ثمة علاقة بين اللوحة والعين المبصرة التي تهتم بدهشة الجمال.. وهذه الدهشة تحدّدها أطر العلاقة بين الخطوط التي تكوّن اللوحة وألوانها، وبين المعنى الذي تضخّه اللوحة في حكايتها وتأويلها وكيفية قراءتها مهما تعدّدت المدارس الفنية.. ولهذا فإن الإنسان أوّل ما اكتشف أن صوته محدّد الشكل، فإنه حدّد لمخيّلته أيضا القدرة على الوجود والتحوّل من المخيلة إلى شيءٍ ملموسٍ، فكانت اللوحات والجداريات والرقيمات والرسم على جدران الكهوف.. بل الرسم على النعوش التي تحوّلت إلى قبر، وكأنه يعي أن الخلود لا يعني أن يتحوّل الميت إلى مومياء، بل إلى ما تمنحه اللوحة التشكيلية (النحت) الذي كان فن العهود السحيقة والتحوّل من اللفظ الصوتي إلى الصورة المحكية الراكزة، إلى الواقع الذي يعيشه الرسام (النحات) لكي يديم العلاقة بين الفكرة الخالدة والخلود المتخيّل الذي سعى إليه في العلاقة الميتافيزيقية التي تربط بين الواقع والمخيّلة، فأنتج لنا أسطورة التحوّل من المتخيّل إلى المادّة.
وأهم ما في هذه العلاقة هو التشكيل أو النحت الانطباعي، الحركات التي تؤلّف الكتابة أو اللّوحة التي تعطي معاني الوجود للحاكم أو الرعية.. ولذا فإن النقل الواقعي كان أولى الخطوات ومن ثم الانطباعي الذي يعني الانتقال من الطبيعة إلى اللوحة بكل الزوايا، وهو ما يدفع الكثير من الفنانين للأخذ من الطبيعة ما يحوّل المخيّلة إلى واقعٍ، قبل أن تتعدّد المدارس والتحوّلات اللونية وحركة الفرشاة، بمعنى أن الواقع هو المانح لقوّة ودقةّ الخطّ التشكيلي الذي لم يزل مهيمنا، بل إن من يمارس هذا النوع من التشكيل يراهن على قوّة الخطّ ودقّته، مثلما يراهن على ملامح اللون وتطابقه. ولهذا فإن هذا النوع من التشكيل ظلّ راسخًا لدى البعض، مثلما ظلّت القصيدة العمودية راسخةً باقيةً، رغم انتشار الأجناس الأدبية الأخرى من شعر التفعيلة وقصيدة النثر. ومن بين الذي اشتغلوا على اللوحة الطبيعية أو الرسم الانطباعي، هو الفنان عماد جواد. ففي أعماله المتنوّعة يبدو الفنان التشكيلي، أو الرساّم، كما يفضل أن يوصف به، نجد أن الانطباعية أو النقل الواقعي مع القليل من المخيّلة في تغيير الحركات، أو جمع المتناقضات، أو نقل التجمّعات، وكأنه يريد نقل العدسة الفوتوغرافية لتكون ناقلةً عبر حركة فرشاةٍ لها دقّةٌ عاليةٌ ليس في خداع العين، بل في ممارسة المشهد، في عملية تلقٍّ لا تبحث عن حركية اللون وترتيب التأويل، بل للبحث عن حركة الخطوط، وإن كانت لونية لكنها تنطق بالانتقال من مرحلة التفتيش عن تأويلٍ حركي، إلى دهشة حركية، تنازع اللون في مزجه وإعلاء قيمته. فلا يمكن مغافلة اللون في اللوحة، لكن هنا في لوحات عماد جواد لا يأتي اللون ككأسٍ معلّى، بل لمساوقة المعنى التشكيلي، ليكون مرايا اللوحة المراد تأطيرها. فما بين الانطباعية التشكيلية واللون ثمة تناصف لا غلبة لأحدٍ على أحدٍ في الطرفين، وهو بهذا يبحث عن فلسفة الصورة المنقولة من الواقع بكلّ أبعادها، سواء كانت صورة فوتغرافية قديمة أو حديثة، لتعبّر عن القدرة المبهجة في نقلها بكل تفاصيلها، وهو ما يطلق عليه فلسفة الصورة الانطباعية.
