حاول تيموثي برنن أن يُؤرخ لإدوارد سعيد من خلال كتاب “أماكن الفكر: حياة لإدوارد سعيد”، ما لم يؤرخه إدوارد عن نفسه في سيرته الذاتية المعنونة بـ “خارج المكان”(ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب 2000). وبرنن هو تلميذ سعيد، وهو الآن أستاذ الأدب المقارن والدراسات الثقافية واللغة الإنجليزية في جامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة الأمريكية.
وصدر كتاب أماكن الفكر باللغة الإنجليزية في عام 2021، وتُرجم بواسطة الأكاديمي والباحث محمد عصفور عن عالم المعرفة (وهى مجلة شهرية تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت).
جاء الكتاب الذي أصدرته عالم المعرفة في 500 صفحة تقريبا، احتوت على 12 فصلا.
تدريجيا، يتنقلون بين حيوات سعيد المُختلفة منذ الطفولة مرورا بصولات العمل الأكاديمي والفكري والسياسي حتى آخر لحظات العُمر.
ويفصح برينان، عن سببين لاختياره اسم “أماكن الفكر” ليكون عنوانا لِكتابه، فالسبب الأول كونه يجسّد أحد الجوانب الحاسمة للتجربة الفلسطينية من دون حاجة إلى الإسهاب في الحديث عن فلسطين، على غرار قصيدة محمود درويش “رسالة من المنفى”؛ أمور مثل حرمان المرء من حقه في العودة تجعل من المحنة الفلسطينية نموذجا يتجسد ذهنيا عند سعيد، ليجعل ذلك من فلسطين مكانًا للذهن بدل أن يكون مكانًا للسكنى.
أما السبب الثاني هو إبراز اهتمام سعيد العميق بالجغرافيا طوال حياته المهنية؛ لقد جعلته تجربة السلب هذه مدركًا -كما يتضح في كتابه الثقافة والإمبريالية- أن المشروع الإمبراطوري يدور قبل كل شيء حول احتلال الأراضي، إن الحرب بين الشعوب هي في الأساس معركة على المساحة، فرجل يؤكد قوة الأفكار مثل سعيد يدرك أن الأرض شيء مادي غير قابل للتفاوض أو التحويل.
ويدور الكتاب، من الفصل الأول وإلى الثالث، حول الشرنقة والبدايات الشبابية لإدوارد سعيد، انتقاله من فلسطين إلى القاهرة ومن ثم الولايات المتحدة الأمريكية التَحاقا بالجامعة.
وركز تيموثي خلال هذه الفصول على إبراز ما لم يكتبه سعيد في سيرته الذاتية “خارج المكان”، أيضا على تحليل أكثر عمقا لملامح النشأة عند سعيد، علاقاته بأسرته، أخوته ووالديّه، وعلاقاته العاطفية والزيّجية وغير ذلك.
ويصف برينان مدى تأثير القاهرة في سعيد قائلا: “بيد أن القاهرة كانت هي المدينة التي رسا مركب طفولته فيها، ربما كانت القدس مركز فلسطين التاريخي، والمكان الذي وُلد وعُمِّد فيه، والذي حجت إليه العائلة باستمرار، والذي حصل فيه على تعليمه المدرسي المبكر، ولكنه يذكرها كأنها مدينة نائمة لا ترحب به بالمقارنة مع الحياة المدنية المثيرة في القاهرة، وفي الخلفية منها قلاع القوة، وعالم من القوادين، والنصابين، والشخصيات المشبوهة من الذين هربوا من أوروبا وغيرها.
وفي العشرينيات من القرن العشرين كان خمس سكان القاهرة من الأجانب، واختلط الأقباط المصريون باليهود السفارديم، وباليونايين، والإيطاليين، والفرنسيين، وأعداد لا تعرف من الروس البيض، والفرس، والمونتينغريين، وغيرهم من الغرباء الذين وصفهم سعيد بأنهم خليط مكتظ من المتاهة الثقافية”.
