يتداخل الشعر والثقافة والإعلام لتشكل كيانا جماليا يتطور باستمرار، منتجاً مستويات من الحياة. عدنان ياسين، لست أدري هل أقول إنه ظاهرة أم افتتان، «والافتتان لا يكمن في طبيعة الفن، حسب ويستان أودن، لكن في الأسلوب المتبع في العمل» لأن ما ينجزه تختلط فيه الظاهرة باعتبارها فتنة تستدعي الوقوف والانتباه، الفتنة باعتبارها ظاهرة، أساسها الجمالي انجذاب لما يحرك العقل ويثير الوجدان، خصوصا وهو الشاعر المنتقل إلى مساحة الإعلام، المتعثر بالرواية، والقافز من «مشارف» إلى «بيت ياسين» إلى تجربة فريدة «في الاستشراق». وفي جلسة «مراكشية» رفقة الإعلامية عزيزة نايت سي باها انكشفت بعض معالم تفكيره وإنتاجياته المعرفية والجمالية.
الشعر وهشاشة الإنسان
يبقى الصوت الطري للشعر عالقا بين الشاعر والعالم، العالم باعتباره المسافة التي يقتضيها الحلم كي تتجدد الأشياء وتتهيأ ليصوغها النبل المقولي، وفي هذه المسافة ينبثق عدنان كـ»هشاشة» تتطلبها الطبيعة الجوهرية للإنسان، لذلك فهو يرى أن «الشعر موطن الهشاشة» وهو يذهب إلى الشعر هشا، ولعل الرؤية إلى الهشاشة الكامنة في الشعر والمتجذرة في الشاعر، توقظ الإحساس فيه بأن الجسر الذي يربطه بمصدرية الكلمات المباغتة، رغم مجهوليته، لكنه يشهد على أن القصيدة تتحمل تلك الهشاشة في الذات وفي الوجود للشاعر، ليس باعتبارها نقصا، لكن كعنصر في فتنة الشعر المتوازنة مع الضعف الإنساني، فإن نكتشف الأشياء ونحن في المدى العاري للكينونة، ليس كما نكتشفها وهي مغلفة بزيف الكمال والقوة المفتعلة .
الهشاشة بناء يضع الشاعر في فضاء التواصل مع الآخر، وياسين يرى أن الشعر يساعده في استكشافه (الآخر) من حيث «الضعف والهشاشة، لا من حيث القوة والتوازن» وفكرة الهشاشة التي تكون واصلا بين الناس، تحيل إلى أن نقطة اللقاء الحقيقية هي ذلك البعد الذي يضع الإنسان أمام تحديات مواجهته لنقصه ولانبثاقات الطبيعة الجمالية والاجتماعية، دون مجتمع لا يمكن أن يكتشف الشاعر بعده الشعري، لأن العلاقات التي يبرمها المجتمع مع الأشياء تتمثل في عقلانية رصينة توحي بالكمال والقوة، بينما الشاعر يفوض أمره إلى اللايقين والضعف في القدرة على المجاراة المكتملة للتجربة، وعبر الامتلاك الجمالي والمعرفي يُستفرد كعلامة تقارب العالم بوعكة الإنسان في مخاضات اللغة التي يخوض ضدها ياسين معاركه، لأنها حينما تصير سلطة تحجب، فالإنسان المصاب بوعكة، لا يأتي الآخر إلا باعتباره مشمولا بالنقص والضعف، وهو يستدعي في هذا المستوى مجموعته الشعرية «دفتر العابر» التي هي رحلة شعرية إلى مدن العالم، إلى الآخر، ليس «باعتباره خطابا ناجزا، باعتباره رؤية للعالم» لكن كونه موطنا للهشاشة، «دفتر العابر» هو اشتباك مع الحدود، السفر، محاولة لإلغائها ليس من موقع القوة لكن من منطلق هذه الهشاشة.
