المحور الأول: الحضارة واللغة، (تِك-تكامل):
العلاقة بين اللغة والحضارة علاقة تلازمية أزلية، ففي البدء كانت الكلمة، والكلمة هي اللبِنة الأولى في منظومة اللغة.
وأيًا تكن هذه اللغة الأولى التي تكلمها الإنسان، فإن نشأة الحضارة ارتبط بتدرج الأنماط اللغوية بمستوياتها الرئيسية على مدى الأزمان المتعاقبة، أي ترسيسات النظام اللساني اللغوي: الصوت والصرف والنحو والدلالة، وتشابكاتها الذهنية مع وعي العقل البشري.
يقال: إن الإنسان أول ما بدأ يتعلم النطق بدأ يحاكي أصوات الطبيعة من حوله، ثم تحولت هذه الأصوات المنطوقة إلى رموز وحروف مكتوبة عبر قرون من الزمن، بفعل احتياجات التواصل والاتصال؛ فلذلك يعُدّ علماء اللغة أيَّةَ لغةٍ عامَّةٍ أصواتًا في الأصل، كما قال ذلك أبو الفتح عثمان بن جني (ت ٣٩٢ هجري) في كتابه الخصائص حيث قال: إنَّ “اللغة أصوات يعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم”. هذا قبل أن يأتي الفلاسفة وعلماء الاجتماع ومدونو التاريخ ليقرروا أن اللغة هي سلسلة من العلاقات التواصلية بين أفراد المجتمع الواحد أو بين أًسَرٍ ومجتمعاتٍ بشريَّة تتقاسم المحيط الجغرافي، والإرث التاريخي، واللحظات الجيو – سياسية، والبيئة.
والذي يراه الباحث أن اللغة البشرية الأولى كانت موحَّدة، نظرًا لضرورة سعي الإنسان في الأرض ومشيه في مناكبها ما أدى إلى أن تفرعت هذه اللغة الموحَّدة فيما بعد إلى لغات، لكنها تعود – في الأغلب – إلى جذور واحدة.
إنها علاقة نسق تراتبي بين آلات التقانة وأشكال العبارة.. بين العتاد التكنولوجي والبرمجيات اللغوية.
وكمثالٍ على ذلك التكوُّن البدائي الأوَّلي للُّغة، يقول علماء اللغة: إنَّ “العرب تشتق بعض الكلام من بعض”، وهذه القاعدة ملحوظة وملموسة في معظم التسميات، ويبدو أن للبيئة العربية الدور الكبير في ذلك، فمثلاً: تسمية (الشجرة) مأخوذة من مادة (شجرَ) التي تشير إلى التفرق، والمشاجرة إذا تأملنا توحي بالمعنى، ومن ذلك الآية الكريمة: “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك في ما شجر بينهم”، وتقول العرب: الخصومة شجرت بني فلان، أي فرَّقتهم وشعَّبتهم وشرذَمَتهم.. والشجرة في نظرهم جذع صاعد استطال ونما من الأرض ليتشعَّب إلى أغصان وتفريعات متفرِّقة الاتِّجاهات.
كذلك كانوا يأخذون جذع الشجرة وينقرونه من الوسط حتى يصير كالقارب، وكانوا يعبِّرون عن هذه العملية أو الحركة بقولهم: (نسفنُ) جذوع الشجر، في دلالة على نقرها من وسطها وصناعة ما يشبه القارب منها يستخدمونه للركوب في البحر، فانسحبت التسمية فيما بعد على (السفينة).
ومثل ذلك كلمة (بيت) المأخوذة من المبيت وهو النوم والاستقرار، وأصل الكلمة ماخوذ من نحو قولهم: باتت الشوكة في قدم فلان، أي دخلت واستقرت وتمكَّنَت، ولك أن تتخيَّل بدويًّا يسير في الصحراء وتقع قدمه على الشوك مرَّةً بعد أخرى في أثناء تنقله بحثًا عن الكلأ، حتى إذا استقر به المقام وبنى سكنًا أوَّليًّا سمَّاه باسمِ عاداتِهِ النُّطقيَّة المستوحاة من واقعِ بيئته.
