أولاً الجسد باعتباره فكراً سردياً
“جيم” رواية انشطارية، أو لنقل رواية فصامية، ليس فقط لأن شخصياتها مرضى نفسيون، وإنما لأن النص بذاته ينشطر إلى ثلاث روايات ضمنية تشترك في موضوع واحد هو: حياة الفتاة اللغز [جيم]. رواية ترويها هي عن نفسها، ورواية يرويها زوجها وطليقها [لمين]، ورواية يرويها أبوها في مذكرات رسائله إلى زوجته المتوفية.
لكن وعكس جميع الروايات الانشطارية، (حيث يقوم الشطر الثاني عادة بتصويب نظرة القارئ إلى عديد المجريات المموهة التي حملتها قراءته في الشطر الأول)، لا يقوم الشطران الثاني (برواية لمين) والثالث (برواية جهاد والد جيم)، بتصويب وتوضيح النظرة إلى الشطر الأول، بل يزيدان روايتها عن نفسها غموضاً، لا لشيء إلا لأن الرواة الثلاثة بما فيهم جيم نفسها، يعانون اضطرابات نفسية مرضية جراء صدمات تلقوها في حياتهم. تتعلق عقدة كل منهم بجريمة قتل: تروي جيم أنها قتلت أباها جهاد بطلقات نارية من مسدس بعد أن حاول اغتصابها. يروي خالد أنه تسبب في مقتل أغلى الناس وأقربهم إليه، صديقه وأمه، ويقف جهاد الذي يكاتبنا في مذكراته من مصحة نفسية، على جثة ابنته جيم التي يقول إن أمها قتلتها مباشرة بعد ولادتها، كما ينعي زوجته التي تقول جيم إنها ماتت بالسرطان.
إنها ثلاث روايات في رواية، كل واحدة تكذب الأخرى ولا تصححها، بل تزيدها غموضاً، ويعد ينبوع الغموض الوحيد في النص هو اضطراب شخصيات الرواة الثلاثة للرواية التي يمنحونها بناءها الفصامي، وهندستها ثلاثية الأبعاد.
وتشرح نهاية الرواية أن الفتاة “جيم” وأباها “جهاد” يتقاسم كل منهما متلازمة بارانويا تأويلية (paranoïa interprétative )، جعلتهما يؤمنان بأن ما يريدانه ويتوهمانه هو الحقيقة. فيرسم كل منهما نفسه سليماً وعاقلاً بينما يعمد إلى تشويه الآخر، ورميه بالهوس الجنسي، والتوحش واللاإنسانية، جاعلاً منه سبب مأساته. فقدم لنا كل منهما أفكاره الخاطئة عن حياته وحياة الآخر. والحقيقة التي نخرج بها كقراء، أن كليهما مريض عصابي تجاه نفسه، ولا أحد منهما قدم لنا الحقيقة. وبالتالي لا أحد سليم وعاقل.
بينما يعاني زوجها السابق “لمين”: من عقدة مركبة تشتمل على عقد ذنب من قتل صديقه وأمه، ورهاب سياقة السيارات الناجم عن تلك العقدة.
ثانياً- التعقيد والحل
تعتمد الرواية تقنية المخطوط. في تعقيدها وحلها. ويتمثل المخطوط في تلك المذكرة الخضراء الصغيرة، التي كتبها والد جيم، والتي أضاعتها ابنته جيم، في رحلتها من وهران إلى تمنراست، وعثر عليها لمين (الذي سيصبح زوجها فيما بعد) ويعيدها إليها، في الحافلة التي رافقها فيها نحو تمنراست. لتظهر المفكرة نفسها في نهاية الرواية (في تركيا بعد طلاق لمين وجيم) باعتبار أن كاتبها هو جهاد والد جيم، وتقع المفكرة بين يدي لمين الذي يكتشف فيها من هي جيم.. بقلم والدها المريض العصابي. وتتضمن رسائل هذه المفكرة، حل الكثير من العقد. وتمنحنا الأرضية النهائية التي تسوي بين الروايات الفصامية الثلاثة: هذا المخطوط الذي سيمنح القارئ عديد الحلول للعقد التي حبكتها رواية جيم عن نفسها ورواية لمين عنها، وتقدم لنا المذكرة -باعتبارها صك مكاشفة واعتراف- صورة مختلفة تماماً عن الوالد وعن ابنته جيم، ولعل أول اكتشاف تقدمه لنا هذه المفكرة، هو أن والد جيم لم يمت كما ذكرت ذلك هي في روايتها، بل رحل وترك لها كل شيء. لتتوالى الاكتشافات السردية التي هي عملية حل للعقد الروائية من جهة، وعملية تسوية لعديد الأزمات والقضايا العالقة وغير المبررة التي خلفها الراويين السابقين (جيم ولمين) في روايتيهما. يقول لمين بعد أن وقعت المفكرة ثانية بين يديه في ختام الرواية وهو بتركيا: [لفتت انتباهي مفكرة خضراء، إنها مفكرتها القديمة نفسها، التي سقطت منها في ساحة المحطة بوهران، كيف أنساها وقد كانت حجتي للتعرف عليها.. وها هي بين يدي مجدداً في بلاد أخرى وزمن آخر، وظروف مختلفة أتأملها الآن بعينين مختلفين، باهتمام كبير كمن يحمل الكنز بين يديه] (ص203).
