“لا شك أن ثمة أوراقًا كثيرةً أخرى دفينةً في هذه الغرفة، كأجزاء في لغز حسابي، يريد مصطفى سعيد مني أن أكتشفها وأضعها جنبًا إلى جنب، وأخرج منها صورةً متكاملةً تكون في صالحه. إنه يريد أن يكتشف كأثر تاريخي له قيمته”.
هكذا كان الراوي يحدّث نفسه قرب نهاية رواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، وهو يزور الغرفة المستطيلة المثلثة السقف، التي جعلها مصطفى سعيد في بيته حرمًا مصونًا لا تمسه عينا إنسان. وهكذا فعل المؤلف نفسه، إذ نثر في تضاعيف روايته وبين سطورها أجزاء من لغز كبير، أراد أن نستكشفه على مهل.
بشكل عام، أتفق مع من يزعمون أن النص الأدبي العظيم لا يَمنح جماله في سهولة، وأن التأني في القراءة وإعادة تذوق الحبكة واللغة وطريقة السرد أكثر من مرة، يعدان وسيلتين مهمتين لفهم ما يكتنزه النص من جمال وفكر.
جعل الطيب صالح من غرفة مصطفى سعيد (البطل) نموذجًا ماديًا ملموسًا من روايته، فهي مستعصية على الوصف ملغزة حتى في هندستها؛ مستطيلة، مثلثة السقف. ومهمتنا في السطور التالية تتلخص في تأمل أجزاء هذا اللغز، وربما نعود بين الحين والحين إلى جزء ذكرناه منها، حيث نلقي عليه ضوءًا آخر، لتكتمل أمامنا الصورة.
من يكون الطيب صالح؟
ارتبط اسم الطيب صالح بهذه الرواية، وهي روايته الأولى وأهم أعماله، وتحل غدًا الذكرى التسعون لميلاده، حيث ولد في 12 يوليو 1929 في كرمكول قرب الدبة بشمال السودان. لم أكن أعرف طبيعة التأهيل الأكاديمي الذي ناله الطيب صالح قبل أن أقرأ الرواية. توقعت أن يكون شيئًا قريبًا من الاقتصاد، تخصص مصطفى سعيد بطل روايته، ثم فوجئت أنه في البداية نال شهادة البكالوريوس في العلوم قبل أن يذهب إلى لندن لإكمال دراساته.
على كل حال، كانت إنجلترا بالتحديد هي الوجهة المشتركة للمؤلف وبطله المسمّى مصطفى سعيد، وبطله الآخر الراوي الذي لا اسم له. لم أستطع مقاومة إغراء السؤال؛ من منهما يعبر عن الطيب صالح وموقفه من الحياة والوجود وثنائية الشرق والغرب أو الجنوب والشمال كما يفضّل المؤلف أن يعبر عنها؟
هل هو مصطفى سعيد الاقتصادي السوداني موسوعي الثقافة، الذي وجد القدر يرسم له مجراه فنال مكانةً رفيعةً في إنجلترا، محتلة بلاده، واعتقد أنه ذهب إلى هناك غازيًا، فمارس ذكورته بإسراف كما يليق بزير نساء حتى قتل زوجته الإنجليزية، وسجن وعاد ليعيش حياةً أخرى في بلاده متنكرًا لماضيه؟ أم هو الراوي غير المسمى الذي تبدأ الرواية بعودته إلى بلاده بعد أن نال الدكتوراه عن دراسته لأعمال شاعر إنجليزي مغمور، ليجد نفسه متورطًا في حياة مصطفى سعيد بمحض صدفة غريبة، أو بتدبير قَدر ليس فيه موضع
والحق أن هذا السؤال أحالني إلى تصريح كنت قرأته لأوسكار وايلد بعد قراءتي روايته “صورة دوريان غراي” منذ ثلاثة عشر عامًا، هو تصريح يتعلق بموقفه من أبطال روايته الثلاثة “يتخيل الناس أنني لورد هنري، وكم وددت أن أكون دوريان غراي نفسه، أما الحقيقة فهي أنني بازل هولورد”. إنهما سؤال وتصريح يتعلقان بتلك الرغبة الجامحة في فضح الذات، تلك الرغبة المتأرجحة بين الوعي واللاوعي، والتي تتملك الكاتب فتقسره على أن يضع نفسه في متن عمله الأدبي، بدرجات متفاوتة من الوضوح والتطابق مع الأصل.
