بعد خَمسٍ جِئْتِني، يا ذكرياتي
والأماني بَيْنَ موتٍ وحياةِ
بعد خَمْسٍ، يا لهَا في السنواتِ
حَمَلَتْ كلَّ ذنوب الكائناتِ
صَاح فيها زُحَلٌ بالظلماتِ
فَطَوَتْ نجمي وسدَّتْ طُرُقَاتِي
وَرَمَتْ شملي ببينٍ وشتاتِ
والصِّبَا نشوانُ والحبُّ مؤاتي
فاحفظيها في المآسي الخَالداتِ
أو دعيها واذكري لي خطَراتي
أرجعي لي بعضَ أحلامي، وهاتي
صَفْوَ أنغامي، وردِّي صدحَاتي
حدِّثي ليلة خُضْنَا «الأبيضا»
في سكونٍ خِفْتُهُ أن ينبضا
ودُجًى كالسُّخْطِ من بعد الرضا
قد دعونا نجمَهُ أن يُغمضا
جثم الرعبُ عليه فنضا
لججًا سودَا وظلًّا مُقْبِضَا
كلما عودُ ثقابٍ أو مضا
دفَع «النيلَ» وأرغى، ومضى
يُنْذِرُ الركب فماجوا رُكَّضَا
وادَّعى منهم خبيثٌ عرَّضا
أنَّ نجمًا «هتلريًّا» مُغْرِضًا
شَعَّ نارًا وتوارى في الفضا
ذكرياتي كيف أقبلتِ إليَّا؟
كيف جُزْتِ البرَّ والبحرَ القصيَّا؟
كيف خُضْتِ الكون لجًّا دمويَّا
وشُواظًا طاغِيَ النار عتيَّا؟
ذكرياتي جدِّدي هذا الرويَّا
وابْعثيهِ نغمًا عذبًا شجيَّا
ما عجيبٌ أن تردِّيهِ عليَّا
بل عجيبٌ أنني لا زلتُ حيَّا
أتلقَّاكِ، وكأسي في يديَّا
ونشيدي ضارعٌ في شفتيَّا
طاف بي شاديكِ يدعوني مَلِيَّا:
أيها الملَّاحُ، حان الوقتُ، هيَّا؟
حان أن ننشر خفَّاق الشراعِ
يا سفيني ويكِ! هيَّا! لا تُراعِي
قد تدانى البحرُ من بعد امتناعِ
وغَدَتْ «فينيسيا» قيدَ ذراعِ
هذه الجنَّةُ، يا ويح الأفاعي!
نفثتْ في زهرها سُمَّ الخداعِ!!
آه، دعني من أحاديث الصراعِ
ضاع عمري! ويحَ للعمر المضاعِ
فالتمس نَهْزَةَ حُبٍّ ومتاعِ
تحت أُفْقٍ صادحٍ صافي الشعاعِ
يا شراعي، طُفْ بهاتيكَ البقاعِ
وتهيَّأْ للقاءٍ ووداعِ!
أيُّها البحر! سفيني ما عَرَاهَا؟
رنَّحتها نبأةٌ رقَّ صداها
أوَحقًّا قَرُبَتْ من منتهاها
هذه المحنةُ وانجاب دُجاها؟
أغدًا تستقبل الدنيا مُنَاها
حرَّةً تشدو بمكنون هواها؟
وأرى حُرِّيَّةً عَزَّ حِماها
لم يُضِعْ عُقباهُ من مات فداها؟
أيُّها الشرق! تأملْ!! أتَراها؟
أنت مِنْ داراتِهَا أين سَنَاها؟
ذُدْتَ عنها وتقدمتَ خُطاهَا
يوم قالوا: خَسِرَ الحربَ فتاها!
أيَّ بشرى زفَّها أرخمُ لحنِ؟
من تُراه ذلك الطيف المغنِّي؟
مسَّ قلبي صوتُهُ إذْ مسَّ أُذني
ألِحُبٍّ، أم لسلْمٍ، أم تمنِّي؟
يا بشير السِّلم، لا يكذِبْكَ ظنِّي
أنا ظمآنُ إلى الشدو، فزِدني
عبرتْ بي الخمسُ في صمتٍ وحُزْنِ
أيُّ خمسٍ بعدها تمتدُّ سِنِّي؟
صاح قلبي: إنْ تَدعْني لستَ منِّي
افتح الباب ونَحِّ القيْدَ عَنِّي
آهِ، دعني أُبصر العالَم دعني
قد سئمتُ اليوم في أرضِيَ سجني!
ما ثوائي في مكانٍ، ما ثوائي!
هو ذا الفجرُ فهبُّوا أصدقائي!
اِفتحوا نافذتي عَبْرَ الفضاءِ
اِفتحوها لأرى لونَ السماءِ
في ظلالِ السِّلم أو نورِ الصفاءِ
حنَّ قيثاري لشعري وغنائي
فانشُدوني بين أمواج الضياءِ
وانشُدوا فوق «البحيراتِ» لقائي
لا تقولوا: كيف يشكو من بقاءِ
شاعرٌ في موطنٍ حالي الرواءِ؟
قد ظلمتم دعوتي، يا أصدقائي
وجهلتم ما حياةُ الشعراءِ!!
يا ابنة «الإيزار» حُيِّيتِ، سلامَا
وغرامًا، لا عتابًا، لا ملامَا
هذه الحربُ التي راعت ضرامَا
شَبَّها طاغٍ بواديكِ أقامَا
ذُقْتِ في الغربة وجدًا وسَقامَا
أتُراها لم تَطِبْ مصرُ مُقامَا؟
مصرُ كانت لمحبِّيها دوامَا
لم تُضِعْ عهدًا ولم تَخْفُرْ ذمامَا
فاذكري في الغد أحبابًا كرامَا
إنْ ألمَّتْ بك ذكراها لِمامَا
واذكري بعض لياليها القُدَامَى
في ضفافٍ حَمَلَتْ عنكِ الهُيامَا
في ضفافٍ كلُّ ما فيها جميلْ
تُنْبِتُ الحُبذَ، وتُنْمي وتُنِيلْ
يخطرُ الفجر عليها والأصيلْ
بين صفصافٍ، وحورٍ، ونخيلْ
يَدُ «هاتور» على كل جميلْ
تنشرُ النُّوَّارَ في كلِّ سبيلْ
و«أزوريسُ» على الشطِّ الظليلْ
يَعْصِرُ الخمرَ، ويَسْقِي السلسبيلْ
هذه مصرُ ديارًا وقبيلْ!
ألها في هذه الدُّنْيَا مثيلْ؟
عجبًا لي، وعجيبٌ ما أقول!
كيف يدعوني غدًا عنها الرحيلْ؟!