أولاً – الرواية وثيمة البحث التأسيسي
تعتمد رواية مايكيلا للكاتب بن اعمارة سليم، بناءً روائياً كلاسيكياً، من حيث قيامها على: ذلك النمط من الشخصيات المنحطة والمتدهورة والارتكاسية في بحثها عن غابتها الميؤوس منها من الأساس، وهذا النموذج في الروية الكلاسيكية، يتميز حسب لوسيان غولدمان (صاحب نظرية رؤية العالم) بـ: “شخصية إشكالية، خائبة في بحثها غير الأصيل عن قيم أصيلة في عالم من الامتثالية والاتفاق [L. Goldmann :Pour une sociologie du roman, p30-31]، ويبدو توصيف غولدمان للشخصية المنحطة في بحثها، استئنافاً لرؤية أستاذه جورج لوكاتش من قبل، حين عاين الرواية “وإنسانها المتدهور في بحثه عن قيم أصيلة لا يعترف بها عالم المادة الذي ألقي فيه” [Georges Lukãcs – l’ame et les formes, édition Gallimard, 1974. P.13]. ويعتمد كلاهما على نماذج سردية تأسيسية لهذا النمط الشخوصي، على شاكلة: الدونكيشوت لسيرفانتس، ومادام بوفاري لغوستاف فلوبير، وجوليان سوريل بطل رواية الأحمر والأسود لستاندال، وراسكولينكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي. وهي نماذج أسست لجيل من الأبطال الروائيين المنحطين والضائعين في البحث عن غاياتهم النبيلة والمستحيلة في آن معاً.
وهذا الانحطاط والتلاشي في حالة الشخصية، والبحث الشقي عن المفقودات النفيسة المستحيلة، هو ما يلف رحلة بطل الرواية، “ذياب”، ولعل أول المفقودات التي يسعى هذا البطل لإنصافها، في روايته التي تعتبر مرثية أو رد اعتبار مضى، أو اعتذار متأخر، هي شخصية مايكيلا (شخصية حقيقية، وهي سائحة ألمانية، كانت ضحية تيه في رحلة سياحية للصحراء الجزائرية، في سن 45 عاماً، أم لابنتين، توفيت في ظروف غامضة بعد اختطافها رفقة 15 سائحاً من طرف مجموعة إرهابية، ورجت المعلومات أنها أن سبب وفاتها ضربة شمس)، وتعتبر هي المروي له الرئيسي في الرواية، التي يخاطبها البطل (وهي غائبة) في كل فصل عشرات المرات، وهو يسرد قصته قبل اللقاء بها، وأثناء اللقاء بها وبعد فقدانها. بل إن هذا القدان الحزين لسائحة ألمانية حرة جاءت لتعانق حرية الصحراء فقتلتها معشوقتها عطشاً وتيهاً في بساط رمال الموت والظمأ. هو ما طبع خطابات السرد والوصف والتقرير في الرواية، بلمحة صوفية، متسامية، لا يصل فيها العاشق (ذياب ومايكيلا) لمعشوقه (الصحراء) ولا يتحدان إلا بالموت حيث تغرق الذات في لحظات الحلول والتسامي، والوجد، وهي لحظات لا تتحقق إلا بشقاء الجسد وفنائه. لذا لم يتعلق البطل، بالصحراء إلا بعد ابتلاعها لأحلامه، ولم يسرد لنا قصة مايكيلا بضمير المتكلم بتقنية الحوار الباطني، إلا بعد فقدانها بصورة مأساوية، وهي المرأة العاشقة الولهانة للصحراء التي هانت في عيونها مخاطرها، وقادها ولهها إلى الفناء في معشوقتها التي تركت من أجلها بلدها الأوربي (ألمانيا)، وجاءت لتعايش الجفاف والظمأ والضياع، وسط كرم روح الإنسان، وتحايلها على الموت كل يوم. ولعل هذه الدهشة في الثراء الروحي لهذا الفضاء الصحراوي الذي لا نهاية له، هو سبب ترك مايكيلا للمدن الأوربية وحضارتها، التي تشبعت بها.. وهجرتها، واستبدلتها استبدال المادة بالروح. ليتم اختطافهاً رفة 15 سائحاً تقطعت بهم السبل، وتداولت عليهم أيدي عصابات الاختطاف المتناحرة، في فترة الإرهاب، واختلفت مصائرهم، وكان من حظ الفقيدة مايكيلاً أن كتبت في حقها هذه الرواية، تمجيداً لروحها ووفاءً لمن فقدوها، واعتذاراً رمزياً عن هذا الفقد الأليم، لعاشقة من عاشقات الصحراء الجزائرية، وتخييلاً لرفيقها في رحلة الاختطاف (ذياب) الذي لم يستطع إنقاذها من الهلاك، حين فاضت روحها بين ذراعيه. ودفنها في مكان لا تعرفه سوى شمس الصحراء، لتصبح صحراء الجزائر بأسرها، قبراً أبديا لها.