أشباح هنريك إبسن
ثم مشهد قرب نهاية الفصل الأول من الرواية ذات الفصول العشرة، ينطق برعب وجودي مزلزِل كالذي نجده في قصص إدجار آلن پو. في هذا المشهد، تنكشف أول لمحة من الهوية السرية لمصطفى سعيد أمام الراوي. هما في مجلس شراب يجمعهما بأصدقائهما المشتركين. يتناول مصطفى الكأس الأولى محجمًا عن الشراب، ثم يرضخ لضغط محجوب (الصديق المشترك) ويشربها باشمئزاز، ثم يشرب الثانية والثالثة ويسكر، وحينئذ يبدأ قي تلاوة مقطع من قصيدة إنجليزية لا يسميها لنا الطيب صالح، وإنما يورد ترجمتها العربية. القصيدة هي (في أكتوبر 1914) للشاعر الإنجليزي فورد مادوكس فورد، وهذا هو المقطع قبل الأخير منها..
“هؤلاء نساء فلاندرز. ينتظرن الضائعين. ينتظرن الضائعين الذين أبدًا لن يغادروا الميناء. ينتظرن الضائعين الذين أبدًا لن يجيء بهم القطار، إلى أحضان هؤلاء النسوة ذوات الوجوه الميتة. …”.
يتلوها مصطفى بلكنة إنجليزية فصيحة، فيذهل الراوي ويجد نفسه مندفعًا في حدة لسؤال مصطفى “ما هذا الذي تقول”؟ بينما الآخرون منشغلون بالشراب والضحك. هذا الذعر الذي أحس به الراوي يذكّرني بشكل شخصي بقصة “ويليام ولسون” لإدجار آلن پو، حين يكتشف الراوي أنه ربما كان طيفًا، مجرد طيف لشخص آخر يقابله في مراحل مختلفة من حياته. كما يذكرني ببطل مسرحية الأشباح لهنريك إبسن، حين يُلقى في روعه في نهاية المسرحية أنه أقرب إلى شبح يكرر مأساة أبيه ويعيش آثارها لا أكثر.
هو رعب عميق لا يدع لمن يحسه متسعًا ليشعر بمعنىً للحياة. ونجد صدى هذا الإحساس المفعم بالعبث في المقطع الأخير من الرواية حين يستسلم الراوي لإغراء السباحة في نهر النيل، ويكتنفه الموج ويكاد يغرق مكررًا نهاية مصطفى سعيد بالضبط، وهي النهاية التي لا نعرف هل اختارها مصطفى بإرادته فأنهى حياته انتحارًا بالسباحة وقت الفيضان، أم أن القدر قد قسره عليها. هنا يقول الراوي..
“إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناسًا قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن، ولأن عليّ واجبات يجب أن أؤديها. لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى. سأحيا بالقوة والمكر. وحركت قدمي وذراعي بصعوبة وعنف حتى صارت قامتي كلها فوق الماء. وبكل ما بقي لي من طاقة صرخت وكأنني ممثل هزلي يصيح في مسرح.. النجدة”.
المحكوم بالغربة
استسلامًا لإغراء الإحالة إلى أعمال درامية وروائية أخرى، أجد حكاية مصطفى سعيد الذي شاءت الأقدار أن يؤخذ من رفقة أقرانه في طفولته اللاهية، لينتظم في المدرسة التي أنشأها الإنجليز في وطنه ثم أظهر عبقريةً حادةً وجدًا استثنائيًا في الدراسة، أجدها تحيلني إلى شخصية داود باشا المصري من رواية “حديث الصباح والمساء” لنجيب محفوظ، شخصية محكومة بالغربة أينما حلت؛ شرقي بين الغربيين، متغرب بين أهله في الشرق.
وحدها مشيئة الأقدار وهبته ذلك العقل الذي يعبر عنه مصطفى سعيد مرارًا وتكرارًا في “موسم الهجرة” كان عقلي كمدية حادة”. عقل نفر من بين رفاقه الذين أتيحت لهم نفس الفرص، ليصل إلى أبعد مما كان يتوقعه المستعمر الإنجليزي الذي أغراه بالمدرسة أول مرة. بصياغة أخرى، كان عقلًا لم يرض الهدوء والسكينة الذين تتيحهما الفطرة المهيمنة على أهله ورفاقه، فاعتبر كل أرض ينزل بها مجرد محطة في رحلته التي لا يعرف لها نهايةً، بدءًا من الخرطوم، مرورًا بالقاهرة، وإلى لندن.