لهذا يمكن اعتبار هذا المخطوط السردي العابر للأمكنة والأزمن والشخصيات (مفكرة الوالد جهاد الذي تركها عند ابنته جيم، ووقعت بيد لمين في الختام، فيطلع عنها الثلاثة ورابعهم القارئ)، هو المخطوط السحري أو الكنز كما وصفه خالد، ليس لكونه المفتاح الكاشف لحقائق خفية لم تروها جيم عن نفسها، أو روتها بطريقة مموهة للمين ولنا ككراء فحسب، بل هو المخطوط الذي أنقذ كل قضايا السرد، وسد فجواته، وفي الوقت نفسه أرسى جميع مراسي الرواة والشخصيات على شاطئه، إذ منح للرواية بدايتها، ونهايتها، وحل جل عقدها، وسَوّى أرضية تلقيها، ومنحها منطقها الفصامي لدى القارئ. وكان هذا المخطوط (المفكرة)، بالفعل الخيط السردي الذي وصلت به الكاتبة جميع فصول وتفريعات روايتها، ورَتقت به فجواتها. وهي تقنية ذكية التوظيف. يبدو أن الكاتبة قد خبأتها جيداً في ثنايا النص. كونها مفتاح حبكته وحل عقداته الوحيد، الذي لم يكن من المصادفة أبداً أن جعلته الكاتبة في آخر أنفاس نصها. كي يقوم مقام القفلة أو الإيبولوغ لهذا العرض السياكو درامي.
ثالثاً- تأثيث الجسد- بين البناء السردي، والبعد الفكري:
1- الجسد باعتباره فكراً سردياً
في الثقافة عموماً وفي الأدب خصوصاً، يتمتع الجسد كذات سردية متحركة مخاطبة، وكموضوع للخطاب، بحضور يُفترض فيه أن يتجاوز مستوى الجسم البيولوجي، أي إن على الكاتب والقارئ في ميثاقهما الثقافي، أن يتجاوزا القيمة المادية والأخلاقية للجسد -كما هو معروف في المجتمع- إلى قيمة فكرية تمنحه صبغته الثقافية وقيمته الأدبية في الفن تم توظيفه فيه. ومن هنا إن وجدنا بأن الجسد موظف في مدونة ما فهذا يعني أن حضوره سيحمل كل القيم الثقافية والحضارية دون القيم البيولوجية المادية التي تقيده في الواقع.
وفي رواية جيم، لسارة النمس، يعتبر حضور الجسد مغايراً تماماً لحضوره في بقية السرود النسوية، أي مغايراً لاستعماله في سياقات ما سماه الناقد عبد الله إبراهيم بـ: “نصوص المتعة” في الرواية النسوية العربية (غادة السمان/ أحلام مستغانمي/ ليلى العثمان/ عالية ممدوح، رجاء الصانع… وغيرهن).
ثم إن رواية جيم ليست رواية نسوية الخطاب على الإطلاق، رغم أن البطلة محاطة بثلة من الرجال الذي تعاملوا جنسياً (وليس شبقياً) مع جسدها الميت شهوانياً.
وهذا يعني أن بطلتنا، رغم جاذبية جسدها، فهي لم تعامله كجسد للاحتفاء الأنثوي والإثارة، والعناية الجمالية، والاهتمام الذاتي، كرأس مال أنثوي ونقطة قوة كما ترعاه جميع النساء سواء في مجتمعهن أو في مجتمع الرجال.
