يتناول هذا المقال، شعر واحد من الأدباء الأردنيين المعاصرين ممن شاركوا في إثراء الحركة الأدبية الأردنية، وهو الشاعر أمين شنار، ولعلكم صادفتم يوما هذا الاسم في أثناء سماعكم عن مجلة الأفق وقراءتكم لشيء يتعلق بجذور الثقافة الأدبية الأردنية المعاصرة.
وقد أصاب الدكتور إبراهيم خليل شاكلة الصواب في قوله بأن غَلبتْ شهرة أمين شنار الروائي على شهرته شاعرا، فأكثر الذين تناوله من الدارسين، تناولوا رواية الكابوس”(1)، الفائزة بجائزة النهار اللبنانية بالمناصفة مع رواية تيسير سبول “أنت منذ اليوم، عام 1968، وإن سبب اختياري أمين شنار راجع لإيماني بأن في شعر الشاعر مأساة عظيمة تحملها ثنايا الكلمات.
مولده ونشأته
تقول المصادر التي كتبت عنه وعاصرته، إنه ولد في مدينة البيرة عام 1933، نشأ ودرس في مدارسها، والبيرة إحدى مدن فلسطين المحتلة، وتقع في الضفة الغربية إلى الشمال من القدس، وفي عام 1967 نزح إلى عمان، ويعد شنار كاتبا أدبيا وشاعرا، إلى جانب كونه صوفي النزعة وإسلامي التوجه، كان متحررا فكريا، متقبلا دعوات الحداثة، وأصوات التغيير والتجديد، جعل التسامح والتعايش أساسا للتعامل مع ما يحيط به قبولا ورفضا سلبا وإيجابا، ويعد من المؤسسين لمجلة الأفق الجديد عام 1961 الصادرة في القدس.
ومن الجدير بالذكر، أن الأفق أول مجلة أدبية نصف شهرية، كانت تضم معظم شعراء الحداثة في الأردن وفلسطين، وقد عرف أمين بموقفه الواعي من قضية التعصب الفكري، لذلك لا غرابة أنْ تزخر مجلة الأفق التي كان يرأس تحريرها بالكتابات اليسارية والوجودية.
علاقته بشعراء عصره
من الطبيعي أن تنشأ صلات بين أمين شنار ومعاصريه من الشعراء، وذلك نتيجة حتمية للبيئة الواحدة التي تظللهم، والميول الأدبية والفكرية، ومن الجدير بالذكر أن مجلة الأفق أتاحت المجال أمام مختلف توجهات الشعراء من متعددي الجنسيات والاتجاهات والنزعات، الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة وبيئات عربية متعددة، ومما يخطر على البال في هذا الصدد شعراء من أمثال عبد الرحيم عمر، ومحمد القيسي وعز الدين المناصرة وحسني فريز ومحمد إبراهيم أبو سنة وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم، وتبعا لذلك قد لا نجافي الحقيقة في قولنا إن مجلة الأفق ساهمت في إثراء الحركة الأدبية في ذلك الوقت.
أعماله الأدبية والفنية
هذا بالإضافة إلى ما سبق، اشترك أمين شنار في تحرير جريدة الدستور الأردنية، وكان من محبي الأدب والفن والصحافة، وزيادة على ما سبق قدم للتلفزيون الأردني مسلسلات، تحمل العناوين التالية: فندق باب العمود، وهمس القناديل، والبحث عن مفقود. وكتب شنار المسرحيات، التي يمكن إجمالها بالشيخ حماد، وظلام في عين الشمس، والليلة يطلع القمر، والســــد(2).
أمين شنار من الرعيل الأول من شعراء الضفتين، الذين أسهموا وشاركوا في إيجاد حركة شعرية وإبرازها إلى حيز الوجود، ويمثل أدب جيل الستينيات، ويعد واحدا من رواد الحركة الأدبية الأردنية شاعرا ومفكرا وإنسانا، ورائد الأدب الإسلامي في الأردن.