كان مصطفى سعيد يأخذ ارتحاله المستمر إلى الشمال، وبالتالي إلى الحضارة، أمرًا مسلمًا به، خارجًا عن إرادته، تمامًا كالنيل الذي يجري أبدًا من الجنوب إلى الشمال. والحق أن الطيب صالح لا يبخل علينا بذكر حركة النيل التي تبدو أزليةً أبديةً من الجنوب إلى الشمال في مواضع كثيرة من الرواية، فكأنها مفتاح مضموني يدسه في ثنايا روايته، ليفتح لنا معنى القدرية المسيطرة على أشخاص روايته، ومؤشر يشير إلى هيبة هذا المشهد الپانورامي كلما ابتعدنا عن تفاصيله ونظرنا إليه من فوق.
جدلية الفطرة والحضارة
من بين الشخصيات التي ينحاز لها الراوي انحيازًا غير مشروط، نجد صديقه محجوب، ذلك الذي كان رفيق طفولته وزميل دراسته الأولى المجتهد، ثم قرر فجأةً أن يتوقف عن رحلة التعلم ليعود إلى الأرض مزارعًا فلاحًا كآبائه وأجداده، قانعًا بما تلقاه من القراءة والحساب، مما تستقيم معه حياته ويعينه على القيام بأعماله. محجوب هو رئيس فرع الحزب الحاكم في القرية، وهو رجل نشط للغاية في كل ما من شأنه أن يحسن أوضاع قريته وأهلها، لا يضارعه في هذا النشاط إلا مصطفى سعيد قبل موته.
نجد الراوي يصرّح لنا باعتقاده الصادق أن انكبابه على المعرفة، الذي وصل به إلى الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، أقل نفعًا بكثير للناس وللوطن من جهود صديقه محجوب، وهو ما نجده مرةً أخرى حين يتبادل الحديث أول مرة مع مصطفى سعيد، قبل أن تتضح له هويته، فيقول له الأخير “نحن هنا لا حاجة لنا بالشِعر. لو أنك درست علم الزراعة أو الهندسة أو الطب، لكان خيرًا له.
هذا الانحياز له صدىً آخر في اختيار مصطفى سعيد أن ينهي حياته في وطنه، في قرية لا يعرفه فيها أحد حيث يبدأ من جديد حياةً مختلفةً تمامًا، مزارعًا بين الناس، بعد أن سافر إلى قلب الحضارة في لندن.
هو انحياز واضح إلى الفطرة، ونفور صريح من الحضارة. والشِعر اختيار واع جدًا من الطيب صالح، جعله معادلًا موضوعيًا صادقًا للحضارة، فالشِعر كيان شديد الهشاشة، لا يكاد يثبت لضرورات الحياة التي تتطلبها الفطرة، فمن من الشعراء يستطيع أن يتفرغ لإلقاء قصيدة والفيضان موشك على ابتلاعه، أو الأرض قاحلة تهدده وتهدد ذريته بالموت جوعًا؟
والشعِر في ذات الوقت شديد التعقيد كالحضارة نفسها، فهو ذلك الجنس الأدبي الأكثر احتفاءً بالتكثيف الذي لا يصدر إلا عن عقل استوعب الحياة كلها أو كاد، وهو الجنس الأدبي الذي لا نحسن تذوقه تمامًا إلا إن كان ابن بيئتنا وظروفنا وتكويننا الثقافي، فمن يستطيع أن يدمع لشعر چون كيتس إلا إنجليزي عاش قريبًا من تكوينه الفكري، في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر؟ ومن يطرب لمعلّقة امرئ القيس إلا عربي قح جاهلي أو رمى بنفسه على الأقل في بيئة العرب الجاهلية؟
هكذا، كان تخصص الراوي الدقيق، ممثلًا لذلك القطب الذي تنفر منه الرواية وتجاهد لإقناعنا بالنفور منه. أما الاقتصاد، دعامة الحضارة وتاجها في ذات الوقت، فهو عِلم (صحيح أنه من العلوم الإنسانية، إلا أنه يظل علمًا كالعلوم التي درسها الطيب صالح)، وهو يتعقّد حتى يناسب مجتمع إنجلترا الصناعي الاستعماري في عشرينيات القرن العشرين، وينحل إلى أبسط مكوناته حتى يناسب مجتمعًا زراعيًا فطريًا كما في القرية السودانية، وبذلك يكون مصطفى سعيد في رحلته الأخيرة من الشمال إلى الجنوب، قد قطع المسافة بين الراوي وصديقه محجوب.
