إذا كان من خصائص الطاقة، إنها زاخرة ومخبأة في المادة، وعملية اكتشافها طبيعياً، يختلف عن استخدامها والتحكم الواسع والمنظم بها لدى الإنسان، فإن الرواية والقصة طاقة مختزنة داخل المجتمعات، يكتشفها السرد ويرتقي استخدامها الواسع والمنظم عبر تحولات الأنماط الاجتماعية.
يرى إدغار موران نقلاً عن ماركس أن» الأشياء الاجتماعية، تمتلك طاقات بشرية مستترة وزاخرة»، والفنون السردية هنا هي إحدى هذه الأشياء ومنها، القصة والرواية غير إنها ليست طاقة جاهزة في أي زمان ومكان، إنما هي محكومة ومرتهنة بالنمط الاجتماعي الذي يختزن قدراً محدوداً من الطاقة الكامنة القابلة للاكتشاف والاستخدام في صيغة معينة، فالمجتمع البدائي، ينتج أيقونته الأولى فيما مجتمعات الحواضر، تكتشف وتستخدم طاقتها الأسطورية والملحمية، والنمط الحديث للمجتمع المدني والصناعي، يقدم نموذجه الواقعي والمتخيل.
والمفارقة، أن مجتمعنا العربي والعراقي موضع البحث في العهود الحديثة، يمتلكان الطاقة الكامنة بوصفها خزيناً أسطورياً وملحمياً وحكائياً مختلطاً، عبر الحقب التاريخية فيما تواجه مجتمعاتنا منذ عقود اندماجية بناءها الحديث، دون أن تنسى أو تتخلص من ذلك، وهذا شيء طبيعي، يحمل الكثير من العلائق التي تشكل بمجموعها بناء النوع أو النموذج القصصي والروائي المعاصر.
هناك عوامل مهمة ومبكرة في تاريخ كتابة القصة القصيرة والرواية بوصفهما نوعاً أدبياً، في العراق على سبيل المثال، غير أن تلك العوامل على أهميتها النسبية، يجب أن تُدرس كونها مرافقة وموازية للمتغيرات التحديثية العامة في سياق الفضاء الاجتماعي والتاريخي للبلاد، كونها طاقات مخبأة، يتم اكتشافها واستخدامها عبر أنساغ تاريخية مرتجعة من أصول حكائية ودينية، يختلط فيها السمعي بالبصري والذاتي بالكوني والشفوي بالكتابي والأرضي بالسماوي. وكانت ولما تزّل متغيرات تحديث الدولة والمجتمع العراقيين الحديثين منذ نشأتهما، تُشبه أوصال متقطعة ومنقطعة وغير منتظمة ومتذبذبة إزاء البنيات التحديثية التي جرت في العالم، ولم تتخذ منحى تراكمياً طبيعياً متصاعداً ومتضافراً في سياق فضائها الاجتماعي والتاريخي طيلة العقود الماضية. كل شيء في البعد الاجتماعي لما يزّل قبل الدولة، وكل شيء في الدولة مصطنع ومبكر على تشكيل المجتمع، وبذلك وسمت، أو وصمت أيضاً كل بنى التحديث بهذا النمو القلق، فيما ترتبت على حال نشوء وارتقاء وصيرورة أكثر الأشكال التحديثية ومنها فنون السرد، وتعالق هذا النمو المتراوح حتى في نماذجها اللاحقة والنهائية، قصص وروايات حد هذه اللحظة.
على سبيل المثال أيضاً، هناك عاملان مهمان ومبكران في تاريخ القصة العراقية بوصفها مقالاً اجتماعياً أو سياسياً آنذاك، ومدى تأثرها البسيط المتدرج وتصاعد وتائر أساليبها وأشكالها التعليمية والإصلاحية والأيديولوجية، التي لا تمثل قيمة فنية جوهرية في هذا اللون من الفن القصصي الحديث، بقدر ما تمثل الخطى التأسيسية الأولى المرتهنة بمستوى النمط الاجتماعي شبه الراكد وشبه التحولي، وهذان العاملان هما، أولاً، إعلان الدستور العثماني أو التركي في مطلع القرن العشرين، وثانياً ترجمة الرصافي عن اللغة التركية لرواية نامق كمال المسماة «الرؤيا في عام 1909»، وهما الحدثان الأبرزان اللذان تركا أكبر الأثر في ولادة أولية لشكل قصصي عراقي نامٍ على نحو ما يدعى « قصص الرؤيا» كما يذكر عبد الإله أحمد في كتابه «نشأة القصة وتطورها في العراق 1908- 1939».
