1- إسراء
اصعد، فعند حدود الرّوح أروقة
خلالها عبر العشّاق والتحفوا
وأشرفوا من سماء البوح في ظلل
ضجّت بهم همهمات اللّيل فاعترفوا
وحينما ازدحمت أسرارهم نفذوا
حتّى تفايضت الأرجاء والسّجف
سكينة اللّيل قد أفشت سرائرهم
وخفقة الضّوء أخفت كلّ ما كشفوا
آه، هو اللّيل…لا…بل ربّما لعبت
أصابع الفجر حين الضّوء يرتجف
وإذ يحوكون من أنوارهم حجبا
تطلّ من بينها الذكرى فنأتلف
حيث التقينا وقد أسرى الصّهيل بنا
بين الزّمانين لا ضوء ولا سدف
فإن تواصل أهل العشق لا عجب
أسرت بأحبابك الأشواق لا الصّدف
وقد تباشر ركب الشّوق حولهمو
بشّر فؤادك أن أحبابه نصفوا
وقل تعطّر هذا اللّيل إذ عبقوا
زور الأحبّة، بل نجواهمو، كلف
جاء الأحبّة من شوقي ومن شغفي
أهلا أحبّة روحي، فالهوى شغف
جاؤوا وأشرق قلبي عن بشارتهم
كما تبسّم عن مكنونه الصّدف
جاؤوا كذا،أوكأنّ الأمس ما انفرطت
حبّاته، أو همو من بعد ما خلفوا
قد مرّ ليل وسرّي في حقائبهم
يودّعون فأبكيني، وأرتجف
كانوا ندامى بوادي الرّوح هدهدهم
طيب التلاقي وأنس فوق ما نصف
وكان ركبي مدّ الطّرف منزلة
منهم فلمّا رأوني مثقلا ، هتفوا
يا ساريا لا يتيح اللّيل غايته
حتّى تداوله الإجهاد والأسف
هلاّ انتظرت مدى كاسين صحبتنا
نحن الأحبّة والأشواق والدّنف
كانت مصابيحهم في القلب موقدة
وهم على ضوئها يتلون ما ذرفوا
فقلت آنست نارا، علّ جذوتها
تضمّ راحلتي دفءا وتكتنف
أو كنت ملتحفا منها على قبس
يطيل بي شغف التّرحال إذ أقف
وجدتهم، وكؤوس النّور مترعة
من حوضهم ومذاق الرّاح مختلف
طافت أباريقهم تسعى إلى قدحي
وأزهرت طربا كأسي بما عطفوا
فارفع حجابك لا يرخى على لهفي
في حضرة الضّاد يطوى الرّيّ واللّهف
ارفع حجابك واتركني هنا قدري
أنا المرايا، أنا الألواح والصّحف
أنا كتابك إذ يفضي إلى ملإ
شوق المسافات يدنيهم، وإن وقفوا
يا شاهدي وحريق الحرف يصنعني
يا كاتبي ومداد الدّمع يعترف
أمشي على أضلعي حتّى أرصّفها
ضلعا بضلع لأحبابي وأرتصف
يا حرف بلّغ فهذا الصّمت مرتفع
وأنت أفصح من يروي ومن يصف
وأنت عند ازدحام اللّيل متّكئي
وأنت عند انصراف الصّحب تختلف
وأنت قيثارة السّمّار ما طربوا
في شجوها سهروا من لحنها غرفوا
أبلغ أحبّتنا أنّا على قدر
نجتاز هذا الدّجى حينا وننحرف
وأنّنا ما نقضنا عهدهم لضنى
فلم نكن لصروف الدّهر ننصرف
وأنّنا قد نضيع الدّرب الدّرب آونة
لكنّ بوصلة العشّاق لا تقف
فلم يزل في دماء العابرين بنا
ريّ وفي طيلسان العزّ ما نصف
ولم تزل راسيات الأرض شامخة
ولم يزل في معين النّفس معترف
ولم تزل في هدير الماء أغنية
تتلو الرّبابة بشراها وتعترف
ولم يزل في صهيل العاديات مدى
للإنطلاق وللتّرحال مزدلف
تلكم يميني، بلا سوء يرصّعها
طيب البياض وطهر مورق ورف
إذ نلتقي وهموم النّفس متّصل
أطرافها وبروحي يعقد الطّرف
قبضت كفّي على جرحي وأسعدني
أنّي وجعت لجرحي مثلما نزفوا
وسوف أولد يوم الموت منتصبا
وسوف يوأد موتي وهو يرتجف
ويوم أنشر ألقي بينكم صحفي
يا شاهديّ اقرأوني ساعة وقفوا
هذا كتابي إذا ما ضمّكم وطنا
خرّت به راهبات الشّوق تعتكف