نعم، لقد عاد من تعقد الحضارة إلى بساطة الفطرة، ولا أظننا نسرف في القراءة إذا قلنا إنه قطع المسافة بين البحث العبثي عن كيانه (متمثلًا في راوٍ بلا اسم)، إلى اختيار أن يكون “محجوبًا” عن ألق الحضارة بما يختزنه من الإثم. هكذا تبدو أسماء الشخصيات بحد ذاتها مفاتيح محتملةً للقراءة.
هل كان حبًا؟
التيمة الأبرز في الرواية هي شخصية زير النساء، الذي تسبب في انتحار ثلاث عشيقات إنجليزيات بينهن امرأة متزوجة، ثم قتل زوجته وحوكم بسببها في أولد بايلي Old Bailey أشهر محاكم إنجلترا وسجن. يتركنا الطيب صالح نتشوق لمعرفة تفاصيل هذه الانتحارات المحمومة، وتلك الجريمة الغريبة، ولا يفصح عنها إلا في نهاية الرواية. تحديدًا بعد حدوث جريمة أخرى أبشع بكثير، حيث قطعت أرملته السودانية حسنة بنت محمود، عضو ذكورة “ود الريس” الذي تزوجها بإذن أهلها بعد موت مصطفى سعيد، ثم انتحرت هي اﻷخرى.
حين يتساءل الراوي عن سر تمسك العجوز ود الريس بالزواج من حسنة، يقال له إنها قد أصبحت شيئًا آخر بعد زواجها من مصطفى سعيد، بالتحديد أصبحت كنساء المدن. وحين يسألها الراوي، بصفته الوصي الذي ارتضاه مصطفى سعيد على ولديه، هل كانت تحب مصطفى سعيد، تطرق حسنة ولا تزيد على أن تقول إنه كان أب ولديها. يتحرك قلب الراوي بالإعجاب بالأرملة الشابة هو الآخر. ثم ترفض حسنة، مرارًا وتكرارًا، عرض ود الريس بالزواج، ويبدو هذا مخالفًا لعرف القرية. فهل كانت حسنة تحب مصطفى سعيد ووفيةً لذكراه إلى هذا الحد، بينما هي لا تعرف عن هويته الحقيقية أكثر من أنه “يبدو أنه كان يخفي شيئًا خطيرًا”؟.
يترك لنا الطيب صالح اللغز مفتوحًا، إلا أنه يضع أمامنا الأوراق مبعثرةً لعلنا نصل إلى ما يريده. رجوعًا إلى العشيقات الإنجليزيات، تتكرر الإشارة إلى افتتانهن بمصطفى سعيد، وصولًا إلى درجة التأليه أحيانًا، مما يستدعي تساؤل البطل الساخر “مجرد أنك ولدت عند خط الاستواء يجعل البعض يعتبرونك عبدًا والبعض يعتبرونك إلها”.
كانت مطية هذا الافتتان دائمًا هي الأثر الحضاري، فإحداهن كانت فريسته أثناء الاستماع إلى خطبة في هايدپارك، وثانية كانت تستمع إلى إحدى محاضراته واندفعت إليه معلنةً إعجابها، وما لبثا أن عاشا قصةً فانتازيةً، أصبحت هي بمقتضاها جاريةً وهو سيدها في بغداد العصر العباسي.
أما چين مورس، زوجته التي قتلها، فقد مثّلت بالفعل ذروة الحضارة اللاهية التي ألقى مصطفى بنفسه في أحضانها. يقول عنها “كانت تكذب حتى في أبسط الأشياء. تعود إلى البيت بقصص غريبة عن أشياء حدثت لها وأناس قابلتهم لا يمكن أن يصدقها العقل… كانت مفرطةً في الذكاء ومفرطةً في الظُرف حين تشاء. يحيط بها حيث تكون لفيف من المعجبين. يرفون حولها كالذباب… كانت ماجنةً بالقول والفعل”.
والحكاية الأغرب حين جاءت إلى بيته قبل زواجهما ومعه عشيقته آن همند، فسبّتها وأجبرتها على ترك البيت، ثم وقفت أمامه عاريةً تساومه على ممارسة الحب بزهرية ثمينة على الرف، كسرتها من فورها، ثم بمخطوط عربي نادر على المنضدة، مزقته وملأت فمها بقطع الورق ومضغتها وبصقتها، ثم بمصلاة من حرير أصفهان، رمتها في نار المدفأة ووقفت تنظر متلذذةً إلى النار تلتهمها، وحين مال عليها ليقبلها، ركلته بين فخذيه فراح في غيبوبة، واختفت.
