ريم النقري، والمجاز المحفوف بأرتال الحرب والحب
كما أنّ “كل الأشياء قابلة للغفران، إلا ّ تلك الأحلام الممزوجة بكفّ المقابض العتيقة بعطر قَصيّ”، على حد استهلال الشاعرة المبدعة والكاتبة الاستثنائية ريم النقري، في أحد نصوصها الفارهة، الذي بين يدينا، فإنَّ كل الدُّروب تؤدي إلى الحب إلا الدرب الذي يتحول فيه الإنسان عن إنسانيته إلى جهة الجهل المدقع الغافل عن الكيان العظيم الذي أودعه الله في ذات هذا الإنسان، إذ كيف لأيّ ذي قلب ولُبٍّ أن يجد أسباب المحبة والمودة أمام ناظريه، ويعزف عنها إلى العداوة والبغضاء والحرب والقتل؟!!
إنَّ السير في دروب إنسانيتك يكلفك ثمنًا باهظًا أحيانًا، وكل ما عليك فعله حينئذ هو أن تخلع خُطاكَ برفقة العاصفة، بحسب تعبير كاتبتنا التي تختار القليل الثمين من زاد الرحلة بديلاً عن الكثير الفارغ.
في رأي ريم النقري أنَّ “كلّ الأشياء قابلة للانعكاس، إلاّ ذلك المطر الذي يعزف في الهواء بكاء قصيدة يغسل بها أوراق
الّتين و الّزيتون”، حيث إن المهم والمطلوب من وراء انسكاب قطرات الغيث هو أن تروي غليل الأرض ولا تبقى مجرد انهمارات عابرة ” خارج احتمالات السّماوات”، فما قيمة القَطر إن لم يروِ الأرض وينبت زهور القلب؟!!.
تؤكد ريم النقري عدم نسيان الحنّاء الذي تطرِّز به نسغها وتنقش بها حرفها، وتفضّل نزيف البراءة على دموع التماسيح التي يذرفها أهل الغوايات المتلفحة بأشكال التدين المغشوش في مجتمعاتنا.
تؤكد -أيضًا- أنها لم تختر غُربة الروح عن موطن الروح برضاها، وإنما تحاول أن تجعل الضّوء المهاجر سفيرًا للنوايا الحسنة، من دون أن تتجاهل فراقد الشوك الملقاة في دروب المهاجرين إلى منافي أقدارهم.
تؤكد بقاءها على العهد وصونها لذلك الحب العظيم، حب الأرض/ الوطن، وابن الأرض، وحفظ مواعيد اللقاء مع مستقبل الوطن الأكثر بهاء رغم ارتمائها بأحضان “وديان الماء الباسم”.
إنها تؤنسن الموجودات الثابتة وجماد الأشياء وتحولها إلى شخوص ترى وتسمع وتتكلم وتحس وتشعر وتفرح وتحزن وتتألم.
ينثال الألم على شريانها..
تعضّ على وجعها.
يرتبك خشوعها.
يتربع على العرش غضبها.
ورغم أنها لا تنكر ولا تنسى ذنوبها، إلا أنها لا تحب قبول الأعذار الواهية التي تشبه الرغبات.
هي تجعل للإعصار مقاسًا، وللنسيان مدى، وللحِداد موسيقى، وللثرثرة بُعدًا جماليا.
ثم كما بدأت استهلال نصها، وكما استأنفت عرضه، حول فكرة مركزية هي عدم نسيان الأصول القيمية التي تربت عليها وفي الوقت نفسه تألمت منها، ها هي تختم نصها بدلائل تضيف معنى مسكوتًا عنه إلى معنى ظاهري، فتقول: إنها “ما نسيت ارتعاشة جسدها” ولا موّال صوتها المتصاعد في كل سانحة، وكأنما هو “يرصد مرايا المنافي ويفضح عشوائيّة الآمال المعلّقة على نياشين الفراغ”. موال “مزجته بكحل الدّمع المتأهب على زجاج خدّها”، وهذا تشبيه بليغ يضم في ثناياه معاني تعادل رقة القلب ونضرة الوجه وترقرق الدمع.