من الالتزام إلى الاعتزال
كان شنار زاهدا، دائب البحث والتنقيب عن إجابات لتساؤلاته، في أواخر حياته أعلن تصوفه؛ رغبة في أن تكون أقواله وأعماله خالصة لوجهه الكريم، وباع دنياه ونذر نفسه لله، حابسا إياها في سجون القلق والعزلة، لزم بيته، وأغلق الباب أمام الجميع، وعزل نفسه عن الناس، وودع الحياة بصمت، منسلا منها دون صخب أو ضجيج، الأمر الذي جعل نشر خبر وفاته يصدر متأخرا في الصحف والمجلات، وفيما عدا ذلك لم تولِ الصحف والجرائد نبأ وفاته الاهتمام اللائق بوصفه رجلا ذا شأن في عالم الأدب والفكر(3)، لينتقل إلى جوار ربه في الثامن عشر من أيلول في عمان عام 2005م.
البناء الفني: من الاتباع إلى الإبداع
أصدر أمين شنار ديوانه الأول والوحيد في البيرة عام 1957 بعنوان المشعل الخالد(4)، بحيث إن هذا الديوان ظل محافظا على شكل القصيدة التقليدية، من خلال إخضاع القصائد للسمات التراثية، من بحور ووزن وقافية والسمة الغنائية العالية، واتكاء على المناسبة، ولعل صدق هذا الأخير يبدو في قصائد لا تخلو عناوينها من دلالة تقدم نفسها للقارئ أول الطريق، على نحو ما نراه في “ليلة القدر”، و”إسراء”، و”في ذكرى الهجرة” و”رمضان”، و”صور من العيد”، و”إلى عرفات”، ومن الناحية الفنية نسوق لبيان ذلك مثالا على نهج الشاعر النهج التقليدي في بناء قصائده، من حيث الوزن والقافية:
ليلة القدر بأعماقـي رجــاء
أن يرى نورك عمْي وظماء
وبالرغم من تمسك أمين شنار بالشكل الكلاسيكي الخارجي للقصيدة العربية، غير أنه سرعان ما تحول إلى مواكبة الحداثة الشعرية، مواصلا نشر قصائده على النهج الحديث، منتقلا إلى قصيدة التفعيلة والنثر، ومتقبلا تقنيات القصيدة الحديثة، من تكسير للنموذج التقليدي، من حيث تحررها من القافية وتوظيف التناص والقناع والرمز والأساطير، إلى ما سوى ذلك من تقنيات القصيدة الحديثة، الأمر الذي دفع بعض الباحثين إلى عده واحدا من الشعراء الأردنيين المجددين، وقد أثار أمين شنار قضية نقدية مهمة في مقدمة ديوانه المشعل الخالد، السالف الذكر.
لفت شنار إلى أنه يرفض مقولة النقل الحرفي عن الواقع، كما أنه يلتقي مع الرومانسيين، كون الشعر بوح يعبر عن مكنونات النفس، وهذا تماما ما ذهب إليه إبراهيم خليل(5)، ولا يفتأ أمين شنار يكرر الوحدة والاغتراب والحنين في قصائده كغيره من الشعراء الرومانسيين، الذين جعلوا هذه المواضيع مادة للتعبير.