في المقدمة التي كتبها أستاذنا الراحل رجاء النقاش، لطبعة مكتبة الأسرة من الرواية عام 1996، يُسائِل النقاش صدق العلاقات التي تولدت بين مصطفى سعيد وهؤلاء الإنجليزيات، ويخلص إلى أنه لم يكن حبًا بالتأكيد وإنما شهوة جارفة تنتهي بمجرد انقضاء الوطر.
وأجدني أخالفه الرأي في هذه النقطة. نحن أمام الحب كما تكرسه الحضارة من خلال أروع منتجاتها في فنون السينما والأغنية والأدب وحتى الفنون البصرية. في كتابه “مشكلة الحب”، يتحدث أستاذنا د. زكريا إبراهيم عن الحب الإيروتيكي الذي بلغ أوج التعبير عنه فيما أنتجته حضارة اليونان من فنون، ثم توارى زمنًا وعاد للظهور في أوربا قرب عصر النهضة من خلال استدعاء رموز اليونان القديمة، ويضع في مقابله حبًا آخر روحانيًا، تبنته المسيحية واتخذت له اسمًا يونانيًا أيضًا هو (أجاپيه Agapẻ)، وهو حب هادئ للغاية يرمي إلى خلاص المحب ومحبوبه، لا يعرف جنون الإيروس Eros الوثني القديم.
وفي تقديري، أن هناك معادلًا إسلاميًا لهذين القطبين، ففي القرآن لم تذكر مفردة الحب بين الرجل والمرأة إلا في سورة يوسف، حيث وصفت مشاعر زليخة تجاه يوسف “وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبًا، إنا لنراها في ضلال مبين”. أما ما يتحدث عنه القرآن من المشاعر الطيبة بين الزوجين، فيسميه “المودة والرحمة”.
ربما كانت علاقة مصطفى سعيد بحسنة بنت محمود هي علاقة المودة والرحمة، التي افتقدها في إنجلترا. علاقةً هادئةً أسفرت عن ثمرة ولدين، دون مد وجزر. لكن ما الذي دفع حسنة لتلك الجريمة البشعة وقد كان في وسعها أن تستمر في الامتناع عن ود الريس أو تهرب بولديها مثلًا؟
في تقديري أن المودة والرحمة بين مصطفى وحسنة لم تخل من جذوة الحب العنيف الملتهب، التي دفعت چين مورس لإذلال مصطفى ودفعته لقتلها ودفعت ثلاث نساء أخريات للانتحار. وهي ذات الجذوة التي لم تترك حسنة على فطرتها الأولى، امرأةً عاديةً ككل نساء القرية الآمنة، بل حولتها إلى امرأة “كنساء المدن”.
وهي ذات الجذوة التي كرر مصطفى سعيد الإشارة إليها في النصف الأول من الرواية، بقوله واصفًا العالم الأوربي وعلاقته وعلاقة وطنه به “جرثومة طاعون لا شفاء منه”. نتحدث عن عدوى الحضارة، الجرثومة المؤكدة الانتصار التي لا تقف أمامها دفاعات ولا قبل لأحد بمقاومتها. وهي ذات الجذوة/ الجرثومة التي حرمت الراوي من حلمه الأساسي البريء، وهو أن يرى قريته لم تتغير بين سفره إلى إنجلترا أول مرة وعودته منها.
هكذا انتقلت عدوى الحضارة إلى حسنة فأصبحت أشهى امرأة في عيني ود الريس، وربما بسبب هذه العدوى وصل نفورها من ود الريس إلى اشمئزاز وكراهية، كفيلين بارتكابها جريمةً لم تسمع بها القرية الآمنة من قبل. يبدو الأمر قدريًا لا فكاك منه.
طبيعة الجنس في الرواية
من بين قطع اللغز التي نثرها الطيب صالح أمام راويه، وبالتالي أمامنا، حين دخل صومعة مصطفى سعيد المحرمة، ليشاهد تلك الپورتريهات التي رسمها البطل لأشخاص كثيرين. يلاحظ الراوي وجود رسوم للعشيقات الثلاث، بينما الزوجة المقتولة (چين) موجودة في صورتها الفوتوغرافية فقط. ويلاحظ وجود رسوم كثيرة جدًا رسمها مصطفى لود الريس، وهو أمر أكثر إثارةً لفضول الراوي وفضولنا.