وإن فقد الجسد شغف صاحبه والعناية الجمالية به، فقد صفة الجسد، وبقي في خانة الجسم البيولوجي. لكن الروائية تنقذ جسد بطلتها، حين جعلته يدخل في علاقات متعددة مع ذاتها ومع الرجال الذين تعاملت معهم: (أبوها جهاد، زوجها لمين –زوجها الأول-، مدير مؤسسة عملها-زوجها الثاني-).
ومن هنا كان جسد جيم معطى وجودياً، تراه هي كذات برؤية مختلفة تماماً عما يراه الآخرون كموضوع لديهم. مما يجعله فكرة ثقافية، وحالة وجودية كاملة تحدد لصاحبها مكانته في الكون من خلال الرؤيتين المتناقضتين التي تحيطان به: يقول جهاد والد جيم وهو يقطع آخر الحبال بينه وبينها: في فقرة عبر فيها عن كل تقاطعات الرؤى وتناقضها حول جسد ابنته كفكرة وبؤرة إشكالية وجودية لذاتها ولغيرها: [حاولت أن أمنحك تربية جيدة، أعلمك كل ما تعلمته في الحياة لتكوني الأنثى الجميلة والأنيقة والمثقفة، الأنثى التي تبهر أي إنسان يقابلها، ولم أدرك بأنني أنجبت مسخاً من جيناتي. انظري إلى نفسك كم أنت قبيحة! ملامحك على الرغم من جمالك مظلمة، لأنها لا تعكس القبح الذي داخلك، سيذوب أمام فتنتك أي رجل، وتلك الفتنة سرعان ما ستذوب أيضاً وتختفي، عندما يكتشف من أنت من الداخل] (ص221).
تضع هذه الصورة الجدلية، البطلة جيم في مفترق متناقضات عالميها الداخلي القبيح والخارجي الفتان، في صورة قبح مغلف بالجمال. أو جمال مسموم بالقبح. فكل من تلقف جمال الطعم سيتسمم بما فيه من سمية القبح. فيلفظه خارجاً. وهذه المكاشفة وردت في دفتر مفكرة أبيها (جهاد) التي اختلسها زوجها السابق لمين، في نهاية الرواية.
- الجسد الجدلي
لا تملك البطلة جيم جسداً بالمفهوم البيولوجي في هذه الرواية، وإنما تملك تمثيلاً له: اجتماعياً، وثقافياً، وحضارياً يربط بين صورته كذات ميتة عند صاحبته، وصورته النقيضة كموضوع حي وفتان عند غيرها.
وبالتالي فهو فكرة ظاهرها نعمة وباطنها العذاب. وهو التركيب الفكري الذي صنعت منه الروائية (وأعتقد أنها وفقت في ذلك) الجدل التراجيدي، والتمزق الوجودي للبطلة كذات وكموضوع نقيضين معاً، وصنعت به روائياً قوام الشخصية الإشكالية للرواية ذات الأوجه الفصامية الثلاثة لرواتها. في تأثيث نفساني للنص يجمع بين الفصامية (السكيزوفرينيا-la schizophrénie)، والسادومازوجشة. (le sadomasochisme) كأسلوبين للعيش كانت تتعامل بهما البطلة جيم مع ذاتها والأخرين. من أجل الاستمرار. وتفادي المواجهة مع ذاتها، ومعهم. والتشكيل الفريد الذي بنته الروائية من خلال هندسة شخصيتها جسدياً ونفسياً. هي أنها تعاملت مع موضوع الجسد كفكرة يتحدد وجودها الفصامي بعلاقاتها المضطربة بين حقيقتها كذات وقناعها كموضوع. وقد تعززت فكرة الجسد ذو الوجهين النقيضين بوجه ثالث نفساني تجسد في أمراضه واختلالاته النفسية.
وقد ظهرت هذه الأوجه الثلاثة حينما تلقينا الروايات الثلاثة حول جيم: بلسانها ثم بلسان زوجها ثم بلسان أبيها. في مفكرته الاعترافية الأخيرة التي ختمت الرواية. وهو بناء يُحسب بنيوياً على الشخصية، وأسلوبياً على التعقيد، ومعرفياً على التأثيث الفكري والنفسي للنص. وهذا الجانب الفكري والعلائقي للجسد من عناصر السرد من جهة ومع ثقافة النص من جهة ثانية، هو ما جعل هذا النص مفتوحاً وقابلاً للتأويل فكرياً وفلسفياً، مبلوراً من خلال هذا الانفتاح الفكري رؤية الكاتبة للعالم. التي لا بد أن تعبر من خلال جسر فكري منحته لنا طريقة توظيف الجسد.
