تنتمي رواية قطن أسود إلى المدرسة الواقعية، وتعالج عددا من القضايا الاجتماعية، منها الصعوبات التي يواجهها مزارعو الأغوار، والمشكلات التي يتعرضون لها من فقر وغش وسرقة وغيرها، وقد تنبهتُ خلال قراءتي الرواية أنها تتخذ منحى الصوفية، وربما عُدَّت الصوفية سبيلهم في مواجهة الصعوبات، والرضى بها في كثير من الأحيان، فالأدب الصوفي يعبر عن تجارب متنوعة تمتزج فيها الأحاديث الأدبية مع الاجتماعية، مع حب الذات الإلهية واللجوء إليها.
تظهر الصوفية بداية في الإهداء الذي قدمه الكاتب “محمد مجدلاوي”، والذي ينقل القارئ مباشرة إلى السرد الروائي، بقوله: “إلى جميع فقراء الأرض الذين قنعوا بما قدر الله لهم واقتربوا منه فحازوا الرضى”؛ إن التعبير المستخدم إضافة إلى اللفظ “فقراء الأرض” يجعل القارئ يخطو أولى خطواته في تتبع مظاهر الصوفية في النص، ليستمر فيما بعد بانتقاء الأحاديث التي تؤكد بأن كل شيء يسير بمشيئة الله، وأن الله لا يضيع عباده.
فمثلا؛ في حديث للمزارع عمران مع زوجته، يقول لها: “توكلي على الله يا عائشة، إن الله لن يخيب أملنا”، وفي حديث آخر، يقول لوالده: “سبحان الله يا أبي، ما كان الله ليضيع عمل عامل يسعى على عياله، وأن الله أحرص على عباده من أنفسهم، وما على الإنسان إلا أن يتوكل على الله حق توكله…”. إن الأحاديث التي تدور بين عمران وبين من حوله، وفي بعض الأحيان الحديث بينه وبين نفسه، تشير إلى تمثله وجود الخالق أمامه في كل وقت وحين، وهذه أولى مظاهر الصوفية الموجودة في نص الرواية، والمنتقاة بعناية.
أما المظهر الثاني، فهو ممتد من المظهر الأول، ألا وهو القصص التي يتناولها عمران، والقصص التي تظهر في النص، ومثال ذلك، قوله: “إن الذي أنقذ يونس من بطن الحوت، ونجّى موسى من الغم ،وأخرج يوسف من السجن، وجعل له مكانا عاليا، لقادر أن يحمي عبده الضعيف من الفاقة والجوع، ويلبي حاجاته إن لجأ إليه بقلب نقيّ” فيستشهد بقصص الأنبياء التي تنير الأمل في قلوب المستضعفين ليستشعروا أن الله لا يتركهم أبدا مهما اشتدت المحن.
ومن القصص التي وردت في النص وتجد فيها مظاهر الصوفية، قصة ضياع مبلغ ثلاثين دينارا من والد عمران، وهو مبلغ لا يعد زهيدا بالنسبة لمزارع يجمعه قرشا قرشا لينثر بذور الأرض، وإن الله لم يخيبه ووجده على الرغم من مرور أيام على فقدانه. وفي قصة أخرى تشير إلى رزق الله لعباده، وهي قصة تعرض لها والد عمران عن شُحَّ الماء عن الزرع، وكيف أن إرادة المولى جعلت الماء يتسرب بطريقة ما إلى المزروعات، وحظَوا حينها بزرع وفير بعدما فقدوا الأمل من سقاية المزروعات.
كل القصص تشير إلى دلالة واحدة وهي أن الخالق لا يضيّع عباده الذين يحتاجونه ويصدقونه حق صدقه، وأن الكروب لا تدوم بوجود الخالق؛ فالله دائما ناصرهم ومعينهم ما داموا يتوكلون عليه.
أما المظهر الثالث من مظاهر الصوفية، هو ذكره للأديب جبران خليل جبران، وقد ذكر روايته الأجنحة المتكسرة، وأفرد حديثا عن قصيدة المواكب التي كانت سبيلا في حديثه عن تأثر جبران بالصوفية وتعلقه بالطبيعة التي هي مظهر من مظاهر الصوفية، فيقول “إن الطبيعة الساحرة التي نشأ فيها في مدينة بشرى ووادي قاديشا، جعلت منه شاعرا رومانسيا ذا نزعة صوفية، يمجد الطبيعة، والإنسان بصورته النقية ورؤاه السامية”، وهنا نلمح عاملا مشتركا بين جبران وعمران بطل الرواية، فكلاهما يحب الطبيعة ويذوب فيها ويمتزج معها، فها هو عمران، يتأمل الطبيعة، ويضيع فيها، فيقول: “هناك كنت أشتم عبق الأرض في أول زخة مطر حين يعانق التراب الملتاع شوقا”.