مجازات تتحول بين يدي الريم النقري إلى ما يشبه الحقائق، فتتماهى الأشكال المجازية مع المعاينات والمشاهدات والوقائع الحقيقية التي تحيل عليها، من خلال مرجعيات ذهنية تسكن الوعي الجمعي وتعبِّر هي عنها بطريقة استدعاء الذِّكريات، من خلال إحالة المتلقي إلى مشارب ومظان تلك الذكريات التي تزخر بها ذاكرة الإنسان عبر سردية طويلة من معاناته في أقدم الأوطان.
كل ذلك لا يعني أن تنسى بلادها ولا ابتسامات الأطفال وهم يتضمخون بالدم، لينهال حِبر القصائد حاكيًا قصص سنابل الخواء، ومحاكيًا ظلها الواقف إلى جوار كتابٍ من قصص الهوى، لكن الشيء الذي حاولت ريم أن تتناساه قسرًا كان “ريم”.
النص
زكام حرب وحبّ
كلّ الأشياء قابلة للغفران
إلا تلك الأحلام
الممزوجة بكفّ المقابض العتيقة
بعطر قَصيّ
تمزّق نياطها برفقة عاصفة لمساء قريب
كلّ الأشياء قابلة للانعكاس
إلاّ ذلك المطر الذي يعزف في الهواء
بكاء قصيدة يغسل بها أوراق التّين والزّيتون
خارج احتمالات كلّ السّماوات
أنا ما نسيت حنّاء نسغي
النّازف كقوس قزح
استودعته بأوردة الغيب حتى تشرنق
في منافي البراءة
عصيانا مدمّى
وقهوة شرقيّة مرّة
ولا نسيت غربتي في سلالة الضّوء المهاجرة
ألقيت سرابيل الشّك في تنّور الرّمل صفحاً
فتفرقدت أشواكا خلف نقيع النّبض
تنسّمت في بقاع كياني إبر قيد رحيم
تصفّق شتما في قصب الوريد
ما نسيت وعدا وقعتّه صكّ طهر
في وديان الماء الباسم بيننا
لكنّك تُوقد في كلّ مرّة
نار صورتي فيك
فتؤلم شرياني الفارس
فأعضّ على وجعي
وأحتسي نبيذ غيرتي وأغنّيك
خشوعا / ارتباكا مباغتا
لأكون ملكة غضبي
مذنبة أنا رأيتني فيك
لا أريد أن أعاتبك أمام الحروف
دعها تنم !
لأقول لك :
كم مسحت رغبتي بك لتأتي
كلّ الأشياء شهيّة تشبهك
عذراً (متمرّداً )
لم يكُ على
مقاس إعصارك
فنسيتني
أنا مانسيت ثرثرتي مع كمنجات الحداد
حنّطت فمي الأرعن عن الحلم البخيل
ولملمت انشطاراتي العادلة
ولا نسيت مخالب الضّمائر المنتفخة
في محطّات الغبطة العارية
أقفلت فم الإرسال عن بث دم الزّهور
وكفى..!
ما نسيت ارتعاشة جسدي
وانا أحيكُ موّالا صاعداً سفراً
يرصد كل مرايا المنافي يفضح
عشوائيّة الآمال المعلّقة على نياشين الفراغ
مزجته بكحل الدّمع المتأهّب على زجاج خدّي
وقطّرته بعيون عنادل بلادي المهاجرة
تميمة ذكرى لاذعة في مجرّة الطّوفان
ما نسيت ابتسامة الدّم
ولا حمرة الخجل
ولا حبرا فيّاضا
بآهتي النّائمة
في رداء الفناء
ولا تركت ذاك الصّدى المتكسّر
فوق سنابل الخواء
بل توحدّت فيه شراعاً شرعيّا
يستر جوع الوقت الآثم
لكنّي
نسيت أنا يا أنا
في تذكرة
فادحة الإضراب
وأنّي أسقط دوما في زلّة قصيدة
مصابة بزكام حرب وحبّ
أزفّ فيها عروسا متمرّدة
حافية المجاز ..