شعرية التلاشي. ومظاهره.
ثانياً- من هرمية التشكيل العنواني إلى هرمية التدليل على التلاشي
في التركيبة الشكلية لعناصر العنوان على غلاف الرواية.
نقرأ في أعلى الصفحة كلمة “مايكيلا” بخط مبالغ في ضخامته، وتحته عنواناً فرعياً بخط أصغر: (نصف قبر وربع ذاكرة). يوحي التصميم الشكلي للعنوان بمدلول هرمي، يبدأ من دلالة الاكتمال في ضخامة اسم مايكيلا، ثم تتلوه صفتا.. نصف، وربع، تخص الصفة الأولى القبر (قبر مايكيلا)، والصفة الثانية ذاكرة البطل والعالم التي نسيت هذه المأساة.
حيث ينحدر توصيف العالم القيمي في الرواية، بشكل قهقري من الاكتمال الذي يخص روح مايكيلاً، إلى التشوه المكاني الذي يطال قبرها، ثم يستمر الانحدار والتلاشي إلى تشوه ثاني أعمق غوراً وهو التشوه الزمني المضاعف الذي يطال ذاكرتنا القصيرة، إزاء ما وقع من مآسي ذلك الزمن والمكان. وهذا التركيب الشكلي، ينذر بتركيب دلالي يشطر العنوان إلى شطرين متناقضين وصداميين، يعلنان الصراع من أول إطلالة عليه، وهو التركيب الجدلي أو التقابلي الذي يمكن التعبير عن في الشكل الآتي:
– الاكتمال الروحي والجمالي = مايكيلا
في مقابل:
– التشوه المكاني (إجحاف المكان)= نصف قبر
– التشوه الزمني المضاعف (إجحاف الذاكرة) = ربع ذاكرة.
وهو ما يضعنا أمام هرم مقلوب (انظر الصورة المرفقة)
***
وهذا التشكيل والتدليل الهرمي يضعنا أمام مواجهة درامية، بين صرخة روح معذبة يوحي اكتمالها الروحي باكتمال جريمة لم ينصفها المكان والزمان، لذا فهي تواجههما، لتنتقل بنا من العنوان إلى المحتوى، ومن السطح المادي في المعالم المكانية إلى العمق الروحي والنفسي في تضاعيف الذاكرة الفردية للبطل والكاتب، التي تعاتب الذاكرة الجماعية للتاريخ والإنسان. وتضع الطبقات الدلالية الثلاث، لمراحل العنوان الثلاث في مواجهة جدلية أبدية. تتسامى بتخليد الذاكرة بمآسيها وجراحها التي لا تندمل، وإن كانت على رمال صحراء جافة، لكن رمالها تأبى ابتلاع دماء الإنسان. وفاْ لهذا العهد الأزلي للخطيئة الأولى. [يقال إن الأرض عاهدت الإنسان ألا تشرب دماءه، منذ الجريمة الأولى على سطح الأرض (مقتل هابيل على يد أخيه هابيل)].