2 عروج
أعددن مرتفقا للرّوح ذا سعة
لو مدّت الأرض لم تشغل به طرفا
سماؤه من عليّ الحلم حبكتها
وأرضه راسيات الحزم متّصفا
هواؤه ملتقى الأشواق ينسجه
وماؤه من عيون الوجد قد غرفا
ثماره أو قطوف الخصب دانية
ورائق من ظلال الخير قد ورفا
أطفن بالنّفس يستجلين منغلقا
من الصّدور فلم يغنمن مقتطفا
صدرن عن منهل النّجوى بلا بلل
وعدن من قائل الذّكرى وما اعترفا
يئسن من مذنبات الصّمت ما نبست
وعدن من قائل الذّكرى وما اعترفا
فقلن أدرك جناح البوح مرتحلا
إلى معاريج أعيت قبل من عرفا
كنّا سمعنا حديثا عن مصاعدها
ولم تر العين من أفيائها كنفا
بل حدّثت فلتات الشّوق عنعنة
أخبارها وروت أسرارها كلفا
كانت تجيء رياح الطّيب مثقلة
من أرضها فعلقنا طيبها شغفا
مرّ المحبّون أفواجا إلى غدها
ولم يعودوا وخلّوا أمسهم ترفا
كأنّما زمن فيها بلا زمن
أو كانت الأرض غير الأرض مختلفا
فلم تدحرج متى فيها ولا سألوا
عن أين أين ولا ابتاعوا بها صدفا
ولم يعب قائل فيها بقولته
ولم يدن شاعر فيها بما اقترفا
لا ندّعيها ولا نأتي مراكبها
لعلّ مثلك يلقى عندها نتفا
شغفنني بحديث ماله شبه
من الحديث وسحر بعد ما وصفا
كأنّ شقّ نجاة شقّ في جدر
من الظّنون وسترا فضّ فانكشفا
دعوت أدني جناح البوح معتذرا
أنّي أطلت بقائي هاهنا سرفا
لعلّ أرضا بلا سوء أجاورها
فجيرة السّوء أضنت جيرتي أسفا
أمرّ من صحبة رأسي تجارتها
لصحبة لم تبع ودّا ولا شرفا
ركبت جارح طيري عند مزدحم
من الشّجون بأرض طيرها ألفا
وقام بيني وبين النّاس لي رصد
من الرّماة أقاموني لهم هدفا
لا يسمعون خرير الخصب في سحبي
فقلت في مسمع الأيّام بعض كفا
سيعلمون متى غابت قوافلنا
بأيّ همّ قطعنا قفرهم لهفا
هذي بقيّة شكوى في حناجرنا
هل يدركون بأذن الموت ما عزفا
حملت شكّي، يقيني، ثقل مشغلتي
وجئت أرسف في فوضاي معترفا
كنّا على البوح مهموما وقافية
وخافقا لم يزل يهتزّ مرتجفا
في ظلمة من غبار الشّك مطبقة
لولا اليقين لضاع الرّكب واختلفا
مولاي خلقك جبّارون في وهني
ولست أملك غير القول منصرفا
أريد هارون عن صدري على شفتي
لكي تعانق لام العزّة الألفا
مولاي خلقك أغلال على حلمي
فكيف أفلت بالأحلام منتصفا
وكيف أفرق بحر الشّكّ يا سفنا
جرت بها الرّيح عن شطآنها جنفا
ولا عصاي معي كي أتّقي تعبي
ولا أهشّ على حالي بها تلفا
ولا لساني مفتوح على وجعي
ولا أخي حاضر أملي له الصّحفا
وحين “ألقوا” سعت وهما حبالهمو
وخيّلت لي، مددت الكفّ مرتجفا
لولا هواتف ملء النّفس زاجرة
لكنت أشبه من ألقى ومن لقفا
رددت كفّي على جرحي وأسعدني
أنّي وجعت لجرحي كلّما نزفا
حملت شكّي،يقيني، ثقل مشغلتي
ولذت أركب موجي حائرا تلفا
وكان خلفي ملوك، خلف صولتهم
غواصب الفلك إمّا فلكنا انعطفا
سألت عنهم قرانا، قيل مذ دخلوا
وهم على العادة الأولى هوى ، ووفا
أويت للطّور كان للبرد في حلمي
وكنت أعرف دفء الطّور والكنفا
ثنيت روحي على أعتاب عزّته
فكفكف القلب من أوجاعه وغفا
وضعت فوق يقين النّار أسئلتي
فخفّقت مربكات الشّك وانخسفا
سمعت خلف هجوع النّفس غمغمة
