض السواد، و»السر» لا يكشف سوى عن الميثاق الغامض بين الذات الشّاعرة وتجليات القصيدة.
القصيدة.. هندسة المعنى ووعي الكلام:
تبني قصيدة «فخاخ الحنين» هندسة لغوية وشعرية لمعنى القصيدة المجترحة من وعي الكلام في معايشة الشّاعر لمواعيد الولادة الشّعرية. تختلف المقاطع لتنتهك الثبات في التعاريف القارة في الكراريس والمدوّنات، ترقّم سلسلة معاني تُعتبر المفاتيح الدالة في وعي الشّاعر على ما يقرأه حينما تفاجئه القصيدة بالمجيء: فـ»وحدهم الشّعراء مرايا» (فاكسات قصيرة)، يعكسون ضوء المعنى لا حقيقته، فالجوهر أمام المرآة ثنائي المعنى، أو كما يسمّيه جاك لاكان «مرحلة المرآة»، فالطفولة تكتشف ذاتها في مرايا أمومتها، والشّاعر يكتشف ذاته في مرايا قصيدته، لا باعتباره الحقيقة الواقفة أمام المرآة وحدها، ولكن باعتبار الخيال الذي تعكسه أيضا، فأيّهما الحقيقة؟ هنا يكمن سؤال القصيدة الأجمل والأبهى والأجدى.
تتوزّع قصيدة «فخاخ الحنين» على ستة مقاطع، كل كلمة في آخر المقطع السابق يُفتتح بها المقطع اللاحق في حركة أشبه بالتعريف، وجميع المعاني في الكلمات المفتاحية تصلح لكي تكون تجليا لما يمكن تسميته بالتعريف للقصيدة التي هي: «تفاحة لبياض القلب»، فتصبح بذلك إعلانا عن المحبّة لأشياء العالم، إذ لا تجتاز التفاحة بالمعنى سوى إلى بياض جوهرها، حينها يختلس الشّاعر «القبلة» باعتبارها: «سفر موجع لنسيان اللذة»، إذ لا تنقطع لذّة القصيدة، إلا حينما ينكشف السر أمام معنًى تاليا «تحت وسادة الليل»، حيث «الدّفء خرافة ممتعة لحرّاس الليل»، إذ يتخيّلون الرّحيل في أمنيات الأسرّة قرب مواقد البرد، يتحرّك خيال الشّاعر كلّما سقط شيء من متعة الرّجف، حيث لا معنى للدّفء سوى في السّفر خلال ثلوج القصيدة الزّاحمة.
«السّفر خديعة امرأة»، فهل القصيدة خديعة؟ القصيدة امرأة، تتلوّن كي تفاجئ بتدنّيها من الغواية بأشكال الحضور الممعنة في الإغراء، القصيدة بهذا المعنى خديعة ولاّدة، تمنح الشّاعر فرصة العبور إلى مسافات التوهج داخل مرايا التعدّد، إذ لا يعتبر الحضور أمام المرآة سوى غياب متتال أمام الحقيقة المتنطّطة قبالة ظل الانعكاس، فيتلاشى الشّاعر في «الجنون» باعتباره: «سخرية شفافة»، تتأثث بكل مجازات العقل، بحسبانه إدراكا عاجزا لمدارات التحوّل في جنينية الأشياء، فيتشكل الشّاعر برهة من «الحنين» لمّا يصير: «مدرسة لتربية فراخ العشاق»، فالعشق جنون، لمّا يتمرّغ في فراغ «العزلة»، ويتوخى وجه الحبيبة كشمس على صفحة نهار الكتابة، أو كقمر معلق في سماء الكلمات، ومهما تمادى به الخيال فلن تجترح القصيدة معناها سوى من حضور له معنى في مرسم الحكاية الإنسانية، إذ لا شمس ولا قمر بين يديه، إنّها تجليات السر في تنزّل القصيدة من مدارات التخييل، أو بعبارة الشّاعر في القصيدة لتعيين معنى الجنون: “فخاخ من الصّمت والحنين”.
تحييز القصيدة.. بلاغة المدينة:
تنحني المدينة لرقي القصيدة إذ تعثر على اسمها معلنا في تواريخ النص، تنبض الكلمات بالحياة، فتتهجى مواطئ قدم الشّاعر إذ يقبض على أثر من عبور الرّمز، فتتعرّى «بيروت» كما المعنى وما تدلى في جَرْسِ: «تمشط الأرجوحة تواريخ الأرز» (بيروت). لمّا لا يتبقى من الأثر سوى ما يستجمعه الصّدى من تداعيات التوثيق داخل روح الأشياء، لمّا تفيض روح امرأة بين جدران الحصار، تنبثق «بيروت جنّة الأرض على عرش الزرقة»، والموت البلقيسي موشّح بدم الغدر، فرَسَم الشّاعر طيف المدينة في هدوء «الزّرقة» ليُوازن به عنف الموت في رحيل بلقيس الأحمر. تستدعي «بيروت» شعريا في مخيال الشّاعر «دمشق» لاعتبارات المشترك الإنساني في تقاسم وجه بلقيس بدلالة الإهداء إلى نزار قباني. يقفز الشّاعر فوق الدلالة ويبني صور الأخيلة المنتجة للمدينة حين يرفل بالفرح عابرا نواعير المدينة، قابضا على سرٍّ في فرح دمشق: «وحدي أرتّب لدمشق عناوين فرحها الأبدية»، لا باعتبارها هندسة أبنية وتاريخا، ولكن كونها حارة الشّاعر الذي ودّع منفاه وعاد إلى عشّه، ولا يقيس هذه المسافة الوجدانية، سوى شاعر خبر مراقص الفرح في دموع العثور أخيرا على أمكنة الميلاد، ولهذا رمّم الشاعر صورة «الجديدة» كمنطقة في جغرافية الشعر أوّلا: «الجديدة لا تعانق إلا أطفالها/القادمين من خرائط الأمكنة والنّسيان»، بهاء اللقاء مع المدن هو البحث عن حقائقها في كينونة الداخل الإنساني، إذ لا صورة للمكان سوى تلك التي نحتفظ بها منذ شهقة الميلاد، ولهذا نشعر بأدنى تغيير في هندسة المدينة، وكم يصير اللقاء مرّا كلّما تغيّر وجه المدينة التي كنّا نعرفها، أي تلك التي استقرّت هويةً في «خرائط الأمكنة والنّسيان»، ولهذا لا يخصّ مدينته «طنجة» بقصيدة، وهذا منطقي بمنطق الشّعر، لأنّها ترقد في دهاليز جوّانية الذات، صورة للذات نفسها، مخيالا يواجه النّسيان، لكنّه نسيان باعتباره سوف يستفيق كلمّا اشتدّ الحنين وتاه الشّاعر «كطفل بريء» وجد «العيون سراب» «وطنجة موجة نائمة على خدّ نورس» وشـــم على ذاكرة البحر، فعلى الشّاطئ لا نستسلم سوى لنسيم الموج يجتاز بنا درب الحضور، فتغيب العيون عن التراشق بشبيهاتها، لكن تظل دهشة المكان عالقة كما هيام الطفل البريء في عالم الرّشد، وذهول العيون أمام امتداد البحر، لهذا لا يمكن أن نفسّر ارتباطنا وعلاقاتنا بالأمكنة، نحن نحاول فقط أن نربط العلائق لنقع على المفهوم، فأمكنة الميلاد راسخة في بطن المعنى وعمق الذات، ولهذا لم تعنون طنجة بقصيدة لأنّها هي الذات، وهي ذاتها قصيدة.