يسعى الشاعر الحسين بن خليل في كتابه الذي جنّسه بكلمة (نصوص) على جعل المنطقة العليا له غير خاضعةٍ لرغباتٍ معّينةٍ من القرّاء، فضلا عن انحصار التلقّي لدى المتلقّين الذين هم يتناولون النصّ باعتباره قواما كاملا يحمل مهمّته المعنوية والمادية ـ وليس مرحلة قراءةٍ عابرةٍ، ربما تحمل الموافقة أو الاعتراض.
في هذا الكتاب، أو يمكن أن نطلق عليه مجموعة النصوص، تتداخل فيها الشعرية بالسردية، بهدف إشعال منطقة التلقّي بما هو مدهش في الجمل، التي تؤلّف النصّ بعمومه، والجملة التي تؤلّف السطر النصّي، حين يحمل مداه التأويلي وموسيقاه الداخلية، وكأنه هنا يعمل على تبويب المنطقة القصدية بكلّ ما هو خاضعٌ لمبادلة الصورة بالمرايا، ومبادلة اللغة بالمعنى، ومبادلة الشعر بالسرد، وبالتالي التنقّل ما بين اختيار المفردة ودلالتها، واصطياد الدليل المفضي إلى روحية الحصاد الشعري. ورغم أن كلمة نصوص لا تخفي الشعرية التي تعد هي الغاطسة تحت الماء، وإن كانت أيضا أيّ الشعرية تتقاسم الطافح مع السردية.
في هذه المجموعة تبدأ اللعبة النصيّة من العنوان، على الرغم من أنه عنوان نصّ منفردٍ من نصوص المجموعة التي بلغ عددها نحو 53 نصا، نجده أيّ عنوان أي نصّ وكأنه ركّب تركيبا من أجل منح الموسيقى الداخلية للنص، من خلال جملة العنوان الرئيسية. فالعنوان يشكّل وحده سطرا في النص، مثلما يعد محمولا للتأويل. فاللعبة العنوانية هنا أرادها أن تحمل روح السرد وجسد الشعر. فجعله يتكوّن من أكثر من كلمة، وأكثرها أربعة وعشرون نصّا مكوّنا من ثلاث كلمات، وأربعة عشر نصا من أربع كلمات، وأربعة نصوصٍ من خمس كلمات، وثمانية نصوصٍ من كلمتين، ونصّان من كلمةٍ واحدةٍ، وهو ما يعني الميلان نحو جعل العنوان أصل البناء الكلي للقصيدة، إذا ما أخذنا مفهوم العنوان من خلال تأويل حضوره وتشكيله، الذي أخذ ثلاثة أبعاد:
البعد الأوّل: تشكيله الدلالي، حيث يمكن وضع اليد على الدلالة في نصوص مثل: ندى وظواهر نشيج مخبوء/ بين يباس النهر وبلل الصحراء/ تغزلك المفارقات بدلا عني…
البعد الثاني: وجوده الموسيقي حيث يمكن إيجاد المرمى الواضح لترديد الجملة العنوانية مثل: تلويحة بحاجبين مقطبين/ تغزلك المفارقات بدلا عني/ زهرة عاقرة ونوايا ماجنة.
البعد الثالث: وجوده الايحائي التأويلي الذي يمكن أن يكون وجوده داخل النصّ أكثر منه في العنوان: إلى رأس الرمح الفرنسي/ أفيض على جناحك/ منذ الرعشة الأولى/ إن ناح الكسر ذرفت له الشقف….
وبالتأكيد فإن العناوين الأخرى مرّة توجد في بعدٍ واحدٍ، ومرّة توجد في أكثر من بعد، لاشتغالها على الدليل الشعري وعلى الدلالة السردية.
البناء السردي واللعبة الشعرية
يفتتح بن خليل نصوصه بالمناداة والسؤال معا لـ(العير) وهنا دلالة كبرى لخاصية التأويل التي يريدها المنتج لكي يلعب بعدها أو يجعل المتلقّي يبحث عن تلك العلاقة بين الجهة المنادى إليه والمنادى القصدي.
“أيتها العير.. مواعيد الرحيل يطوقها مؤذن الملوك
ما من سرقة…
الأصوات بيضاء.