وإذا كان الدستور العثماني، يعكس المستوى الانتقالي لطاقة الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية، ومخاض المجتمع التركي لما قبل التحديث آنذاك، في استيعاب الصدمة التحديثية المدنية في السلطة والمجتمع، بما كانوا يسمونه «الأوروبة»، أي نقل وسائل العمل بالأساليب الحديثة في إدارة السلطة والمجتمع كالحياة البرلمانية وتشكيل الأحزاب وغيرها، إذا كان كذلك فإن الولايات العراقية التابعة للإمبراطورية العثمانية ومنها بغداد، كانت في الظل وعلى درجة غير مباشرة تماماً من انعكاس المتغيرات العامة والثقافية منها على وجه الخصوص، ومع ذلك، تمكّن عدد من المثقفين والأدباء العراقيين من تشكيل خلايا ثقافية علمانية طامحة لإنشاء طبقة ثقافية بخصائص محلية، متأثرة بصورة الأصل التركية، وسرعان ما ذوت واختفت إبان قدوم الإنكليز إلى البلاد وقطع البوصلة الثقافية باتجاه آخر.
لقد واجه المجتمع التركي صدمة التحديث، باستبدال الفهم الديني في إدارة الدولة باليقظة القومية، أو نمو الشعور الوطني، ورافق عملية التجديد، أن الفوارق الثقافية والسياسية والاقتصادية في الفضاء الاجتماعي لم تكن على درجة كبيرة من الفجوات وعدم الانسجام في ما بينها، على سبيل المثال، كان الأديب والمثقف القومي نامق كمال نفسه، هو أحد أعضاء لجنة كتابة الدستور، على السواء مع وجود خبراء الاقتصاد والسياسة. في المقابل فقد وجد المثقفون العراقيون أنفسهم مغربين إزاء النسخة التركية من التحديث لاشتمالها على الشعور القومي الخاص في ثقافة مجتمعهم فعملوا ومنهم، الرصافي على البحث عن النسخة المحلية في تشكيل خلايا أولى لم تأخذ وقتها المناسب لكي تنضج وتتبلور، حتى جرى قطعها المعرفي بعد مجريات الحرب العالمية الأولى ودخول الإنكليز العراق. وفي خضم هذه الحقبة، فرض الفضاء الاجتماعي طاقته المتعثرة بالضرورة وأفضى إلى صيغته التعليمية والوعظية، كغرض قصصي وروائي، في ظل صحافة هي الأخرى تعاني من عدم الثبات، ولم ترق لتكون مشروعاً اقتصادياً ليبرالياً، كما يقول عبد الإله أحمد في كتابه آنف الذكر، ولن يتأتى لها أن تكون وسطاً حيوياً باثاً ومستمراً، مثلما حدث في الشام ومصر. وفي خضم هذه الحقبة أيضاً، كتب سليمان فيضي روايته الإيقاظية متسلسلة في صحيفته « الإيقاظ» آنذاك، كما كتب عطا أمين وآخرون قصص «الرؤيا».