وهكذا لك أن تتخيَّله يرى نارًا في الليل فيقول: آنَستُ نارًا، أي رأيتها، ويجنُّ عليه الليل إذا لم يرَ نارًا ولا نُورًا، فيسمي ما خفي عنه من العوالم (الجِنّ) أو (الجانّ)، فكانت تسمية (الإنس) لما يُرى ويُشاهَد، وتسمية (الجن) لما يخفى ويغيب ولا يبدو ظاهرًا، كالجن الذين سُمُّوا هكذا بناء على الاعتقاد بكونهم عالمًا مستترًا لا يراهم الإنس، والجنون الذي اشتُقت تسميته من معنى غياب العقل واستتاره، ونحوهما.
المحور الثاني: المستوى الحضاري المعاصر واللُّغة العربية الوظيفية:
كثيرًا ما يتم الحديث عن جماليات اللغة العربية وربطها بالأدب بعيدًا عن الإشارة إلى وظيفيَّتها في المجالات العلمية والميادين الحضارية، وهذا من أخطاء السردية العربية المطولة المستندة إلى ظاهر القول والبهرجة اللفظية، فعلى الرغم من أن العربية لغة جميلة – بلا شك – وهي لغة الأنساق الإعجازية الكبرى، قرآنًا وبلاغةً وأدبًا وثقافةً، إلَّا أنها – إلى جانب ذلك – لغة العلوم والمعارف الحضارية، ولها حضورها العالمي.
لقد اقترح العالم اللغوي نعوم تشومسكي، اليوم، نحوًا كليًّا ولغةً عالمية بحُكم أن العالم قد أصبح قرية واحدة، ونحن مع هذا المقترح شريطة دمج جماليات العربية بمهاراتها، نحن مع فكرة لغة مشتركة بين بني الإنسان، لسبب وجيه في نظرنا، هو أن المشاعر والأحاسيس الإنسانية مشتركة، فأنت لا تضحك بالعربي وتضحك بالإنجليزي، ولا تحزن بالعربي وتحزن بالفرنسي، على سبيل المثال، وهكذا.. فلا إشكال في توحيد بعض الصيغ الاصطلاحية وإخضاعها للموازين والمقاييس العربية بما لا يلغي هويتنا، ولعل هذه فرصة للتعريف بالعربية على المستوى الدولي، والترويج لاستخدامها ضمن عوالم الاستخدام اللغوي المشترك، حتى لا تظل حبيسة المكاتب والأدراج ورهينة ذكرى بيوت الشَّعر وبيت القصيد، ولا سيما وأن الدراسات التأثيلية المكتشفة في علم الفيلولوجي أكدت ارتباط معظم حضارات العالم بالمنتج اللغوي والمعرفي في المنطقة العربية.
خاتمة:
نخرج بجملة نتائج، تتمحور في مجملها حول ضرورة إيلاء الجانب الوظيفي في اللغة العربية اهتمامًا كافيًا، وربطه بالأنساق الحضارية وصولاً إلى عولمة العربية، مع تيسير مهاراتها وكفاياتها. ونوصي بالتالي:
١ – برنامج كفاءة في اللغة العربية على غرار البرامج المناظرة، التي منها برنامج التوفل في اللغة الإنجليزية.
٢- معالجة المنتج اللغوي العربي رقميًّا بواسطة برامج الذكاء الاصطناعي الممكنة.
٣- رفد الجامعات والمؤسسات البحثية بالكتب والدراسات اللغوية ذات الاتجاه الوظيفي.
٤- التأهيل والتدريب المدروسان للمتخصصين في مجالات العمل المختلفة لغويًا وثقافيًا على وفق أحدث المناهج.
٥- تعزيز الشراكة المجتمعية، من خلال أنشطة مؤسسات العمل الأكاديمي والثقافي ومنظمات المجتمع المدني.