هنالك أشخاص يكتبون الشعر، وشعراء يحصلون على الجوائز، وشعراء يتم تكريسهم كأسماء رنانة، وشعراء يتم ترويجهم عبر أجندات وجماعات؛ كل ذلك لا علاقة له بالشعر.
كثيرون بلا عدد يكتبون الشعر، لكن الشعراء نادرون.
لكي تكون شاعرًا حقيقيًا، عليك أن تعيش للشعر، أن تغامر بالجنون والذهاب حتى الأقاصي، حتى التشوش الكامل للحواس. الشعر بحثُ مُغامر عن معنى الإنسان.
نشأتُ على الاعتقاد بأن كتابة الشعر مجال مخصص للفرد الاستثنائي، مخصص للفرد الممسوس، مخصص للفرد الذي يقدس حرية الإحساس، حرية التفكير، حرية التيه، الفرد، عندما يكون مصدر إلهام لا حدود له، بسيرته الفارقة، وبما يكتشفه من إشراقات جديدة في مغامراته داخل ذاته والحياة من حوله.
كل طريق توصلك إلى ذاتك، سوف تفتح أمامك باب الشعر.
أن تبدع ذاتك أولاً، فلا شيء يختزل الذات، ويُعبّر عنها مثل الشعر.
الشعراء هم المجانين الكبار، المهووسون بالحياة. الغواية هي شغف يخرجك عن طورك. الشعراء يتبعهم الغاوون. ولو لم يكن هذا هو حقل الشعر فلن يكون شعرا. الشعر هو الغواية، هو الهوى، شعراً وتذوقاً.
الشاعر “العاقل” المتزن، المتوائم؛ لن يكتب شيئاً يستحق أن تلتفت له، مثل هكذا نوع عليه أن يغادر الشعر إلى كتابة أخرى: الكتابات السياسية، الاقتصاد، المقالات الصحفية، أو أي مجال آخر لا علاقة له بالتفرّد والإبداع.
من لم يكن غاويا لن يكون بإمكانه أن يكتب الشعر، ولا أن يتذوق الشعر. الشاعر الحقيقي هو الذي يقايض كل شيء من أجل إحساسه.
الشاعر الحقيقي هو ذلك الحالِم الذي على استعداد أن يبيع الدنيا بما فيها مقابل لحظة عابرة يلتقط فيها إحساساً أصيلاً.
الشعراء الحقيفيون هم “المجانين”، هم الوحيدون الذين يعيشون حقًا. إنهم في العالم، وليس من العالم. هُم فجر الخليقة، فجر الجنون، وسيستمر الجنون إلى الأبد عبرهم بكونه تاريخاً لأكثر مغامرات الفرد جرأة وشجاعة في ظُلمات الذات وطبقاتها العميقة.
لا يمكن لأي شخص أن يكون شاعراً، أو يتذوق الشعر، بدون لذعةٍ من الجنون الداخلي، في ذاته، أو في مقاربته للحياة من حوله.
كتابة الشعر، والقدرة على فهمه، وإدراك أناقته اللغوية ليست متاحة لكل عابر سبيل يمرُ كيفما أتُفق في عالم الأدب والمعرفة والشعر.
إذا كنت ممن يوائمون حياتهم مع كاتالوجات “السلوك القويم”، و “الإحساس المقبول” فلن يكون بمقدورك أن تكتب الشعر، ولا أن تتذوقهُ.
إذا لم تحترق في تجارب الحياة، وتلسعك نارها، لن تكون قادراً على أن ترى ما لا يُرى، عالم اللايقين، الإحساس المُكثف، والحياة التي لا تتطلب ضمانات من أي نوع.
أن تكتُب الشعر، فذلك يعني استعدادا مسبقا لتقبّل الفشل، التحرر من البريق والشُهرة. الاعتراف بأنك كائن يتحدد أساساً بالتجريب، ويُتوقع منه ارتكاب الأخطاء، ليس نموذجاً للكمال، لكنهُ ينطوي أولاً على ذات ممسوسة بعشق كل ما هو جميل وحقيقي، ولديه الحافز التلقائي لأن يرى ذلك غاية الحياة القصوى.
ربما يُجن من هول ما يكتشفهُ ويستمع إليه؛ تلك هي كُلفة الإبصار. لا وصفات مُثلى وخالية من الخطر في ترحلات غامضة كتلك التي يقوم بها شاعر حقيقي نذر نفسه للشعر.
الشاعر المتفرد يحمل رسالة كونية، هو لا يرغب أبدًا أن يكون شاعرًا، بقدر رغبته أن يكون إنسانًا.