ويلمس القارئ لشعره الذي جمعه إبراهيم خليل من صفحات الأفق، نفسا وجوديا ونزعة تأملية ذات رؤية سوداوية، فقد نظم أشعارا عن الوجود والموت والعدم والفناء والحب، ودارت قصائده حول مضمون الوحدة والقلق والألم والمعاناة والضياع والحزن والاغتراب، وحري بنا في هذا المجال أن نورد بعض مختارات من شعر أمين شنار، ولنكتف بإيراد شيء مما يدلل على مضامين شعره:
وعشنا غريبين عن حبنا
كأن لم يكن غير طيف
دعانا، وغابْ
كنسمة صيف
طواها سرابْ”
أليس في هذا النــص إشارة صريحة إلى مدى ما كان يعانيه أمين شنار من اغتراب؟ وإلا فكيف يستطيع شاعر مثله التصوف واعتزال الناس إن كان لا يعاني من الوحدة والاغتراب؟
الملاحظ على مجمل قصائد الشاعر، أنها تتخذ المأساة محورا أساسيا تدور معه وعليه في التعامل الشعري، فاسمعه يقول:
“مسكينة تود أن تعاش
جائعة لم يحيها إنسانْ
تموت عذراء؛
لتحيا لعنة على محاجر الزمانْ
إن المأساة والمعاناة والحزن في شعر شنار بادية للعيان ولا تحتاج إلى كبير عناء لاستظهارها، وهذا تماما ما يفصح عنه عنوان القصائد كل على حدة أو مجتمعة، من مثل: قصيدة السأم، معبد الألم، مدينة بلا ضباب، هاتف الرحيل، مرثية للألم، السراب، وهذه العناوين قدمناها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، يقول:
وماتت فراشة حقل كئيبة
وظل الغريب ينادي الغريبة
ومن خلال ما تقدم، لاحظنا ولمسنا الأثر العميق الذي تركته بصمات الحزن التي عاشها الشاعر، مما يؤكد أن أمين شنار جعل الاغتراب محورا أساسيا لقصائده وأشعاره، فضلا عن الرؤية السوداوية التي كانت هي الطابع العام الذي تميزت به أشعاره:
أنا أعيش لحظة اختناق
ثقيلة مسلولة كريهة المذاق
وإذا كان الشاعر مجيدا حقا، فإن شعره ترجمة باطنية لنفسه، ومرآة صادقة لعواطفه، ومظهر لشخصيته الحزينة، بحيث نقرأ نصوصا شعرية مختلفة لنشعر فيها بروح واحد، ونفس واحد، لذلك يحاول الشاعر في معظم نصوصه الشعرية نقل تجربة الحزن والاغتراب إلى المتلقي، معتمدا على اللغة والعاطفة، حيث يقول:
حدق، فأنت زائغ العينين،
أيها الغريب في مدينة الضباب”
ومن المآخذ على شعر أمين بالرغم مما فيه من الوحدة الموضوعية التي تمتاز بمسحة من التشاؤم، وما يتصل به من اغتراب وحزن ذاتي، إلا أنه قد يلاحظ في بعض المواضع أنه يستخدم أسلوبا من الشائع المألوف الركيك في لغة السرد، والتراكيب لا تخرج عن الأنماط البسيطة في تكوين الجملة، كما هو الحال في قوله:
حبك يا حبيبتي يقرع أبوابي
يا للصدأ النائي يمرغ الفجر بأهدابي
ما زال طفلا يعشق المطر
يذوب فيه كلما انهمر”
من الاغتراب إلى الاقتراب
إن الاستنتاج الذي لا مندوحة لنا من توكيده هنا، هو أن القارئ لو حاول أن يغور في أعماق أمين شنار الشعرية متلبسا حالته النفسية لخرج بالسبب الذي جعل أمين يعتزل الناس، وهو ناتج عن شعوره بالاستلاب والخوف والاغتراب والحزن والوحدة، ولأنه البديل لواقع لا يحقق عالمه المنشود الذي يسمو فيه الصدق على الكذب، الحب على الكره، الفضيلة على الرذيلة. والاعتزال ليس موحشا كما يظن؛ لأن الحياة في ظل الواقع أوحش منه، ولذلك لجأ أمين شنار في البحث عن البديل يعوض فيه ما افتقده في الواقع من التواصل الحميم.
_________________________________________________________
الهوامش:
(1) إبراهيم خليل: أمين شنار، الشاعر والأفق، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ط1 ـ 1997م، عمان، ص 16.
(2) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، ط1 ـ 2014، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، ص 37.
(3) انظر، عمر عبد الرحمن الساريسي: قراءات نقدية، 2014، مركز الكتاب الأكاديمي، ص 286.
(4) أمين شنار: المشعل الخالد، رام الله، ط1، 1957.
(5) انظر، إبراهيم خليل: شعراء تحت المجهر، ط1 ـ 2006، دار ورد، ص 11.
تعليق واحد
رحم الله الشاعر أمين شنار، كان أخا وصديقا حيث عملنا معا في مؤسسة تعليمية في الأردن، وحين كنت أقرأ المقال، وجدته بدقة متناهية بين سطور المقالة.. كان من أوائل من كتبوا قصيدة التفعلية في الأردن، وربما أولهم..
محمود النجار