تمثل تجربة الناقدة الكويتية الدكتورة سعاد العنزي علامة فارقة في ميدان النقد الأدبي والثقافي، على مستوى الكتابات النسائية في الخليج والوطن العربي. فرغم وجود عدد كبير من الباحثات والكاتبات، إلا أننا قلما نجد تجربة نقدية نسائية تقدم مشروعا حقيقيا وعميقا، بملامح واضحة.
المتتبع لتجربة الدكتورة سعاد العنزي تتجلى لديه بوضوح ملامح هذه التجربة الذاهبة في خطها التصاعدي، والمتمددة في مضامينها وآفاقها، لتتجاوز كونها مجرد كاتبة ترصد ظواهر النصوص الإبداعية أو تتبع القضايا الفنية في كتب الأدب كالرواية والشعر والقصة وغيرها، إلى الذهاب عميقا نحو استجلاء القضايا وإثارة الأسئلة الأكثر حساسية، لتفجر النصوص، عبر قراءتها النقدية، إلى أسئلة جوهرية تمس الإنسان في وجوده وذاته وثقافته وتفكيره وأنساقه الاجتماعية والأخلاقية.
لقد قدمت الدكتورة سعاد العنزي اشتغالات ومقاربات نقدية نوعية، ولامست العديد من القضايا بعمق وحيادية، سواء عبر كتبها أو دراساتها ومقالاتها وحواراتها التي تنشر في مختلف المنابر الثقافية والصحف والمجلات. لقد كتبت العنزي عن (صور العنف السياسي في الرواية الجزائرية المعاصرة) و(الهوية العربية بين التخييل والواقع) و(رواية المرأة الكويتية في الألفية الثالثة) و(نساء في غرفة فرجينيا وولف)، وهو إصدارها الأخير الذي حظي بتقدير لافت في الأوساط الثقافية.
من السمات البارزة في مشروع الناقدة سعاد العنزي تبنيها لقضايا المرأة وهمومها، سواء في عالم الكتابة والتنظير والإبداع، أو في الواقع الاجتماعي المعاش، وهذا ما ركزت عليه في كتابيها (رواية المرأة الكويتية في الألفية الثالثة) و(نساء في غرفة فرجينيا وولف). وسوف نسلط الضوء في هذه المقالة على هذا الملمح في كتابات سعاد العنزي من خلال إصداريها المذكورين.
في حوار سابق أجريته معها لمجلة (التكوين) قالت في ردها على سؤال حول المرأة الناقدة: “أرى أنه على الناقدة المرأة أن تحترم دورها التاريخي وتقوم بمسؤوليتها في الكتابة والمتابعة، ولتعلم جيدا أننا في مرحلة تاريخية معينة ليس لدينا ترف الاختيار أو التفضل على النصوص بالكتابة عنها، بل عليها المضي في قراءة إشكالياتها الثقافية بكل جرأة وموضوعية متزودة بسلاح المعرفة والمفاهيم التي تعينها في طرح جدليات حياتنا المعاصرة، وتبتعد عن اتباع لغة وأسلوب الغالب، كما تتجنب استهلاك الرؤى الذكورية في مناقشاتها المتعددة. باختصار المطلوب شجاعة وعمق ورؤية نقدية ثاقبة”. ولعل هذه الإجابة تمثل العتبة المفتاحية للدخول إلى جوهر الموضوع.
في غرفة فرجينيا وولف
في كتابها (نساء في غرفة فرجينيا وولف) ترى الكاتبة أن كثيرا من الكاتبات النساء يبتعدن عن قضايا المرأة لاعتبارات كثيرة، إذ ترى بعض الكاتبات أن لديهن قضايا إبداعية أخرى تختلف عن الطرح النسوي وأنهن لسن مضطرات لتبني موضوع المرأة ومن حقهن التعبير عن رؤيتهن للحياة من دون الارتباط برؤية فكرية محددة. وثمة نوع من الكاتبات اللاتي يتخوفن من التطرق لقضايا تهميش المرأة لئلا تنسب هذه القصص لهن وتلصق بحياتهن الخاصة أو أن يخسرن مواقعَ معينة حصلن عليها بمباركة السلطة الذكورية.
لذلك سعت الدكتورة سعاد العنزي عبر هذه الدراسة إلى قراءة جهود ناقدتين تم تجاهل جهودهن النقدية لأسباب مختلفة ومتعددة منها ما يتعلق بذكورية الثقافة العربية، وآخر يتعلق بالاهتمامات النقدية للدارسين والمشتغلين في الدراسات الأدبية والنقدية. وتقدم الناقدة دراسة مقارنة بين فرجينيا وولف ومي زيادة على مستوى الحياة الشخصية والجهود النقدية النسوية المبكرة إذ تلتقي مي زيادة بفرجينيا وولف في أكثر من جانب، لعل أهم هذه الجوانب هي معاناتهما الإنسانية، ورؤاهما النقدية النسوية المبكرة التي لم تجمع في سياق نقدي واحد.