أن تكون شاعراً حقيقياً، يُكرس حياته للشعر، ذلك أهم ما يمكن أن يحدُث لإنسان.
يقول بعضهم إن الفعل لم يولد إلا من باب “الهوى”.
يقولون إن حساب العواقب، التوازن، الحكمة كانت دائمًا بعيدة وموضوعية ومشلولة.
إذا كان ذلك هو الفعل الفارق في الحياة فإن الشعر، التكثيف البلوري لجمال الحياة أكثر التصاقاً بالغواية والمغامرة، حرية الإحساس التي تسبق حرية الوجود للشاعر كفرد في زمن معين ومكان معلوم.
يُصغي الشاعر لصوته الداخلي بوضوح كبير، يُصغي لموجات الكون، إنه يأخذ معناه ووجوده من تماهيه مع الحياة من حوله، بقدر ما يلتقطه من عالمه الغامض في أعماقهه.
– الشعر المُعَبِر عنا
“كن دائماً شاعراً حتى في النثر”.. هكذا كتب بودلير قبل أن تستوي قصيدة النثر كنوع جديد في عالم الشعر. جملة بودلير تنساح أبعد من القصيدة النثرية. الكتابة النثرية مجال للشعر، يكاد يكتسب حيوية وفرادة، ربما لم تكتسبها قصيدة النثر.
دع نثرك يرقص على إيقاع الشعر، ليرسم صوراً حية في أذهان من يقرأه.
الإحساس يتجدد، ولغة الشعر وطُرق كتابته تسايره لكي تتسع له. تتجدد اللغة الشعرية بأسلوب استخدامها، والإحساس الذي يُصب فيها. تكتسب اللغة الشعرية رونقها وإجادتها بطريقة بناء جديدة للكلمات، تنحت مفرداتها بمقياس معنى متفرد تحتويه، وتكون قادرة على استيعابه.
القصيدة ليست نصاً مجرداً يتم فحصه بمقاييس ثابتة منفصلة عن السياقات الحية. صحيح إن هناك معايير فنية وإبداعية للإجادة الشعرية، لكنها تستخدم في غير سياقها عندما تُجمِد الشعر في قوالب زمنية، فنية ولغوية وشعورية.
ربما يُجيد بعض الشعراء كتابة قصائد عمودية في زمننا الحاضر، لكن ذلك يظهر كحالات استثنائية. علامة على اندثار الشعر العمودي، لا دلالة على قدرته على البقاء كقالب فني لكتابة الشعر. اللغة ليست قالبا مُحايدا ومنفصلا عن المعنى الذي تحملهُ، طببعة اللغة جزء من المعنى. أساليب التعبير القديمة، وقوالبها الفنية، مفرداتها، قواعدها، هي جزء من زمنها، ولن يكون بمقدورها البقاء في عالم مختلف، وتعبّر عن حيوات مختلفة، وأفراد هم أبناء زمنهم، ولهم أحاسيسهم المتميزة، وإدراكهم الخاص للحياة من حولهم.
مفهوم فرناندو بيسوا للشعر يُكثفهُ بالقول إن “الشعر كلما كان بارداً كان أكثر حقيقية”.
يذهب أبعد من ذلك في تعريفه لنغمة الشعر، وهي نغمة – برأيي – تمثل لا زمنه فحسب بل زمننا الحاضر – يقول:
“إن الانفعال لا يجب أن ينفذ إلى الشعر إلا كجهاز منظم للإيقاع، الذي هو الاستمرارية القديمة للموسيقى في الشعر. وعندما يكون الإيقاع متقناً ينبغي أن ينبعث من الفكرة قبل انبعاثه من الكلمة.
إن فكرة مستوعبة بكيفية مضمنة متقنة تغدو نغمة بذاتها، والكلمات المكتوبة بإتقان لا يمكنها أن تخمد الفكرة”.
لنُصغي للشاعر آرثر رامبو، الشاعر الذي التمع في ومضة زمنية كأنها البرق في عامين عاشهما أواخر القرن التاسع عشر، قبل بلوغه العشربن عاما، لكنها أهّلته ليكون فتى الشعر المُدلل في القرن العشرين، يقول:
“الشاعر هو الذي يجعل من نفسه صاحب رؤية من خلال فوضى طويلة لا حدود لها، تُلامس جميع الحواس. كل أشكال الحب، من المعاناة، من الجنون، يبحث عن نفسه، يرهق في نفسه كل السموم، ويحافظ على خواصها. عذاب لا يوصف، حيث سيحتاج إلى أعظم الإيمان، قوة بشرية خارقة. إنه الملعون العظيم، والعالم الأعلى! لأنه ينال المجهول! لأنه زرع روحه، غني بالفعل، أكثر من أي شخص! ينال المجهول، وربما يغدو مختلاً فقد أخيرا فهم رؤياه، بعد أن يكون قد رآها فعلاً”.