وغنائم الصدفة
لا تبالغ ساحه القتال
٭ ٭ ٭
أيتها العير من منكم حمل الخطيئة لتبرك الأرض؟
من سرق الصواع؟
من اشتبكت نواياه مع فتيل يتهيأ رويدا رويدا؟
من قضم الطريق
وأسرج العرش معه”
وهنا كلمة (العير) لها أكثر من معنى اصطلاحيّ ولغويّ وتأويليّ، منها ما جاء في القرآن في سورة يوسف (وَ لمَّا فَصَلَتِ العيرُ) أي غادرت مصر، وأيضا تأتي بمعنى الإبل تحمل الميرة. وكل ما امتير عليه من الدواب فهو عير وهي بمعنى القافلة فيها الأحمال. وكذلك ما جاء في المعاني الجامع: (العِيرُ: ما جُلِبَ عليه الطَّعامُ من قوافل الإبل والبغالِ والحميرِ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ الْقَوَافِلِ) ولهذا فإن هذه المقدمة هي الأولى التي يمكن أن تعد بوّابة الدخول إلى تقشير الأفكار التي تحملها النصوص في دلالاتها الشعرية المؤدّية إلى التأويل الاجتماعي والسياسي وحتى الديني، ما يعني إن السؤال موجّهٌ إلى من يناديه في النصوص، وإلى تلك المرتبة التي يحتاجها في اللعبة التدوينية في تسطير المفردات، لكي تأخذ على عاتقها بناء الجواب من قبل المتلقّي الذي يعد أيضا مرحلة من مراحل المناداة، أو أحد الجهات التي تعطي له مهمة رزم الأجوبة. وهو الأمر الذي يقود التمكين في جعل المفردات الطبيعية عبارة عن شحنةٍ إدهاشيةٍ مرّة، وقابلية على تثوير الصورة الشعرية في المرّة الأخرى. فنصوص المجموعة لا تعتمد على تسارع خطى المفردات المتراتبة أفقيّا، بمعنى أن جمل النصوص، لا تتكوّن من كلمةٍ واحدةٍ أو جملتين شعريتين، بل من جملٍ ترتدي ثوب السرد بروح الشعر، والعكس صحيح أيضا. فهو في البناء يبدأ بالمراوغة اللفظية، كأن يبدأ من نحوه الذاتي للانطلاق إلى النحو الآخر المادّي، فـ(يصوغ) الجملة باعتبارها مكتنزا دلاليا مثلما يمنحها روح الفكرة باعتبارها مفهوما شعريا. وهو بهذا يضرب بحجرٍ واحدٍ عددا من اللوحات.
الأولى: إنه يبرهن على قدرته على المطاولة الشعرية في النصّ منذ الاستهلال ولا يعطي متونه بسهولة. وبالتالي يخلق منطقة انطلاقٍ لا تكتمل حتى يتم الإسراع إلى ما يأتي من مناطق الجمل الشعرية الحاملة لموسيقاها:
“لست كالندى أعصر من النعاس صبحا لأول ريق
يغرد خارج سرب مسار نجمك
لست ليلا لتتضح تعابيري وقت المنتصف) من نص (ندى وظواهر نشيج مخبوء).
الثانية: إنه يمنح الأشياء قطرة قطرة من خلال إعادة المسار اللفظي للكلمة في لعبة تدويرية، وكأنه يريد الانطلاق عبر القصيدة المدوّرة، لكنه لا يريدها، فينتحل صفة المبوّب للتعابير، بهدف طرق باب الدهشة. فالنصّ الواحد يريده مبنيّا على أساس الدهشة التي تحملها المفردة لا التي تحملها الفكرة، وهو هنا يصنع منطقة شعرية عبر كسر أفق التوقّع الاستطرادي، من خلال الأسئلة تارة، أو من خلال التقطيع بنجوم، أو حتى إعادة تدوير الكلمة، لكن بمعنىّ آخر، وكأنه يركز على أهمية التكرار اللفظي بمعانٍ أخرى لتجديد ولاء التأويل الذي يريده:
(يدك الطولى الآن لا يخشاها سوى
من يتصيّر رماداَ؟
من يغرق؟
من يتبخر أو ينسى؟
يدك الطولى مرهونة بالأغلال) من نصّ (لا تكبل نهرك فضيلة النسيان).