وإن أزحنا هذه الأوصاف الارتكاسية المتناقصة (نصف+ربع) جانباً، يتبدى العنوان الأصلي للرواية خالصاً وامتثالياً: (مايكيلا ذاكرة قبر). غير أن أحداث الرواية وطبيعة المسار المأساوي، تشرخ هذا الاكتمال، وتشوه هذا الامتثال، وتفككه بهاتين الصفتين الهادمتين، اللتين حولتا الدلالة من الامتثالية إلى التلاشي والتفكك الذاتي. وهو ما يعبر عنه شكل الهرم المقلوب الذي يشي به تصميم الغلاف وتوزيع كلمات العنوان عليه.
ثالثاً- بنية الانحطاط في تكوينية البطل وضياع الرحلة.
بداية تقدم الرواية فريقها من الشخصيات التي تحوم حول فلك البطل الضائع (ذياب)، وعلى رأسها ملهمته السائحة الألمانية [مايكيا سبيستر] القادمة مع فريق سياحي إلى الجزائر. والتي تطل برأسها في كل فاصل سردي باعتبارها المروي له الضمني لأحداث الرواية.
والرحالة بوبكر الرابحي (مترجم السياح)- وأمومن الصياد (الدليل السياحي) – الماتر (أو المعلم، وهو أحد بارونات المخدرات وزعيم عصابة الاختطاف في الصحراء والذي اشتغل لديه بطل الرواية) – الروكور (الفتى العشريني عامل المرآب لدى الماتر) – الزواوي الأعرج (مساعد الماتر وذراعه الأيمن) – صاحب العمامة السوداء، (زعيم الجماعة الإرهابية التي تتاجر مع الماتر والتي قضت عليه واختطفت السياح الألمان). الأحدب الملثم أحد أعضاء الجماعة الإرهابية والمكلف بحراسة فريق السياح المختطف.
إضافة إلى شخصيات ثانوية عدة أوصلت البطل إلى محطات متقدمة في بحثه عن ذاته وعن معنى لحياته الذي وحده في مرافقته للسائحة الألمانية وهم على التوالي: مسعود لمبيسي (صاحب حانوت المواد الغذائية الذي أطلق عليه لقب الـ: ام بي سي، نظراً لولعه بقناة mbc) –الجرادي (جار البطل في قرية تندلة بصحراء تقرت)، التومي بن مستور (صديق البطل في قرية تندلة)، ألبرت، (سائح ألماني وصديق مايكيلا في رحلة السياحة والاختطاف).
لكن ما يهمنا في هذا الفريق المتناسق في الوظيفة والبناء، هو البطل (ذياب) وطريقة بنائه خارجياً وداخلياً في الرواية. وأول مظهر انحطاطي يقابلنا به هو اسمه، الذي يبدأ في التلاشي بعد الاكتمال.
حيث يقابلنا البطل باسم أسطوري (ذياب)، وهو اسم معروف في السير الشعبية المغاربية، والجزائرية خصوصاً، باعتباره اسم بطل السيرة الهلالية (سيرة بني هلال)، وبطلها ذياب الهلالي. ذلك الذكي الحصيف الفارس الصعلوك الشطاري الذي لا يشق له غبار، والذي أعجز القبض عليه جميع سلاطين زمانه، وهامت بحبه كل عذراوات مقامه، إنه صورة مغاربية لعلي بابا، وروبنهود، وزورو، وأماديس ديغولا.
ينطلق بنا البطل الحالم لاسم ذياب تشبها ببطل المآثر والأساطير الشعبية، لكنه يرتكس في أول خطوة له في رحلة البحث عن ذاته، فنراه، وهو صاحب ال35 سنة، يتيم الوالدين، بدأ مسيرة عمله كسائق حافلة في براري ولاية وادي سوف، ثم اشتغل بتوظيب التمور في واحات بلدة تندلة، هناك حمل البطل كنية ثانية إلى اسمه فصاروا ينادونه بالذياب الدرويش (نظراً لأسماله المهترئة والممزقة التي كان يرتديها)، فظنه الناس درويشاً هائماً في أرض الله.
ثم انتقل للاشتغال بمرآب لبيع الخردة التابع لعصابة الماتر، التي نقلته ليشتغل بقاعدة بترولية في الصحراء، (كعامل مطعم مهمته نقل معلومات القاعدة للمجموعات الإرهابية كي يفجرونها، وذلك ما حصل)، بعد تفجير القاعدة البترولية انضم البطل إلى عصابة [الماتر] التي تمتهن تجارة المخدرات والبشر، دون أن يعلم بذلك إلا بعد أن تورط في توصيل واستلام البضاعة التي كان يجهل محتواها.