عرفتها وعرفت القوم والهدفا
كانوا يمرّون تحت اللّيل همهمة
ووقع خطو وصوتا لاهثا وجفا
وكنت أسكب أمن النّار في بدني
وكنت تحت جناح الطّور ملتحفا
قل فالهثوا، بعد هذا اللّيل موعدنا
تنفّس الفجر يا أوهام وانكشفا
نحن المحبّين، لم نصلب كما زعموا
ولم نبدّل ولم نسلم لهم شرفا
***
وفي الطريق…
3-عند مدين
ومرّ من ليله الحاني أوائله
ومال منتصفا أوبعد منتصف
وألبست صحوات الطين غفوتها
وأشعلت طلعة النجوى حشا كلف
وأسلمت جيدها أنثى لشاعرها
ومسّحت كفّ خزّاف على خزف
وأرسل الفجر قبل الفجر نسمته
تحنو على كبد مدّت على شغف
وضمّ كلّ حبيب ضلع كاتمه
وطاب للصّمت أن يصغي لمعترف
وكنت أسمع في روحي مواجدهم
وكنت أبصر ملء اللّيل من سدف
لا أرض للأرض إذ لاخطو في قدم
ومطلق الوقت يسري في دجى عكف
ترجّل الطين عن طيني ليرفعني
براق شكواي محمولا على كتف
وأسرجت نار من نهوى على جبل
أو أسرجت جبلا،يا نار فانكشفي
لعل جانب هذا الطور ينفحني
بنفحة من سلام النّار والكنف
ما كنت أطمع أن يلقى إلى جبل
فقد نسجت بأمن النّار ملتحفي
أنخت ثمّة رحلي حيث ما رحلت
هناك إلاّ مطايا الخائف الوجف
وضعت عن ظهر روحي ما تنوء به
من الحمول فلم تأسف على سرف
وأربك العقل أن نودي إلى أفق
من الموازين لم يدرك ولم يقف
كنّا نقيس بما في الأرض من حسب
لم تخطئ الأرض بل قسنا بمنحرف
لربّما صدقت، بل إنّها صدقت
نحن اختلفنا على ميزانها النّصف
فالأرض مذ دحيت قالت معارفها
وما قوانينها إلاّ على كلف
والكون أجمعه ماض إلى هدف
والنّاس أكثرهم ساروا بلا هدف
يا كاتب الخطو هل دربي يشاركني
مزالق الخطو أم حمّلتني صدفي
اعذر غيابي ترفّق بي فراحلتي
ظلّت تساق إلى مستوحش عصف
لا،لا تقل إنّني كنت الدّليل لها
ألست تشهد كم سيقت إلى نشف
لو كنت قائدها، هل كنت موردها
مهالك الورد،قل عذري ومنتصفي
كانت تساق بأمر الجهل مغمضة
وكنت أحسب تمرا كيلة الحشف
بل كنت أعلم أنّي فوق ما علمت
مصاعد العلم، يا جهلي ويا خرفي
لعلّني كنت معذورا وبي سبب
أمالني عن سويّ الخطو للجنف
لا تتّهم عنكبوت القول أن نسجت
من المعاذير والأستار والسجف
كان النّسيج بخيط النّاس منسجه
الآن بيّن ما يحويه من ضعف
لا تكتب الآن،يكفي ما كتبت غدا
أخشى كتابك،أخشى ماحوت صحفي
أنا الذي كنت أملي،كيف ما فطنت
جوارحي أنّ ما أمليته تلفي
وحدي أنا كنت دون النّاس مرتبكا
كحاطب اللّيل حطّابا بلا هدف
يا شوك دربي لقد أدميت من حلمي
مواطئ الصّبرها أمشي على نزف
غادرت(مدين)يستعلي الطغاة بها
وليس في مائهم فضل لمغترف
بالقابضين على ماء المنى صلف
وبالحيارى ارتباك العاجز العزف
ضعاف مدين والعطشى ومن غفلوا
والقاعدون على حالين من أسف
لا نارفي يدهم،لا ماء في غدهم
مستضعفون بلا جهد ولا كلف
يقودهم زمن أعشى إلى زمن
أعمى إلى زمن أغبى إلى جرف
غادرتهم،وجراري نصف فارغة
ونصفها نصفه أوفى على تلف
غادرتهم ومحكّ الرّيب علّمني
أنّ اليقين على مرمى دجى صلف
فاقبض من الآن في يمناك ما بعثت
مطالع النّور من أوجاعك النّزف
وقل بريء أنا من أمر يوسفكم
يا تاركي يوسفي نهبا لمختطف