– الشعر وغابة الهذيان
لا تتحدد جودة الشعر باستخدام باذخ لمفردات خالية من المعنى. الإنشاء هو ما يتشكل هنا لا الإجادة وفرادة القصيدة.
يقول نيتشة، الحفار الأكبر في أدغال النفس: “إن ما يفسد الأسلوب، في فنون اللغة وسائر الفنون الأخرى، هي إرادة إظهار شعور أكثر من الذي نشعر به فعلاً تجاه شيء ما”.
ويقول أُنسي الحاج، أحد أبرز من كتبوا الشعر الحديث باللغة العربية: «ما بين الهم التعبيري الإنشائي والتجربة الحية، اختار التجربة الحية بشرط أن تستوفي شروطها التعبيرية طبعاً».
ويضيف: “التجربة الحية أهم من الموهبة، أهم من الثقافة، هذا كله مفروغ منه، لا يملك كل الكتاب التجربة الغنية، لا يملكون الجرح؛ بمعنى أن الواحد منهم يلفلف نفسه ليحميها من الألم والصدمة والخوف، ماذا سيكتب في هذه الحالة، ماذا بقي له؟ بقي له الإنشاء”.
يضيف متسائلاً: “ما قيمة نتاج لا يتراءى خلفهُ طيف حياة تغمسُ صاحبهُ في جروحه حتى خرق جدار ذاته، ولو ضاع معها وأضاع صوابه الأدبي”.
المتابع للكتابات الأدبية في الوسط الثقافي اليمني، طوال العقد الماضي، وبالذات النتاجات في مجال الشعر والرواية، يلاحظ أن هناك تراكماً لفظياً بما يشبه الانفجار اللغوي. انفتحت فضاءات اللغة لتواكب الانفتاح الشامل في شكل الحياة المعاصرة، ونتج عن ذلك توالد وتكاثر لفضي بلا حدود، دون ثراء في المعنى، أو في التجربة الحياتية التي تعبّر عنها الكتابة.
عجلة الضخ المعلوماتي اليومي عبر وسائل الاتصال الحديثة تدفع باتجاه الإفراغ من المعنى، وتنميط التجارب الحياتية في اتجاه “التشابه”، تشابه في ردود الأفعال والأحاسيس، تشابه يقيّد الفرد، ويحد من إمكانات تطوره، وهو ما يبدو واضحاً في نوعية الكتابة المنتشرة التي تستعيض عن خوائها بالبهرجة الزخرفية للشكل وتقديسه؛ ليس من اعتبارات إبداعية وفنية تكاملية مع المضمون. فالتمكن من اللغة بالنسبة للكاتب أو الروائي أو الشاعر تحصيل حاصل.
هذا التناقض بين تقديس الشكل وإفراغ المعنى كنتيجة لغياب التجربة الثرية، حول الكتابة، إلى تراكم لفضي وصور بلاغية لا شيء تعبّر عنه، ويستحق الالتفات، عبارة عن شكل زخرفي خالٍ من المعنى.
ان مساحة الشكل اللغوي، التي تكاد تتحول إلى غابة من الهذيان، قد طغت على كل شيء، والتهمت حتى الأديب ذاته من حيث كونه مشروع مبدع له أسئلته وتجربته الحياتية الحية، ويجدر به أن يخلق أسئلة الواقع الحي الذي يحيا في شروطه دون غيره ليحوله إلى نص جمالي.
وهذه لن تتم إلا عندما تكون القصيدة نتاجاً لتجربة ثنائية: تجربة حية في الواقع، وبالأصح تجربة حياتية ثرية وخصبة، وثقافة ومعرفة منتقاه تشكل المعطى، الذي يصقل تجربة الكاتب، الذي بدوره يضيف إلى هذه المعرفة، وينفخ فيها من روحه وهمومه وأسئلته وتأملاته بما يطوّرها لكي تصبح أداته كمتلقٍ أولاً، ويتمكن من خلالها من التعبير عن ذاته، وجرحه وخوفه وحزنه وفرحه وفرادة مشاعره وما يريد.