وهناك تحول اسمه من ذياب إلى الذيب، وهو ثاني انحطاط اسمي له.
ثم تحول اسمه على لسان الماتر إلى (ذويب)، وهو انحطاط اسمي ثالث. أكثر غوراً في مستنقع البؤس الذي يغرق في حمأته تدريجياً، لنلاحظ أن رحلة تردي البطل من تسمية أرقى إلى تسمية أدنى، كان موازياً لارتقائه في سلم المهن من راتب أدنى إلى راتب أرقى، ورغم تناقض المسارين إلا أن كلاهما يعكس شكلاً مختلفاً من أشكال الانحطاط والتردي التي وسمت البطل، أي إن كلا المسارين هو انحطاط فقط أحدهما نازل (الانحطاط الاسمي)، والثاني صاعد (الانحطاط في تسلق سلم الوظائف المشبوهة). لنقف على النموذج التالي:
الانحطاط الاسمي النازل –/– الانحطاط الوظيفي الصاعد
**** – ذياب ——————- **** – سائق الحافلة
***- ذياب الدرويش ——— ***- عامل التمور
** – الذيب ——————— **- عامل مرآب الخردة
* – ذويب ——————– *- عامل مع جماعات تهريب الممنوعات والبشر
***
ولهذين النمطين من الانحطاط الدور الأبرز في رسم المنحنى البياني لغرق سفينة الكنوز الأخلاقية والمباديء المتسامية في بالوعة صحراء الضياع التي حكت الرواية أنها ابتلعت أحلام فريق السياح الحالم بالجمال (جمال روح مايكيلا)، قبل أن يسقطوا بيني يدي الجماعات الإرهابية المتناحرة في الصحراء، وتضيع قبورهم هناك، بعد الهلاك، ليتم تسجيلهم في قائمة ضحايا ضربات الشمس.
رابعاً- انحطاط البطل الروائي من المنظور الذاتي:
بما أن الرواية كلها تروى من الداخل (مناجاة ذاتية تخاطب شخصة مايكيلا الغائبة بضمير المتكلم)، فإن العالم الروائي بأسره مقدم من منظور ذاتي، للعين الساردة، وما يهمنا في هذا العالم هو وصف البطل لذاته وهو يقدمها لمخاطبته الضمنية في الرواية مايكيلا، والملاحظ في التوصيفات الذاتي للبطل أنها تصب جميعاُ في حوض الانحطاط والتلاشي واليبابية مثل العالم الذي يحيط به، لتتوازى الذات الواصفة مع معادلها الموضوعي الموصوف. وفي ما يلي نضع لكل صفة مقولتها النصية بلسان البطل واصفاً ذاته، ومقدما قيمته:
– انعدام القيمة في عيون الغير/ [نا أدرك أنه لا أحد يهتم لأمري الآن، ولا يمكنه حتى ليكترث لردات فعلي] (ص16).
– مقت الذات/ شخصيته الثانية (الذيب) تمقت شخصيته الأولى (ذياب): [أنا أمقت ذياب لقد علمني الخذلان والفشل كلما أمتحن في عمل تسقطني تفاهته وخوفه] (ص17)
– [وأنا أرتدي غير حقيقتي، أتجرد منها لألبس حلة إنسان آخر، حلة الذيب الجديدة، الذي أمقته في طريقه تحديقه، أمقته في حركاته، أمقت مكره وخداعه، لعلي لم أكن بهذا النفاق، فكلما ابتعدت عن طبيعتي كلما تجاهلتني ذاتي.] (ص64).
– ارتداء القناع المزيف والتنكر للوجه الحقيقي: [أحيانا أسأل نفسي ما الجدوى من نكران حقيقتي، وكيف أتلذذ بذاتي الجديدة المزيفة والمحطمة (…) وأنا أعلم أنه بداخلي دائماً صوت يتأجج.. عد إلى حقيقتك، وابتعد عن زيف واقعك] (ص17).