في تقديري أن غياب رسم للزوجة المقتولة ذو دلالة قوية. كان مصطفى يتجاوز كل عشيقة ويجردها إلى عمل فني ينضم لأعمال أخرى، والفن زبدة الحضارة التي عاشها مصطفى في إنجلترا. لقد كان يؤكد مع كل پورتريه أنه يضمهن إلى متحفه الشخصي للحضارة، وهو متحف مواز لما يعج به بيته الإنجليزي من آيات الفن.
أما چين فقد كانت نهاية هذا العالم، كانت مستعصيةً على التحويل إلى لوحة لأنها آخر الطريق. فكأنها في ذاتها خلق فني بالكامل “تكذب في أبسط الأشياء”، أو منتج حضاري نهائي، ليس بعده فن أو حضارة. أما ود الريس فاستقصاء سره يعيدنا إلى المشاهد التي ظهر فيها في الرواية، يسامر جد الراوي ويتحدث عن زيجاته المتعددة وعن تفاصيلها الجنسية مع “بنت مجذوب”، وهذه الأخيرة جاوزت السبعين أو كادت، تعددت زيجاتها هي الأخرى، وبقيت لها مسحة من جمال رغم سنها كما يقول الراوي، ولا تستحي من ذكر تفاصيل حياتها الجنسية هي الأخرى.
هذا الظهور الصارخ للجنس في عمق القرية السودانية ليس ظهورًا مجانيًا، ولا مجرد تحبيشة إيروتيكية حشرها أديبنا في روايته لزيادة مقروئيتها. فالملاحظ على الحكايات الجنسية لود الريس وبنت مجذوب أنها، رغم فحش تفاصيلها أحيانًا، لا تنتهي بكوارث على الإطلاق. هي حكايات آمنة ربما كانت تفور بالشهوة زمن وقوعها، لكنها ظلت خاضعةً للفطرة بشكل ما، فهي مجرد تلبية للغريزة يسبقها ويتلوها مودة ورحمة.
هكذا، ربما بدا ود الريس لعيني مصطفى سعيد معادلًا موضوعيًا قرويًا له، خاصةً فيما يتصل بغزواته الجنسية. لكنها لم تكن غزوات فتاكةً قاتلةً كغزوات مصطفى في إنجلترا. لم تدمّره ولم تدمر غيره. فالجنس الذي هو أوفر العلاقات البشرية حظًا من الحميمية كان أشبه بالصدام الحضاري في حالة مصطفى، ولم يكن أكثر من شهوة فطرية بريئة من حمولات الحضارة الثقيلة في حالة ود الريس.
باختصار، ربما كان مصطفى سعيد يحلم بأن يكون ود الريس. وسخرية القدر أن الجنس لم يدمر ود الريس إلا حين مسته الحضارة بشكل غير مباشر، حين انتقلت إليه جرثومة طاعونها الذي لا شفاء منه عبر زواجه بحسنة بنت محمود.
أزمة وجودية
تتناول هذه الرواية عادةً، باعتبارها نموذجًا لأدب ما بعد الاستعمار Post-Colonial Literature وهي بالتأكيد نموذج جدير تمامًا بأن يدرَّس وتعاد دراسته كل حين. في رأيي أن الطيب صالح قدم من خلال هذه الرواية ملامح فلسفة كاملة في الحضارة وعلاقتها بالفطرة، والأزمة الوجودية التي لخصها المقطع الأخير من الرواية، وقد أوردناه آنفًا، ليست أزمة إنسان معلق في الفراغ دون ألوهة ترعاه ولا سبيل له لتحقيق وجوده، إلا أن يختار ويلتزم اختياراته، وهي طبيعة أزمة الوجود في أعمال سارتر مثلًا، كما نجدها في روايته سن الرشد The Age of Reason.، بل هي بالأحرى أزمة إنسان ملقىً في تيار الحضارة، موقن بأنه لا سبيل أمامه لمقاومتها، وأنها تشد عالمه إلى دمار محتوم، وبالتالي فهو بين خيارين؛ أن يستسلم للفيضان تمامًا معجلًا بنهايته، أو أن يظل يقاوم متمسكًا بمفردات عالمه رغم معرفته بالنهاية المحتومة. اختار الراوي أن يقاوم ويطلب النجدة وهو يعرف ما سيؤول إليه أمره، كممثل هزلي على المسرح. وهذا ما يريدنا الطيب صالح أن نفعله. المقاومة، حتى لو أيقنا بحتمية الهزيمة.