يحفر في ذاته ليجد متسعاً بلا حدود ومنجما من الطاقة والشعور، ويتجاوز الظواهر السطحية إلى الواقع ليغوص فيه، ويفسره، ويعيد تشكيله وتركيبه واستقصاءه.
الكتابة الخلاقة التي تضيف إلى الأدبي، وتجعل منه قيمة إنسانية.. بمعنى الإفلات من أسر وهيمنة ما هو لحظي وعياني، والروتين الممل للحياة ومنطقيتها دون أن يتخلى الفرد عن هذه الممارسة الإجبارية للحياة المعيشية والحضور الاجتماعي، ولكن تجاوزه بمعنى امتلائه بالقدرة على الإحساس من داخل الذات، والتفكير من خارجها. أن يأخذ مسافة من نفسه – وفي الوقت نفسه يكون فيها – ليراها من جهات وأماكن وزوايا مختلفة، ويعود إلى ذاته وهو أكثر قدرة وثراءً روحياً واغتناء فكريا.
قلة هم الذين يدخلون في غابة اللغة دون أن يفقدوا اتزانهم، وينحرفوا إلى هاوية الهذيان.
وهنا تكمن الفرادة والتميّز للمبدع الذي يقع مركزه دائماً في ذاته لا أن يصبح الجمهور العريض المناخ المهيمن، والتيار المكتسح هو ما يحركه. ولا يعني ذلك أن يتجاهل ما يدور من حوله كجزيرة منعزلة، وإنما يحول ذاته إلى مرآة تعكس كل شيء حولها، وتحوله إلى مادة خام تُصهر فوق موقد الإحساس. ذات واحدة، لكنها تتوحد بالكل، وتطل على المشهد الإنساني بكل تعدده وغرائبيته.
ـ زخرفة الشعر
كل نص مُشكّل بالحركات يصدني عن قراءته؛ ديوان شعر أو غيره.
نزّلت ديوان “وايتمان” وجدت نسخة مُشكّلة؛ تسعمئة صفحة بالضمة والكسرة والفتحة والتنوين.. اكتظاظ مزعج يقف حاجزا بينك وبين الكتاب.
نضيق بتشكيل قصائد المتنبي على غرابة مفرداتها العربية القديمة، فإذا بنقوش اللغة تزخرف قصائد حديثة.
التشكيل يتخذ قداسة تجعله تقليديا ومحافظا ومكتملاً بمعناه كما قُدم في النصوص الدينية لثقافة نقلية تقدس الشكل، وتزخرفه كمضمون مفترض وصورة مكتوبة، وهذه الذهنية وجدت في تشكيل اللغة ما تبحث عنه، ويكمل شكلانيّتها.
قبل سنوات وقع في يدي ديوان للشاعر أحمد ضيف الله العواضي مطبوعا بطريقة تشكيلية للفنانة آمنة النصيري.
هو يختلف عن التشكيل اللغوي، لكنه بدا لي غير مستساغاً. كل جملة مرسومة في صفحة من القطع الكبير.
كان كتابا عريضا وثقيلا. ثقيل على اليد والذائقة. كثيرون، من جيل المثقفين الأولين، يحفظون المتنبي غيباً، كلما سمعت أحدهم ينير حضورنا بأبيات منتقاة للمتنبي، أجدها تلقائية وفائضة بمعناها وقدرتها الإيحائية وجمال صورها ولغتها.
أجوجل القصيدة طامعا في غبطة متوقعة من قراءتها كاملة.. فيصدني التشكيل والحركات.
أحيانا أعيد كتابة قصيدة كاملة بدون حركات التشكيل لأتمكن من قراءتها بتلقائية متخففة من رطانة الحركات وزخرفاتها.
التشكيل نغمة نستنبطها من روح النص، وليس زخرفة الحروف والكلمات. نغمة داخلية لها إيقاعات وترددات لا تبوح بها لعلامات التشكيل.
وما تشكيل اللغة سوى نغمة اكتشفها أول نحوي فترجمها إلى حركات إعرابية يتبعها الكُتاب والشعراء والأدباء من بعده.
قواعد، حتى وإن صحت، تحتاج إلى اكتشافها بذائقتك، ونطقها بنغمة النص المتسربة لنبرتك لا بتتبع حركات التشكيل، وتيهك في زخرفته الشكلية.
إلى زخرفة اللغة بالحركات الأعرابية، هناك من يستخدم مفردات براقة لا علاقة لها بالحياة من حوله، متصوراً أنه بذلك يجدد الكتابة الشعرية بقصائده المتخمة بالمفردات الغريبة.