– الضعف والعبودية والاستلاب/ [حاولت الانتحار لكنني أفشل كل مرة، لعلي لم أكسب تلك القوة التي تجعل مني حراً حتى في قراراتي الأخيرة. أحياناً يكون الفشل ذريعة لسلب الثقة. أتظنين أنني أمتلك القوة لأنتحر؟] (ص19).
– تقزز المظهر وسط تعفن العالم/ [ربما ستكون رائحتي أشد نتانة، ولباسي أكثر رثاثة وسط الخردة حيث أعمل] (ص21).
– الوجود العبثي واللامبالاة: [هذا هو ذياب يا مايكيلا… كان أشبه بقماش رث تحركه الريح حيث تشاء، لا يملك خلاصاُ لنفسه ولا يهمه بأي اجاه سيمضي] (ص27)
[كنت لا أعد الأيام، فأنا أصحو لا تهمني الساعات… لا تهمني خوضات ذلك المكان] (ص56).
– الفصامية [يا وحد الذيب… أظن أنك تخفي وراء حقيقتك إنساناً آخر، تقتله وأنت تكتم أنفاسه، ما الذي تخفيه يا ذياب أيضاً] (ص44).
– الإكراه والاستسلام: [أنا أملك قلباً يا مايكيلا. أنا أعلم أن الطريق الذي سلكته خاطئ، وأنني سأحمل آثاماً كي أستبيح دماء هؤلاء الأبرياء، لكنني كنت تحت تهديدهم ووعيدهم] (70)
– الندم وتأنيب الضمير بعد الضياع: [غيرتك الأيام يا ذياب، أصبحت هذا الإنسان الذي يخون؟ ما الذي ورطت فيه نفسك؟ كنت وحيداً في كوخك، لا ينغص حريتك لعين. اليوم ينتظرك مصير لا يمكن التحكم فيه، وكل خطواتك هي باردة ليست منك] (ص70).
[وأنا ألتحف القلق، وأتوشح إطراق الشجر والحجر، أشق تلك الأراضي القفار، كان صوت قد هزني من داخلي، أين تأخذك أقدامك يا ذياب] (ص72)
– التيه: [كم هو منفر هذا الفراغ الذي أتوه فيه وأنا أرتدي غير حقيقتي، أتجرد منها لألبس حلة إنسان آخر](ص64)
[كنت أكثر شحوباً وأشعر بالإعياء… وفي قرارة نفسي صدحُ أسئلة تتشابك؛ كيف سأتصل بهم؟ ما مصيري وسط هذه الجماعة؟ وما الذي يخفيه القدر لي وأنا كل يوم أتشبث بخطواتهم] (ص: 68).
تتدفق هذه الزخات الشعورية، التي تعطي صورة مرضية للبطل وتكرس التردي والانحطاط الذي بلغه في النظر إلى ذاته، في مجرى تيار الوعي المضطرب، الذي يتخذ صورة البوح المرضي المتقهقر من حالة تلاشٍ إلى أخرى. لتكتمل الصورتان الخارجية والداخلية في تأثيث البطل المنحط والمستلب. والمتساوي مع عالمه الذي جعله فصامياً مفكك الوجود والشخصية، لكن دون أن يكون هناك أي وفاق خارجي أو سلام داخلي مع هذا العالم الذي يتساوى معه في الانحطاط.
– ملاحظات
– تصب أنساق التيه والضياع وما يصاقبها من معاني الافتقاد والتلاشي في صلب سمات الفضاء الصحراوي وحقوله الدلالي، لكنها تخضع بالموازاة مع ذلك، إلى مبالغة مأساوية نابعة من أسلوب الكاتب، حيث اتخذت مساراً انحدارياً نحو أغوار النفس، عبر قنوات تيار الوعي الذي جعل منه الكاتب الخطاب الأوحد في سرد ووصف تفاصيل الأحداث والمشاهد واللوحات السردية. فقد كان خطابها الموجه من البداية إلى النهاية إلى مروي له ضمني هو شخصية مايكيلاً، ولما كانت هذه الشخصية غائبة (متوفية). أضحى الخطاب كله عبارة عن مونولوغ ومناجاة ذاتية، خالية من الحوار والحوارية وتعدد أساليب السرد.