ولعل «الرواية الإيقاظية» لسليمان فيضي، تمثل نموذجاً متقدماً وموثقاً لقصص وروايات الرؤيا، التي يرجع تأثيرها عبد الإله أحمد إلى الدستور العثماني وترجمة الرصافي لرواية نامق كمال «الرؤيا» كما ذُكر آنفاً. وقصص الرؤيا هي تقنية، تعتمد الكرى والطيف والحلم كواقعة في إضفاء الجانب الخيالي والرمزي على مجريات وعناصر القصة، وتعد استهلالاً نصياً متخيلاً، تخرج من أعطافه الرواية كلها، فالوقائع هي آمال طيفية في ما يراه النائم، أو يوحى إليه ليسترجعها من الذاكرة، وتعد نسخة اليقظة استعادة واقعية عن أصلها الرؤيوي. وهذه التقنية في تجذرها الفني، تعود إلى الخزين الحكائي الموروث عبر الأحقاب، أكثر من أن نجد ما يماثلها في تاريخ الكتابة القصصية ونماذجها الغربية. والواقع أن قصة الرؤيا كما يرى عبد الإله أحمد هي «وسيلة لكشف حجب المستقبل الغامضة» إلا أنها على المستوى التقني، فإن القصة لم تتخط واقعة الرؤيا الأساسية، وتظل في مستواها الحكائي، وما النص القصصي إلا محاولة لاستعادة الحلم وتفسيره وتحققه المثالي الذي لا تبارحه القصة. وإذا كان الأديب نامق كمال قد أفاد من مصادر الإصلاح الأوروبي وتأثره بمونتسكيو في عالم الرؤى، الذي يستخدمه في كتاباته، كما يذكر عبد الإله أحمد، إلا أن ذلك لا ينفي مرجعية كمال الشرقية بوصفها مختزنا تاريخيا أيضاً.
كان فيضي قد جعل من رؤياه، عتبة نصية، تقف في موازاة روايته إذ أطلق عليها « «مقدمة المؤلف»، الذي يرى في منامه محفلاً عظيماً مزدحماً بخيرة الرجال، وفي هذا المحفل المهيب، تولد روايته وتكتمل مثل صور سينمائية متلاحقة لصندوق العجائب، عند محل للصور المتحركة في منطقة العشار في البصرة، كما يذكر المؤلف، وهي مفارقة رؤيوية كأنها تمثل كسراً واقعياً صلباً في مسار الطيف وقدرة المتخيل عبر تنويعه بصور واقعية مضافة.
إن المقدمة الاستهلالية التي أمليت على المؤلف في الحلم، هي الصور المستترة للوقائع المستعادة داخل الرواية، وهنا يكون الحلم مثل الصندوق الأسود للنص، فيما يكون تفسير وكشف المستقبل هو فك لغز الكرى، إلى نتائج تحققه في النص، فالرواية هي ترجمة فنية للحلم وتتطابق معه مثل حلم كلكامش، الذي تفسره الآلهة الأم، ثم تبينه الوقائع، أو مثل المعبد الكبير أي ننو، الذي بناه الملك جوديا أثر استعادة الأوامر الإلهية التي تلقاها في الرؤيا. وهذا لا يعني أن الحلم في النص الملحمي هو مجرد كاشف للحجب وبيان المستقبل حسب، كما في قصص الرؤيا، بل هو جزء من البناء الفني ويتخطاه النص إلى طرح مقولة فنية أوسع، فلم تنطبق الرؤيا لدى كلكامش مع النص الملحمي، إنما تجاوزته إلى نتائج فنية جديدة، كانت كاشفة لفعل آخر في سياق الأسطورة. إن الملحمة متماسكة مع فضائها الاجتماعي، وتمتلك طاقة فنية زاخرة بوسعها إنتاج نص متكامل ولكن قصص الرؤيا متعثرة الطاقة في أبعادها الاجتماعية والتاريخية، وتعتمد النسغ التاريخي الروحي والديني المرتجع، الذي يعلو على النص بمعناه الحديث.
تستخدم قصص الرؤيا في أحد مراجعها المختزنة تقنية الحلم، المأخوذة من البناء الملحمي، كونها مخبأ أسرار النص، وهذا يعني منذ البدء أن العمل الفني في مكان آخر، متداخل، فيما تعد الملحمة الحلم هو الواسطة بين ما تبغي الآلهة إبلاغه إلى البشر، فالإله أيا مثلا – كما يقول فاضل عبد الواحد في كتابه» الطوفان في المراجع المسمارية» – أفشى إلى الإنسان أسرار الآلهة، التي تخطط لمعاقبة البشر بالطوفان، غير أن هذا الإفشاء جاء عن طريق مخاطبة جدار في كوخ القصب ليسمع زيوسدرا عبره، ويزيد من استيضاحاته أمامه، وكأن جدار القصب هو الذي يتكلم، مثل رؤيا ثم تتوالى الوقائع وما كان الحلم سوى أداة لإيصال الصوت الإلهي إلى البشر، فقط فيما يضيف الإنسان صوته مكملاً بناء النص.