مراكش بين ياسين وسعدي يوسف
يتعدد عدنان بتعدد وجوده الروحي في المكان، وُلد في آسفي، مسقط الرأس، وترعرع في مراكش، مسقط القلب، وأصوله من الصويرة، وهو يتحدث عن هذه الهجرة المعنوية والواقعية في المكان، يستحضر فاطمة المرنيسي واشتغالها على فكرة أننا «أبناء ثقافة السندباد» الذين لا يعيشون على الأرض بعقلية الكاوبوي وتحديد المكان، حراسة الأبقار بالبندقية. الترحال هو صفة الإنسان الهش الذي يرى في الآخر مصدر معرفة ومصدر ثروة. وهو يتحدث عن المدينة قفز إلى ذهني شيء من بقايا استضافة في «مشارف» للراحل سعدي يوسف، حينما قذف من أعماقه الشعرية شهقة الحنين، «مذ اعتبرت الحنين عدوا استقام ظهري» لم تعد هناك مرجعية مكانية واحدة، بل تعددت وصار كل مكان مصدر اغتناء ثقافي ومعرفي وإنساني.
حينما يتحدث عن مراكش، يرى فيها «عاصمة المغرب الإسلامي» «هي قلب هذا البلد» أي المغرب، هذه الـ»مراكش» التي احتوت عدنان منذ عمر الثلاث سنوات، منحته فرصة كي يدرك أن المكان فسحة تاريخية، وفضاء حيوي، وعلى من يحب المكان أن يستبين فيه التاريخ والحياة، كي يستطيع أن يحوله إلى اللغة باعتبارها الضد، الذي يناضل الشاعر من أجل أن يروضه لصالح القصيدة، رفيقة القارئ العابث بضراوة اللغة وهيلمان صرامتها. أستعيد أيضا سعدي يوسف وهو يفتش عن مراكش في «مجاز وسبعة أبواب» محاولا «رصد بطريقة فنية تحولات المدينة العربية الإسلامية، وكيف وُلدت المدينة وكيف تحولت المدينة من حاضرة للجمال إلى عدوة بشكلٍ ما لأهلها» هذا الإحساس بمراكش الذي تولد في عمق شاعرية سعدي ولّد عند عدنان حالة من الانغراس في المكان، من حيث هو أصالة في الوعي وفي الواقع، من حيث هو بداهة من بداهات الديمومة العالقة في أذهان الأجيال، حوّل ياسين «مراكش» إلى «حياة» وهو المنتبه إلى ما يحيق بها من خطر المحو، لذلك أحالها إلى الهوية التاريخية، إلى المدينة الحلم التي تستمر خيالات تصاحب المرتحل دون وجل من أخطار الانقضاء، فسعدي يضيق بمدينة تنتقل رياضا إلى السائح، بينما يتسع قلب عدنان للمدينة باعتبارها فضاءات مديدة متعددة في التاريخ والذاكرة.
السندباد ورفقة المرنيسي
كانت تسميه فاطمة المرنيسي «سندباد» درس في ورزازات، حين كانت تحضر المرنيسي كباحثة سوسيولوجية، وكانت تندهش لهذا الذي يمارس التدريس والصحافة كمراسل للحياة اللندنية ومدير مكتب دبي الثقافية، فكيف تفعل كل هذا؟ أخذها إلى «السايبر» الذي يشتغل منه، «كانت معجبة بهذه القدرة على اختراق الفضاء المحدود، عوض أن يحاصرك أنت تتجاوزه، لهذا مقولة السندباد أساسية وتربطني بالمرنيسي» هكذا يفضفض عدنان، مضيفا أن المرنيسي كانت تحثه على السفر إلى أمريكا لإتمام الدراسة، وكانت تلاحظ فيه شيئا من التردد، وأهدى «دفتر العابر» إلى طه ياسين: «اخترتَ الهجرة وزُين لي السفر».
عرفت عدنان عبر برنامج «مشارف» وكتبت تأملاتي حول استضافة «الممثل المصري الملتزم عبد العزيز مخيون في برنامج «بيت ياسين» ثم قرأته في رواية «هوت ماروك» وأدهشني تفكيكه لظاهرة الاستشراق مع نخبة من المتخصصين العرب في برنامج فريد «في الاستشراق» وعن «مشارف» يقول إن سؤال اللغة كان يؤرقه، «كان عليّ أن أقدم مقترحي الخاص، بلورة لغة إعلامية رشيقة لا تتنازل عن فصاحتها ولا تتعالى مُتفاصِحة على المشاهدين».