رابعاً- كليشيهات السرد.
مع ما تضمنته الرواية من حيل سردية، حولت الكثير من الفجوات، والمبهمات والتناقضات الى مصلحة الرواية وأساليب تعقيدها، تحت عنوان (الأمراض النفسية والاضطرابات الشخصية للشخصيات)، فإن هناك مطبات لم تستطع الرواية تجاوزها، وأخرى لم تستطع تفاديها.
– فمشكلة الحذف المخل بتطور السرد جعل من الرواية مجموعة لوحات منفصلة ومتجاورة، وليست فصولاً متطورة الحدث، تأخذ بداياتها بنهاياتها.. فالسلاسة التي شهدناها في رحلة رفيقا الدرب جيم ولمين في الحافلة من وهران إلى تمنراست، والتي التهمت أكثر من نصف الرواية، أي الفصل الأول الذي يحتوي 22 قسماً. نجد بأن عودة جيم من تمنراست وزواجها من لمين لم يتعدّ الأربع صفحات. ما يعني حذف الكثير من تفاصيل زواج جيم. كذلك الأمر بالنسبة لطلاقها، وزواجها الثاني من مديرها بالشركة.
حيث انتهى الفصل الثاني بتفكير لمين بالطلاق، ليبدأ الفصل الثالث وجيم متزوجة بمديرها.. وهو أمر تجاوز الحذف إلى القفز غير المبرر بين الأحداث، مما ترك فجوات عديدة نتيجة قفزات أخلت بمنطق بناء أحداث الرواية ومنطقيتها في ذهن المتلقي بشكل نقلها من صورة الفصول، إلى صورة اللوحات المتجاورة عديمة العلاقة. إذ ينتهي الفصل ونحن في مكان وزمان معينين، ليفتتح الفصل الذي يليه بأحداث في زمن ومكان آخر؟؟ وما زاد ظاهرة القفز على الأحداث نشازاً هو أن الرواية حافظت على نفس الشخصيات. ولو كانت الأحداث جديدة تعني شخصيات جديدة أخرى لقلنا بأنه سرد متواتر. يغادر فيه السارد حالة هنا ليعود إليها بعد فصل آخر.. لكن هذا ما لم يحدث. وأدى إلى ظهور فجوات من الحذف الحدثي التي لا مبرر لها، تخص الشخصيات نفسها في فصول متتالية. وهذا ما أضر بمنطق الحبكة وبناء أحداثها.
– الكليشيهات المدورة: الملاحظة الثانية التي أخلت بهذا العمل الروائي القصير، هو اشتغال الروائية على مجموعة من الكليشيهات التي صارت اجترارية وميتة من كثرة استعمالها (les déjà vus) في الدراما التلفزيونية والسينما.
ذلك أن فكرة الرواية في إطارها الحكائي، رائجة من حيث المبدأ، ولا أشك أن الكثير من القراء قد شاهدها في أفلام ومسلسلات عدة، فكرة الشخصيات البارانوية (les personnages paranoïaques)، التي لا تؤمن إلا بما يصطنعه خيالها، وتراه واقعاً، وما على المخرج في مثل هذه القصص إلا أن يعطي للمشاهد خيالها أولاً، على أنه مشخص ومجسد، ليكشف للمشاهد في النهاية، بأن ما كان يراه على أنه وقائع، ما هو إلا وهم مرضي في ذهن الشخصية العصابية، جعلها تكذب على نفسها لتستمر في الحياة، وتتجاوز نكسات ما فات. وهي فكرة متداولة في السينما الغربية منذ الستينيات والسبعينيات.
لكن ما يحسب للروائية هو أن هذه الكليشيهات بقيت على مستوى الشكل كإطار للحكي، بينما كان اشتغالها الفعلي على المضامين والتفاصيل التي أسكنتها في ذلك الشكل، أو ما نسميها بالمحكيات الضمنية، التي جعلتنا نتجاوز ذلك الاجترار للكليشيهات السابق مشاهدتها في أذهاننا ومقروءيتنا ومشاهداتنا، ونسلط اهتمامنا مثلها على شياطين التفاصيل التي استزرعتها الكاتبة بأسلوب مختلف ضمن تلك الأطر الشكلية المعهودة.