ووفقا للباحثة فإن هذه الدراسة تسعى للتأكيد على أن الحاجة للدراسة النسوية في الوطن العربي أمر ضروري لأكثر من سبب، السبب الأول: إن وضعية المرأة العربية لا تزال وضعية دونية، وإن شرعت القوانين لخدمة قضايا المرأة، إلا أنه لا زال البون شاسعا بين التنظير والتطبيق، وليست غالبية النساء في الوطن العربي قادرة على أخذ حقوقها كاملة. وهذا الأمر يكثر في مناطق تغص بمظاهر الحياة البطريركية ويقل في أماكن أكثر انفتاحا وتحررا. السبب الثاني: إن أدب المرأة لا زال أدبا ناشئا في كثير من البلدان في الوطن العربي ولا سيما في الخليج العربي مما يعني أن هذا الأدب يحتاج لمراجعة ومناقشة بناءة من حيث اللغة والأسلوب وقدرة المرأة على تمثيل موضوعاتها بحرية من دون خوف من سلطة المؤسسات الثقافية والاجتماعية التي قد تعرقل الأدب الجاد في معالجة القضايا الإنسانية.
وتذهب المؤلفة إلى أن حكايات النساء اليوم مهمة لأنها تقول أشياء لم تقل في الماضي، فهي تستدعي ذكريات تفاصيل ليل المرأة الطويل، وتنسج تفاصيل نشيج أبدي صامت، قمعته الظروف والعادات والتقاليد. وتستحضر صورة نساء لم يكن مرئيات في يوم من الأيام، إلا كصور بهية في دواوين الشعر، وجلسات ندماء السلاطين والخلفاء، أما صورتها في الواقع تبقى صورة تنبئ عن بؤس اجتماعي ظاهر أو خفي. ولأن هناك إمكانية قول أشياء جديدة ترويها المرأة بعد أن تتمكن من لغتها وتثق بموقعها الأصيل في الثقافة الإنسانية، وتضيف شيئا أصيلا للثقافة الإنسانية اليوم، باختلاف الثقافات والمجتمعات الإنسانية بكل ما تحمله من غنى وثراء.
وتؤكد الدكتورة سعاد العنزي أن معركة النساء اليوم أن يكون لهن صوتهن الخاص، والدفاع عن حقهن في التعبير، وعلى المرأة أن تستعيد حكاياتها بصوتها وبلغتها تحرر كل الذكريات المسروقة والمستلبة والضائعة عبر فضاءات التبعثر في التاريخ. كل هذا يمكن أن يعيد للكون توازنه، ويسمح للتاريخ بأن يسير على قدميه، ويعدل من صورة الفلسفة التي مارست عنفها المفاهيمي ضد المرأة والملونين وهوامش الثقافات الرئيسية، ويعيد للأدب بريقه الخاص وإنسانيته الحقيقية بتمثيله قضايا الأفراد واحتوائه الجنس واللون والبشرة والطبقة.
رواية المرأة الكويتية
وفي كتابها (رواية المرأة الكويتية في الألفية الثالثة) سلطت الكاتبة الضوء على القضية ذاتها، المتمثلة في إشكالية المرأة والرجل، وفقا لما أوضحته في مقدمتها، وإبداع منسوب لما تصوغه الأنثى وفق خطوات متسارعة، تتزاحم وتتراكم، وتبحث عن نقطة ضوء، ومصباح ناقد، وناقدة يضيء لها المسير، يدفعنا للتساؤل.
وتطرح سعاد العنزي في هذه الدراسة العديد من الأسئلة في هذا الشأن قائلة: مالنا نعيش وفق هذه الثنائيات في النقد؟ وما لنا نفرد للمرأة وإبداعها، مباحث خاصة؟ هل هي مخلوق جديد طرأ على خارطة الإنسانية، فبدأنا نشرحه تحت المجهر؟ أم إنه كائن بشري أعاد تشكيل وعيه وإدراكه لذاته وفق معطيات الحداثة، ومنظمات حقوق الإنسان؟ وهل استطاع العالم العربي، أن يقتنع مؤخرا بحقوق المرأة التي شرفها بها الإسلام، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام؟ أتكون هذه الدراسات والمقاربات التي تمر على بدايات وبواكير جهود المرأة في العصر الحديث، بمثل محاولة اكتشاف لأنثى لم تتعلم القراءة والكتابة إلا حديثا؟ واحتفظت بذاكرة الحكي والسرد الشفاهي ليالي “ألف ليلة وليلة”، وشهرزاد الحكاية؟ على حد قول د. عبدالله الغذامي الذي اعتنى كثيرا بالكتابة النسائية، والأدب النسائي، فكان ثمرة هذا الاعتناء بعض الدراسات الأكاديمية، من مثل : “المرأة واللغة”، “تأنيث القصيدة والقارئ المختلف”، داخلا في دهاليز اللغة، وتفاصيل ضمائر الأنوثة والذكورة، لينسب الكتابة للرجل، والحكي للمرأة، فكتابة الرجل هي القاعدة، والمرأة هي الاستثناء؟ وهو المطلق الأبدي، والمرأة الفرع؟
وتخلص الباحثة في كتابها إلى إن مصطلح الأدب النسائي، سينقضي مع انقضاء العنف والتغييب لدور المرأة في المجتمع والحياة السياسية، وانتهاء الظروف الاجتماعية التي تحيط المرأة، معرقلة إياها من المضي بسيرورة الحياة ، باتحاد الرجل والمرأة في تشكيل الفكر الإنساني البناء.
إننا يمكنا القول بأن قضية المرأة تمثل ملمحا رئيسا في اشتغالات الدكتورة سعاد العنزي، وقد سعت إلى إبرازها وكشفها عبر استنطاقٍ عميقٍ للعديد من الأعمال الأدبية والتجارب النقدية والحياتية لكمٍّ كبيرٍ من الكتاب والنقاد، على المستويين العربي والعالمي، فاستطاعت تقديم منجز ثقافي جدير بالدراسة والاحتفاء.