– تحفل الرواية بلغة الإدراك الحسي بكل أطيافها اللمسية والشمية والذوقية والسمعية والبصرية مما يجعل قابليتها للمعالجة السمعية البصرية أو التمثيلية أقرب إلى التجسيد وأيسر للتنفيذ. وهو الثراء التلويني الذي سمح فيه الكاتب بتداخل الفنون والأجناس، عبر فصول روائية غلبت فيها المشاهد الحركية والإحساسية على اللوحات الوصفية الثابتة.
– من حيث التجنيس العام لا شك أن الرواية من أدل الصحراء بلا منازع، لكن ما يجعلها أضافة لهذا النوع تحديداً هو امتداد ألوانها السردية إلى البوليسي من حيث كونها رواية الاختطافات المتعددة للبطل وفريقه من السياح. ومن جهة ثانية هي رواية ذاكرة تكريمية لضحايا الجزائر من سياحها. وهذا اللون تحديداً (أعادة الاعتبار روائياً لضحايا السياحة الصحراوية في الجزائر)، يعتبر من أندر الألوان السردية التي تعد إضافة توشيحية نوعية للنمط الصحراوي من الروايات.
– ما يعزز رسوخ الرواية في النمط الصحراوي، هو الحضور التراكمي الهائل للأنساق الثقافية الصحراوية، من: [أغاني (أغنية مناعي= غرودة عالية/ أغنية عثمان بالي “أساروف وين مديون “الأغاني التاريقة الشعبية= أورارا)، وفنون الرقص الشعبي الموسمي/ رقصة الرمال “شروا”، رقصة احتفال السبايبة بجانت، وأناشيد اليون أو المزمار، ولالاة القنفاء، وآلة الإمزاد.). ومن المائدة الصحراوية: طعام نبتة البندراق، الشخشوشخة، الشاي، المايناما، اللاقمي، وأنواع التمور ( دقلة نور، طنطبوشت، البلح، بوعروى، تجمهورت، تقزوين).
ومن أسماء النجوم: [تركاوت/ الغوت/ منا ترغرغ/ أرغادت/ ماسكسك/ راق ويلي/ أمادار]،
ومن الوظائف: السياقة، الدليل الصحراوي، المترجم، بيع الماء بالصهاريج، بيع الخردة، تجارة الممنوعات التهريب، والاتجار بالبشر. ومن الألعاب الصحراوية (الخربقة)، وغيرها من الأنساق التي تملأ الأركان الثقافية في الخزانة المعرفية للرواية. باعتباره رواية صحراء مكتملة الأركان.
– تنسب الرواية أحداثها إلى أماكنها، وتقيم وضائف شخصياتها على أساس علاقاتها بالمكان، وأشهر الأماكن التي زرع فيها الروائي أحداثه، وتتبع السرد فيها مسار شخصياته، هي/ قرية تندلة بتقرت، جامعة، الطيبات، وادي سوف، تمنراست. ولكل مكان قصته وشخصيته التي تؤطر لون كل رحلة من رحلات البطل عبر فصول الرواية.
أما الزمن في الرواية فكان استرجاعاً خالصاً، يبدأ من تاريخ 2003، ويتقدم على مد ستة سنوات من زمن السرد. الذي ينتهي بلحظة موت مايكيلاً ودفنها في مجاهل الصحراء، وتفرق مجموعة السياح المختطفين من طرف المجموعات الإرهابية المتناحرة. بما فيهم البطل. الذي لم يكن ينشد وطناً غير الأمان المفقود كخيط دخان.
– ما يشكل فنياً في هذه الرواية هي غياب العقدة، أو لنقل بأنها ذات تصعيد درامي متنامي، حيث تسير الأحداث وتستشكل ببطء دون السماح بوجود عقدة رئيسية تتطلب حلاً درامياً من صلب الحدث. وبالغياب الفني للعقدة يغيب الحل معها، وتكتفي الرواية بالتصعيد الدرامي للحدث حتى نهايتها التي تشي بها بدايتها. وتذكرنا بها فصولها في كل مقطع.