ارتباط عدنان بالمرنيسي من خلال فكرة «السندباد» يمنحه البعد الرحلي، ليس فقط في المكان لكن في الواقع وفي الناس، إذ اقترابه من المرنيسي هو اقتراب من الإحساس الشعبي في علاقة الباحثة بالسوسيولوجيا، كانت قريبة من نبض الشارع المكثف بحركة البسطاء، ويظهر ذلك في لغتها التي طوعت طبيعتها السوسيولوجية لصالح طبيعة شعبية تمتلك القدرة على اختراق واقع الناس الاجتماعي والمجتمعي، فالسندباد تبعث فكرة الوقوف عند حد البحر والرؤية بعيدا في الأفق الاستكشافي عبر لغة البحّار المغامر، لكنه الإنساني أيضا في صداقته للبحر، المصارع للموج عبر الحكمة والمثابرة النضالية كما هو في «الشيخ والبحر» لهمنغواي. لماذا لم يشرح للمرنيسي باللغة فقط قدرته على فعل كل ذلك؟ يبدو وبكل بساطة لأن مرافقتها إلى السايبر كمحاولة لتوضيح الموقف، تختزن رؤية المرتحِل في الواقع الباحث عن لغة مشتركة وموقف يقترح العلاقة مع الناس كمصدر للتواصل، لكن الأهم في فكرة الوقوف على السايبر هو خيط البساطة الشعبية في ثقافتها المشتبكة لتوها، وفي راهنها، مع «الحداثة» في مسعاها الإلغائي للحدود وإيجادها القرية العالمية.
لا ينكر على أخيه طه فكرة الهجرة، لكنه يُثبِت في واقعه «زينة السفر» لأن رؤية العالم من موطئ القلب ليست كرؤيته من موطئ القدم، فالعالم في جغرافيته بهي، لكنه من شرفة اللغة يتماسك كي لا يصبح مادة للمعرفة والتفكيك، ويبدو لي أن هذا هو هدف برنامج «في الاستشراق» العالم في وعي الشاعر المرتحل «حرف» تضمه الأبجدية كي يصبح أليفا طيعا يكشف عن نفسه بنفسه، أما وهو على مسافة من اللغة يظل ذلك الوضع الجمالي المبتغى والمُرتجى، والمهاجر فيه يصبح كأنهما متآلفان. عدنان يحب أن يكون خارج لعبة المكان الآخر، تعشقه «مراكش» كما يعشقها، فهي «البيت الأليف» بتعبير باشلار، تضيء الشاعر حيث تتحول العتمة أنوارا بمفاعيل القلب، «مراكش مسقط القلب» كما يقول عدنان.
بين البيع والمسرة حكاية سياحية
مرافقة عدنان للمرنيسي، كما يقول، تعلم منها الكثير، وكانا رفقة أصدقاء آخرين كثيري السفر، وزيارتهم لمدينة «زاقورة» كانت لجعل «مجموعة من الأصدقاء الذين كانوا عاطلين حينها يكتبون كتابا حول عجائب زاقورة المطلوب فيه من هؤلاء الشباب أن يبيعوا مدينتهم للسائح الأجنبي، لكن المضمون الثقافي في المدينة من قصبات ونقوش.. كانت عندها هذه المبادرات الخلاقة». ذكرتني فكرة «بيع المدينة ثقافيا» للمرنيسي بفكرة «إهداء الوقت» للمعمارية العراقية مها الآلوسي، لكن دون أن ننسى لازمة نهاية «مشارف» عدنان ياسين، ديمومة «مسرة القراءة وصداقة الكتاب».
إن الرغبة الثقافية في واقع عدنان هي التي تدفع به إلى الانتقال بين حقول العمق الرؤيوي للبعد الجمالي في الإنسان، فبيع المدينة ثقافيا للسائح، هي طريقة ثقافية في عرض المنتوج بلغة أهله وثقافتهم، والأهم من ذلك وعيهم بطرق إنتاج هذه الثقافة، وهذا الأساس في العملية السياحية، تقديم البيئة المحلية في حلتها الأصيلة التي تروج لاختلافها الفريد عن السائد، أي أن كل عملية بيع ثقافي سياحية هي «دراسة منهجية للناس وثقافاتهم» بلغة الإثنوغرافيا، وهنا تأتي أهمية «مسرة القراءة وصداقة الكتاب» لتجعل من البعد الاجتماعي في واقع محلية الثقافة بعدا كونيا عن طريق فكرة «البيع» الذي يراد منه الترويج ليس للثقافة المحلية وحسب، لكن للتعدد الثقافي في بعده الإنساني، وهو ما يرومه عدنان من مفهوم الهشاشة التي يسافر بها إلى الآخر، والتي هي كسب في جوهرها.