وعماد جواد الحاصل على شهادة البكلوريوس في الرسم من جامعة بغداد، وعضو جمعية التشكيليين العراقية، وحاصل على عدة شهادات تقديرية، مهتمٌّ في إنتاج العمل الفني القائم على الموروث والطبيعة، مثلما هو مهتمٌّ بتطوير الفكر الأكاديمي المدروس في اللون والمضمون، ولهذا فهو يمارس عملية النقل الطبيعي، وليس الاستنساخي، وهو يقفز فوق هذا الاستنساخ عبر فلسفة اللوحة الأصلية، وكأنه يدرسها من كلّ أبعادها، ويمنحها البعد الثلاثي، أو يجعلها ثلاثية الأبعاد، فما بين الواقع الذي يراه والمتخيّل الواقعي تسكن لوحاته في الروحية التي يعدها منجزا له روّاده ومقتنوه أيضا.
ولأن الفنان الانطباعي كما يصفه رسامو الموجة الطبيعية، تتبيّن مقدرته في الزوايا غير المرئية لما يمكن نقله على قماشة اللوحة، أو الحافّات الدقيقة، فإنه تميّز بحركة الخيول، سواء كانت جامحة أو هادئة، لأنها تعكس المقدرة الفنية لديه، مثلما تميّز برسم التجاعيد وحركة الوجوه بكلّ التقاسيم المدهشة التي تحملها، خاصّة لكبار السن. ولهذا فإنه يحاول في الكثير من الأحيان مغادرة الرسم المرآتي، إن جاز التعبير ليتحوّل إلى الرسم الانعكاسي الذي يمازج بين حركة الفرشاة تارة، واستخدام اللون في تغطية المساحة الكليّة للوحة تارةً ثانية، أو نهايات الخطوط المشاركة في صناعة الصورة تارة أخرى. فاللوحة لديه عالمٌ مرئيّ يريده ناطقا بالواقعية، من خلال فلسفة التلقّي الذي يريده، ليس رؤية لشيءٍ واقعي، بل لشيءٍ مبهر فني حين ينظر المتلقّي لها فيفهم مكانها وحتى زمانها، إن كانت في أمكنةٍ تاريخيةٍ كلوحات كربلاء القديمة أو أسواق الجواري أو حركة (الجاموس) في أهوار العراق أو حتى وجهٍ التقاه في أحد المقاهي أو صناعة يدوية من الصناعات التراثية والآنية، فإنها جميعها تشكّل له هماً من أجل الخروج من عنق الواقعية البحتة إلى مساحة المتخيّل الواقعي، ولهذا نجد أن عملية المزج بين التشكيل الحداثوي، والواقعية الانطباعية تغلب عليها روح النقل المرآتي، لكن بروحية التشكيل. وهو ما لا يجد فيه صعوبة لنقل الأفكار التي يراها أمامه، سواء عبر اللقاء المباشر، أو عبر المتخيّل الواقعي، الذي يراه عبر وسائط نقل عديدة. ربما تأتي هذه العملية كونه ابن بيئةٍ واقعيةٍ، فهو ابن كربلاء التي منحته الهوية الواقعية عبر المحمولات والدلالات الطقسية، وكذلك المحاولة للخروج من معادلة البيئة والفن، لذا فهو مهمومٌ بالإنسان المرتبط بالبيئة، فقد ولد في مدينة تعج بالتداخل، سواء عبر الزيارات التي تشهدها المدينة، أو عبر الطقوس التي تمارس فيها، لتشكّل لديه منطقة الدلالة العليا، لهذا كانت البيئة مصدر إلهامه، مثلما هي مصدر الخروج من المكان الواحد إلى المكان العام، من أجل صياغة لوحةٍ تكون قريبةً لكل المتلقّين، سواء كانوا متذوقّين للفن أو مشاهدين للوحة، يفهمون مغزاها، أو كما يقول هو أن لوحاته لا يريدها هروبا نحو الغموض، بل تكون طافحةً بالحضور والفهم، لأن المشاهد يريد فهم اللوحة لا التناقض معها، رغم أنه يحدّد مفهومه أن لكّل فنّانٍ طريقته، وهو لا يريد الخروج من الواقعية حتى لو ارتدى لوحة المتخيّل.
عماد جواد الذي شارك في أكثر من ثلاثين معرضا مشتركا من بينها معارض الطبيعة العراقية في مركز الفنون وجمعية التشكيليين، ومعرض إعادة افتتاح المتحف العراقي ومعرض إعادة افتتاح المركز الفرنسي، ومعارض نقابة الفنانين كربلاء، وكذلك معارض مشتركة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومعارض عديده من دعوات مؤسّسات المجتمع المدني، يهوى أن تكون رسومات محلّقة في فضاء الواقع الذي يعتمد على دقة الخط ومهارة اللون لينقل الطبيعة العراقية إلى فضاءات أوسع ويمنحها فلسفة الرسم للوصول إلى فلسفة التلقّي.