الثالثة: إنه يمنح لعبته القدرة على التبادل بين الأماكن الشعرية والسردية، من خلال استنطاق الفكرة الكلية، عبر عمليات الاستدراك التي تأتي أيضا ضمن جهد كسر الأفق الشعري وتداولاته اللفظية، وجعل المتلقّي يقف معه لاستنتاج الصورة المرآتية للنص، من خلال الجملة السردية:
(لكنه لن يلبسك ثوب نوم يتجعد كما نويت الولوج إلى السواد
أنت
لست قرية داكنة الآن
متى ما تعريت في نهري وبللت النوايا
سأقف تحت عذقك
فوهة
وشفاها
وجذعا!
(من نصّ (سيل جاف وثوب يتجعد)
الرابعة: إنه يتمكّن من التبادل ما بين الذات والموضوع، والمركز والمحيط في الفكرة، فيجعل الكلمة عبارة عن مدلولٍ غنائيّ شعريّ تارة، ودليلٍ سرديّ مهيمنٍ على الخاصية الناطقة للذات/ الشاعر ثانية أخرى:
“يا حبيبتي كثيرا ما يراودني شعور أضع فيه كدمه على أخرى وأقول بنيه فاحشة، في ودي.
لكني سمعت الكثير من الأقاويل
سمعت أني مكلف جدا بالنسبة لقائمة التكاليف عند الله.. فانا كلما وددت أن أتقرب اليك أفصل جيوبا مثقوبة أضعها بين كفين مبسوطتين إلى السماء”
من نص (سرد أبله).
الخامسة: إنه يتمكّن من وضع الخطوط العامّة لبنائية النصّ بالاعتماد على المفارقة اللغوية أيضا التي تمنحها مفاجأة الجملة الشعرية التي يجعلها تنثال على راحتيه، خارجة من رأسٍ مليءٍ بالمخيلة. فيجعل الجملة عبارة عن مكنونٍ إدهاشي. قد يراها البعض لعبة فطرية لكنها أيضا بنية اللعبة الشعرية التي تنتج النص وفق اللغة التي يختارها:
(يا آلهة المرايا
ابتلعي أنيني واسكبيه بين شفاه المترفة
أبلغي العاشقين
ليستعدوا وهم يضعون أولى أقدامهم
في بئر الموت الوردي
خذي زواياي المتعرقة
ضعيها أمام هوس الفتيات
خذي أشواقي المتحجرة على نظرة
ارسمي صوره للمقل الحائرة) من نص (مئذنة عقيم)
مستويات التدوين
هذه المجموعة تعتمد على عددٍ من المستويات الكتابية، أهمها المستوى القصدي، حيث تبدأ النصوص من خلاله ويتراجع المستوى الإخباري إلى الخلف، أو أنه ينضوي تحت عباءته، فيما يكون المستوى التصويري مفخّخا في التعابير التي يكتنزها النص.. وهذه كلّها تضع معادلة الطرف الثاني بوجود المستوى التحليلي الذي يتناغم كليّا مع النهاية التي يبتغيها المنتج في لعبته والتي يمكن أن نراها عبارة عن إجهادٍ معنوي، لما بدأه في النص الواحد، بدءا من العنوان حتى الجملة الأخيرة، والتي أرادها أن تكون ليست خاتمة طبيعية، بل فكرة قابلة للتحليل والتأّمل وربط كلّ ما تم ذكره من خلال التفعيل المهاري للمفردة في شكلها الخارجي وما تعكسه مرايا اللعبة على التأويل. والنهاية غالبا ما تكون هي صراخ ذاتي أو احتجاج فكري على ما حول المنتج من فعاليات قد يراها بعدّة مسكوتات، سواء بالخوف من الواقع أو الجهر به.
“كـأن الخبز في صناديق الاقتراع
افتحوها فما زلنا نفتش
عن كلمة (تتخيس) لنقذف فيها المسامر) من نص (عطايا خطوط الدين والطولى).
(لست أنوي خياطة جيب النهر
وسحاب الساقية
لا يقبض
على ما جاءت به امرأة ملثمة
من حانوت صغير
***
(من نص (سلم أوراقه للقوس).