“أن تستخدم مفردة نحتتها حياتك، وهي جزء من قاموسك الحي الفائض بالمعنى، شيء، وأن تستخدم مفردة مقحمة، أو لا تستخدم في حياتك اليومية، شيء آخر. الأولى تبدو نابضة بالحياة، والثانية تبدو كأنها منتج بلاستيكي”، هذا ما أراه فارقا بين “الشُبَّابة” و”الناي”،
اللغة كائن حي مثله مثل أي كائن حي يُولد في خضم الحياة، وينمو فيها، ويتعافى ويمرض، ويتجدد ويستهلك، ويموت ويحيا مثله مثل البشر والحيوان والنبات.
يا الله كم هو نابض بالحياة هذا البيت البردوني الذي يستخدم مفردة «شُبابة» كأنها تعزف روحه:
حَبِيبُ، تَسْأَلُ عَنْ حَالِي وَكَيْـفَ أَنَـا؟
شُبَّابَـةٌ فِـي شِفَـاهِ الرِّيـحِ تَنْتَـحِـبُ
الفكرة، برأي رالف والدو إمرسون، تجعل كل شيء صالحا للاستخدام. وما هو عادي من مفردات وكلمات، يصبح باهرا عندما يرد ضمن سياق جديد للفكرة.
«قوائم الكلمات العادية قادرة على الإيحاء للمخيلة عندما يعيد الشاعر بناءها عبر بصيرته الأكثر عمقاً. يمنحها بإدراك فكري خفي، القدرة على نسيان استخداماتها القديمة. ويزوّد كل كلمة صماء بلسان وعينين.
الشاعر يحول العالم إلى زجاج شفاف يرينا من خلاله كل الأشياء حسب تسلسلها الصحيح ومواقعها. في كل كلمة يقولها يمتطي الأشياء كخيول للفكرة».
ـ الحنين للشاعر؟
يرى هنري ميللر أن الدعوة العليا كانت للشاعر دون سواه: أن تكون شاعراً. أما اليوم فهي أكثر الدعوات عقماً؛ ليس هذا، برأي ميلر، لأن العالم ممتنع عن توسل الشاعر، ولكن لأن الشاعر نفسه لم يعد يعتقد برسالته الإلهية.
«لقد ظل يغني، منذ قرن أو يزيد نشازاً، ولم نعد نستطيع، أخيراً، أن “ندوزنه”، نحن لا نزال نجد معنى في صرخة القنبلة، لكن هذيانات الشاعر تبدو لنا رطانة. أين هو الآن خياله المجنح؟ الحقيقة ماثلة أمام عيوننا، عارية تماماً، لكن أين الأغنية التي تعلنها؟ هل نرى الآن شاعراً حتى من الدرجة الخامسة؟ إنني لا أرى أحداً. أنا لا أسمي أولئك الذين ينظمون الكلم، مقفى أو غير مقفى، شعراء. الشاعر عندي هو الرجل القادر على تغيير العالم تغييراً عميقاً».
من هو هذا الشاعر الذي يعلن هنري ميللر عن غيابه؟
ربما، نلتمس إجابة عند رالف والدو إمرسون، الفيلسوف الذي عاش في القرن التاسع عشر، لكن كلماته لا تشيخ.
يقول إمرسون، معرفاً الشاعر:
«يعرف الشاعر أنه يتكلم على نحو ملائم فقط عندما يتكلم بزهرة العقل. ليس بالعقل وحده، وإنما بالعقل ثملاً بالرحيق. إن مسار الأشياء صامت. فهل ترحب بمتحدث يسير بمعيتها؟ إنها لن ترحب بجاسوس؛ لكن العاشق الشاعر هو تسامي طبيعتها الخاصة – ولذا فإنها ترحب به. إن شرط التسمية الحقة، من جانب الشاعر، هو تسليمه نفسه للنسيم. بذلك يمتلك قدرة على امتلاك طاقة جديدة تشبه مضاعفة الذهن لنفسه عن طريق الاستسلام لطبيعة الأشياء؛ وأنه، إلى جانب قوته الخاصة كفرد، توجد قوة عامة عظمى يستطيع أن ينهل منها عن طريق فتح جميع أبوابه الإنسانية، رغم كل المخاطر، وجعل الموجات الأثيرية تتماوج وتدور عبر ذاته، عندها يكون قد علق بحياة الكون، فيصبح حديثه رعداً، وفكرته قانوناً، وكلماته مفهومة كونياً».