ويقول:” الطبيعة وحدها من تعيد إليك توازنك إذا ما أثقلت عليك الحياة”، إن التأمل في الطبيعة ينقلنا إلى مظهر آخر من مظاهر الصوفية، وهو الانتقال من التفكر في الطبيعة، إلى التفكر في الإنسان والتعمق في ذاته، وهذا يظهر لدى عمران، حين يختلي بنفسه ويتأمل الطبيعة، فيجد نفسه متأملا ذاته، التي تنقله بلا شك إلى عظمة الخالق، وهذا ما تجده في قوله: ” أن تكون وحدك في الجبل في مكان مفتوح على البهاء، تحت سماء واسعة يتيح لك فرصة أن تكون وحيدا مع نفسك، تسمع صوت قلبك، وتكون أكثر قربا من الله، وأنت تتأمل جميل خلقه، يا للمتعة! هذا ما ترتجيه نفسي”. إن مطلب الصوفي هو الاختلاء في الذات والانفراد مع الطبيعة والوصول إلى الإله.
وفي موقع آخر يتأمل الطبيعة ويجد فيها روحه، فيقول” هنا بوسعك أن ترى كل شيء حتى قباب روحك، وتسمع صوت قلبك، وتلمس يد الله في كل أثر”، هذا الانتقال المتدرج للصوفي نلمحه بشدة في الرواية حين يختلي البطل بنفسه مع الطبيعة، فينتقل تدريجيا من حب الطبيعة والتأمل فيها إلى حب الذات واستشعاره وجود الروح، ومنها ينتقل إلى الاستشعار بوجود الإله الحقيقي، وهو مظهر بارز من مظاهر الصوفية الذي يصل في نهاية المطاف إلى التوحد مع الله.
وفي موطن آخر يعبر عما ترتجيه نفسه من الحياة بتعبير صوفي خالص، فيقول ” كل ما أطلبه أن أموت وأنا مع الله، وقت ذلك لا أظنني سأندم على ما فاتني من الحياة، أحتاج إلى وحدي، لأكون قريبا من نفسي، ولا يقترب المرء من نفسه إلا في وحدته يصغي إلى بوحِها ويقرأ مكنوناتها فيقودها إلى ما يدخلها في ظل الله”.
ويؤكد النص على صوفيته، فيورد نصا شعريا صوفيا يستمع له عمران ويطرب لسماعه:
” أبدا تحن إليكمُ الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وا رحمة للعاشقين تكلفوا
ستر المحبة والهوى فضاح
بالسِّر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء العاشقين تباح”
هذه القصيدة تلقيها إحدى شخصيات النص الروائي، وهو شخص زاهد عانى الكثير من الآلام والمآسي، وهي شخصية تزيد من روحانية النص الروائي وقد كان لها دور بارز وهي شخصية عليان، الرجل الذي يحمل الناي ويتأمل الطبيعة وينشد الأشعار الصوفية، ويدعو للتفكر في حقيقة الإنسان التي أوجدها الله، وهو مع مروره بأزمات عدة، إلا أنه يسعى ليكون كما خلقه الله صافيا يسعى في حاجة الناس، ويتقرب من الله لينال الرضى.
ومن مظاهر الصوفية في الرواية التمسك بالأخلاق الكريمة، ونبذ الأخلاق السيئة؛ ففي النص حرص شديد على أداء الأمانة لصاحبها على الرغم من مرور السنين، فهذا عليان يحرص على رد أمانة والده المتوفى إلى صاحبها، وعلى الرغم من معرفته بوفاته، إلا أنه بحث عن أحد أبنائه ليرد إليه الأمانة، وهذا الابن قام بالتصرف فيها للفقراء لأنه علم بأن والده سامح فيها، فوجد أنها ليست من حقه.
وفي موطن آخر ينبذ عمران السرقة، ويتألم لسرقته، ليس لأنه فقد أمواله، إنما لأن الشخص السارق يتحلى بأخلاق سيئة، كما أنه نبذ الغش الذي تعرض له من متهعد البناء، وكان وقعه مؤلما على نفسه”.. كان ذلك الأمر موجعا جدا على نفسه، أحس بطعم الخيانة المُرة، من ذلك الوغد الذي لم يتقِ الله فيما اؤتمن عليه” .
نهاية يمكن القول بأن المظاهر الصوفية في النص جاءت بأشكال عدة، منها: الأحاديث والألفاظ والعبارات، القصص، التأمل في الطبيعة، التأمل في الإنسان، التأمل في الوجود، تمجيد القيم النبيلة.
في المحصلة نجد أن الرواية يغلب عليها طابع الصوفية بامتياز، وقد أحسن الكاتب محمد مجدلاوي المولود عام 1962م في اختيار اللغة والشخصيات لتتناغم فيما بينها وتشكل نصا اجتماعيا صوفيا، على الرغم من أن الرواية تعدُّ التجربة الأولى لصاحبها..