وتدريجيا، يغوص برينان من الفصل الرابع إلى الثاني عشر في حياة سعيد، بدايةً من تعيينه أستاذا للأدب المقارن بجامعة كولومبيا، ومن ثم وفي خلال سنوات متتالية، زاد صيت إدوارد سعيد، وقد التحق بجامعات أخرى، عن طريق العمل التدريسي والزمالات البحثية وإلقاء المُحاضرات، في جامعة هارفارد 1974، وجامعة جونز هوبكينز 1979، وجامعة بيل 1975-1976. فضلا عن مئات المقالات التي كانت تُنشر له في مجلّات وصُحف إنجليزية وعربية، لتصل كتاباته إلى العالم كُلّه.
يُفصّل برينان كواليس علاقة سعيد بالثقافة والفكر بشكل عامٍ وخَاص، ما يشغل باله من قضايا تكلّم وكتب فيها، النقد الأدبي، الاستشراق، السياسة، والإمبريالية والاحتلال الصهيوني لفلسطين. من تناقش معهم ومن تأثر بهم، مثل كارل ماركس وأنطونيو غرامشي وتيودور أدورنو وفرانز فانون، في موضوعات السياسات الثقافية للاستعمار والاستبداد، فضلا عن نظريات وممارسات التحرر والعمل الثوري المُنظم.
هذه الثقافة التي اشتبك معها سعيد، كانت بوابته للدُخول المرموق للعمل السياسي، بعدما كان بعيدا عنه منذ الطفولة برغبة وحرص شديد من والده إلى أن تخرّج من الجامعة في الولايات المُتحدة الأمريكية، وبعد أن كان يُنسب جنسيته إلى لبنان تجنبا الحرج في قول فلسطين، أصبح أبرز المُثقفين والعاملين من أجل تحرير فلسطين.
وسرد تيموثي كواليس لقاءاته ومعرفته بشخصيات فلسطينية وعربية، كانت مؤسِّسة وقيادية في التنظيمات الفلسطينية، مثل شفيق الحوت وهو شخص مُقّرب جدا من سعيد، وياسر عرفات وخليل الوزير ووليد الخالدي وصلاح دباغ ومحمود درويش وغيرهم العشرات.
ومن المعروف عن سعيد أنّه هو الذي صاغ الكلمة التي قالها أبو عمّار في زيارته إلى الأمم المتحدة في نوفمبر من عام 1974.
ويتنقل برينان بسهولة وبراعة ودقة ومهارة بحثية كبيرة، بين حياة سعيد الشخصية ومدى علاقاتها بالحياة الفكرية والمِهنية، دون أن تشعر أو تفصل بينهُما، وبما لا ينتقص من معرفة ومكانة إدوارد الفكرية والثقافية، بل وما يؤكد عليه تيموثي أن سعيد لا يجب أن يُختزل في مرئي من يعرفه حول كتابه الاستشراق.
ويقول: “سعيد أكبر من أن يختزل في كتابه “الاستشراق”، بل يمكن أن يكون “الاستشراق” ليس أهم أعماله، وهنا تجب الإشارة إلى أنه لم يقدم أحد حتى الآن كتابات أفضل مما قدم سعيد عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعن أصول الصهيونية ومعناها، فَكتابه “قضية فلسطين” هو إبداع أكاديمي، خاصة فصله المعنون بـ”الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها”؛ وكذلك كتابه مع كريستوفر هيتشنز “إلقاء اللوم على الضحايا”، فإنه يقدم كتابات تمهيدية بصوت بشري قوي لا يشبه أي شيء متاح في أي مكان آخر”.
وحياة سعيد التي امتلأت بالأماكن والفكر والناس، الأماكن تحديدا التي ارتبطت بشكلٍ مباشر بالفكر، وهذا يظهر جليا في مكان دفنه، فلم يُدفن في القاهرة أو فلسطين أو الولايات المُتحدة الأمريكية، إذ اقترح أقرباء مريم (زوجة سعيد) أن يُدفن في مَقبرة صغيرة لجامعة الكويكر مغطاة بالأعشاب وسرب من الأشجار تقوم على تلة منحدرة في برمانا بلبنان. هناك يرقد شاهد بسيط من الرخام الأسود كتب عليه اسمه (إدوارد سعيد، edward said) بالعربية والإنجليزية.